تُسهم مؤسسة الشارقة للفنون في إنماء الفن المعاصر من خلال مجموعة واسعة من المعارض التي تنتصب في قلب إمارة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى برامج الإقامة الفنية وغيرها من المبادرات. ويُعد بينالي الشارقة، الذي ينعقد مرة كل عامين تحت إشراف هذه المؤسسة، أحد أبرز الأحداث الفنية المعاصرة.
يُعزى التأثير العالمي الواسع الذي صار لهذا البينالي إلى حور القاسمي، رئيسة المؤسسة ومديرتها. فمنذ مشاركتها الأولى في تنظيم الحدث عام 2003، اضطلعت بتوسيع نطاقه بما ضمن الارتقاء به من منصة محلية إلى منصة دولية تحتضن أعمالاً فنية منتقاة حسب الموضوع المطروح في كل دورة.
أمضَت حور القاسمي، التي أسّست أيضًا معهد إفريقيا، حياتها المهنية في العمل على وضع منطقة الشرق الأوسط على الخارطة الفنية، وقد جرى تعيينها في العام الماضي مديرةً فنية لبينالي سيدني المقرّر إقامته في عام 2026.
كما أنها تصدّرت قائمة آرت ريفيو للشخصيات المائة الأكثر تأثيرًا في قطاع الفن المعاصر. بالإضافة إلى ذلك، تشغل القاسمي منصب المديرة الفنية لدورة 2025 من ترينالي آيتشي.
بينالي الشارقة 2025
تحمل الدورة السادسة عشرة من بينالي الشارقة عنوان "رِحالنا"، وتستمر إلى 15 يونيو 2025 على امتداد إمارة الشارقة، في مدينة الشارقة والحمرية والذيد والمدام وكلباء ومواقع أخرى.
وإذ تحشد هذه الدورة إبداعات متنوعة تنضوي تحت ألوية الفنون البصرية والموسيقا والعروض الأدائية والعمارة والأفلام، تضيء على التقاطعات القائمة بين الفن والثقافة والقضايا الاجتماعية. لكن الأمر لا يتوقف هنا، إذ أصبح بينالي الشارقة منصة للتبادل الثقافي والتباحث الفني، لا سيما بين العالم العربي والمجتمع الدولي.
Sebastiano Pellion di Persano
لوحة من سلسلة Carapau in The Deep Abyss التي توثّق بها كاسي نامودا مشاهد عن الأمومة وطبيعة العمل على امتداد ساحل موزمبيق.
تُقيّم هذه الدورة من بينالي الشارقة علياء سواستيكا وأمل خلف وميغان تاماتي كيونيل وناتاشا جينوالا وزينب أوز، وتندرج الأعمال المختارة تحت عنوان مفتوح هو "الرِحال"، يتناول التحولات المتعددة التي تطرأ على الأفراد والجماعات، ومن ضمنها التحولات التكنولوجية والروحية والمجتمعية والخُلقية.
وفي هذا السياق، يضيء موضوع هذه الدورة على الأحمال التي ترافق الأفراد حين السفر أو الهجرة أو المكوث أو النجاة، كما يستكشف الترابط القائم بين الهجرة والذاكرة والقصص العابرة للأجيال وأنماط الموروثات الثقافية.
وفي هذا تقول ناتاشا جينوالا: "يستحدث البينالي حيّزًا يُتيح استيعاب حالة انعدام اليقين التي تعترينا ضمن مساحات لا ننتمي إليها، ويُضيء على طرق التفاعل مع هذه المساحات انطلاقًا من الإرث الثقافي الحاضر أبدًا معنا".
أما حور القاسمي، فتقول: "بالتركيز على موضوع الرِحال، تتيح الدورة السادسة عشرة من بينالي الشارقة مساحة لتصور المستقبل جماعيًا، مع الاعتراف بثقل التاريخ والتجارب المشتركة، وهذا ما يُسهم في الوصل بين السرديات المحلية والسرديات العالمية".
Joe Namy
عمل تركيبي صوتي للفنان جو نعمة بعنوان "نباتات الداب" Dub Plants يضيء على العلاقة التاريخية بين ثقافة الراديو والزراعة.
والحقيقة هي أن إطلاق هذه الدورة تحت عنوان "رحالنا" كان أمرًا متعمدًا..
لأنه يستمدّ من مقاربات القيّمات الخمس لمساءلة المنهجيات القائمة واستحداث منهجيات جديدة تمامًا. فمن خلال تشجيع المنظورات النسويّة من دون حصرها في نطاق النوع الاجتماعي، تُركز علياء سواستيكا على التفاعلات القائمة بين السلطة والكتابة الشعرية والسياسة والمعارف النسائية بالتلازم مع التصورات المستقبلية المنبثقة عن الوسائط التكنولوجية.
أما مقاربة أمل خلف، فتستلهم ممارسات التكهّن باستخدام الأصداف في المجتمعات الساحلية وتوظف المرويات والأغاني والعرافة بوصفها طقوسًا تُعزز التعلم الجماعي والمقاومة خلال الأزمات السياسية والبيئية.
وفيما تنطلق ميغان تاماتي كيونيل في مقاربتها من فن الشعوب الأصلية وتجمع بين الكتابات الشعرية التي تتناول مفاهيم الأرض والمكان والكتابات التي تُضيء على حالة عدم الثبات والقابلية للوقوع في الخطأ والشوق البشري إلى تصور مستقبل جديد، تستعرض ناتاشا جينوالا المواقع الساحلية في المحيط الهندي وآبار المياه في الشارقة بوصفها مستودعات تبوح بذاكرة الأجداد وتَصيغ الأماكن والتجمعات العابرة للأجيال، لا سيما في وجه الدمار والفقد. أما زينب أوز، فتتقصّى تاريخ الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي تحتوينا، خصوصًا الأنظمة التي نشأت استجابةً للتغيرات التكنولوجية والعلمية المتسارعة.
يشتمل برنامج بينالي الشارقة على أنشطة عديدة، منها الإقامات الفنية وورش العمل والتجارب الصوتية والنشر واسع النطاق، كما يستضيف فنانين من السكان الأصليين يُشارك العديد منهم في دورة هذا العام من بينالي البندقية، أمثال رافين تشاكون وإيميلي كام كنغوراي وفاي هيفيشيلد وكانوبا هانسكا لوغر وسكاي هوبينكا.
عند استكشاف الأعمال المعروضة في البينالي، تبرز مجموعة من المواضيع الرئيسة، في مقدمتها الشواغل البيئية والتاريخية والاجتماعية، التي تستند أغلب تأويلاتها إلى مقاربات تعاونية ومتعددة التخصصات.
Darren Rigo
إحدى لوحات راجني بيريرا التي تصوّر شخصيات نسائية هجينة مستوحاة من أساطير جنوب آسيا والكونيّات التخيلية.
المعابر المحيطية والتقارب الإقليمي والاستمرارية الثقافية
يتمثل أحد المواضيع الرئيسة التي تَسبر غورها هذه الدورة من بينالي الشارقة بالوشائج القائمة بين الأرض والماء والاستمرارية الثقافية، وخصوصًا في سياق الجغرافيا الساحلية وتاريخ الملاحة البحرية في إمارة الشارقة.
على سبيل المثال، يُخلّد عمل مريم النعيمي ارتباط منطقة الخليج بالمياه، إذ يُصوّر الطقوس المحلية في المناطق المتأثرة باستصلاح الأراضي.
Motaz Mawid
مجموعة كولاج على الورق بعنوان From Earth & Sky (من الأرض والسماء) للفنانة لورنا سيمبسون.
أما أكينبودي أكينيبي، فيُضيء من خلال مجموعته الفوتوغرافية المستمرة منذ عام 1982، تحت عنوان "البحر لا يجفّ" Sea Never Dry، على الواجهة البحرية للشارقة، ويُحوّل الكورنيش إلى ساحة للتدخلات الحضَرية.
وفيما يستعرض تجمّع "سيرابيس ماريتايم" متعدد التخصصات أعمالاً تجمع بين الفن والتصميم والأزياء وتستلهم المرافق الصناعية في الشارقة، خصوصًا أحواض بناء السفن، توثّق لوحات كاسي نامودا، مشاهد الأمومة وطبيعة العمل على امتداد ساحل موزمبيق بإبراز الأساليب السردية السائدة في البلدان الإفريقية الناطقة بالبرتغالية واستحضار ذاكرة الأجداد.
أما الفنانة ميغان كوب، فقد انتصبت منحوتتها المسمّاة "كينينغارا غويْنيانبا"، أو "موقع صخور المحار"، في حديقة بحيص الجيولوجية، شاهدةً على الحقب الجيولوجية السحيقة وعلى البحر الضحل الذي غطى الشارقة قبل ملايين السنين.
Artist and Studioknxx
عمل تركيبي لجوليان كاي إن إكس إكس بعنوان Daughters at The Rim of The Silver Sea (بنات عند حافة البحر الفضي).
الظلم البيئي ومعارف الشعوب الأصلية
يتناول العديد من الفنانين المشاركين في بينالي الشارقة هذا العام الخراب الناجم عن الاستعمار وانهيار البيئة، وذلك من خلال إعادة تشكيل العلاقات باستحضار معارف الشعوب الأصلية والممارسات القائمة على التعايش الجمعي.
Bilna’es
شملت الإبداعات التي نسقتها أمل خلف في ساحة المريجة أسطوانة فينيل بعنوان "فقط أصوات ترتعش في أجسادنا" لمنصة "بالناقص".
تعالج الأعمال المعروضة مواضيع متعددة منها التدهور البيئي والإرث الاستعماري وقدرة المجتمعات على الصمود في وجه هذه الأزمات، بداية من يوهاني سكارس التي تصيغ مئات التراكيب الزجاجية في محاكاة للأمطار المشعة بهدف التذكير بالتساقطات الإشعاعية الناجمة عن التجارب النووية التي أجرتها بريطانيا في أستراليا خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته.
وفي عمل فني جديد بعنوان "مثل الطوفان" Like a Flood، تتأمل الفنانة أديليتا حسني باي في فشل بُنى تدبير المياه في ليبيا مسلطة الضوء على التداعيات المستمرة للصناعة الاستخراجية إبان الاستعمار الإيطالي، كما تتناول مفهوم التكيّف مع المناخ.
Motaz Mawid
عمل تركيبي بعنوان Gastromancer للفنانة الكويتية الأصل منيرة القادري التي تتبع في إبداعها الطبيعة الهشة للأنظمة البيئية المعاصرة.
تشارك أيضًا الفنانة علياء فريد بعملين يستندان إلى بحثها الطويل حول المجتمعات المحلية القديمة المقيمة بمحاذاة المستنقعات الجنوبية في العراق، والتي طالتها ويلات الحرب والصناعات النفطية.
أما الرّقع الشبيهة بالقمح والمنحوتات الحركيّة التي تحمل توقيع الفنانة ريشام سيد، فتتشابك فيها الممارسات التقليدية السائدة في المطابخ المجتمعية ودورات الحصاد والفلسفة السيخية في خضم أزمة الجوع العالمية وانعدام الأمن الغذائي.
كذلك، تنتقد الفنانة لوانا فيترا نشاط استخراج المعادن من خلال تركيبات فنية تُترجم تجربة نشأتها في إحدى مناطق التعدين في البرازيل وتتخيل مستقبلاً ينعدم فيه استغلال المعادن. وفيما تستخدم الفنانة بيتي آدي أصباغًا طبيعية مصدرها الغابات المهددة في بابوا، تُؤدي المؤلفة الموسيقية سيبتينا لايان مقطوعة رثائية تستجيب للخراب البيئي الذي صوّرته آدي في عملها.
Fatma Belkis
عمل للفنانة فاطمة بلقيس بعنوان Flooring (أرضيات) ضمن المعروضات التي نسّقتها القيّمة زينب أوز.
الأصوات النسائية والمعرفة
تتجلى السرديات المعرفية والميثولوجية والسياسية في أعمال الفنانات من خلال تعبيرات متنوعة في بينالي الشارقة، إذ تستخدم هيلين كازان الأغنية والشعر لاسترداد جوانب من التاريخ النسوي المتصل بحياة المغنية السورية المصرية أسمهان وبوفاتها الغامضة.
وفي السياق نفسه، تقدم فاي هيفيشيلد، وهي فنانة تنحدر من شعب كايناي وتتحدث لغة بلاك فوت، أعمالاً تتقصّى مفاهيم الأرض واللغة والجسد، انطلاقًا من تاريخها الشخصي والثقافي. ومن جهة أخرى، تُضيء راجني بيريرا على شخصيات نسائية هجينة مستوحاة من أساطير جنوب آسيا والكونيّات التخيلية، مجسدة بذلك المستقبل الطليق وتحديات الكوكب الجسيمة.
أما التركيب الفني المبطن الذي شارك به تجمّع "وومن فيستو" Womanifesto، فإنه بمثابة مساحة عابرة للحدود تجمع نساء العالم، ومنهن نساء بلدة المدام في إمارة الشارقة، لمشاركة القصص وبناء جسور التضامن.
التكنولوجيا وتداعياتها المجتمعية
يُركز بعض الفنانين في بينالي الشارقة على التكنولوجيا القديمة والحديثة بهدف استكشاف آثارها الاقتصادية والمجتمعية وتداعياتها على التاريخ العالمي، ومنهم الفنان أكيرا إيكيزو الذي يَبسط رسومًا متحركة ولوحات تَسخر من الحوادث النووية ومن فشل الإنسان في تدبيرها.
أما الفنان براتشايا فينثونغ، فإنه يستكشف مستقبل "الطاقة الخضراء" انطلاقًا من التشكيلات الأثرية ومن تجاربه الرامية إلى تحسين نمو المرجان حول إمارة الشارقة بوساطة الطاقة الشمسية.
في المقابل، يضيء الفنان جو نعمة عبر عمله التركيبي الصوتي "نباتات الداب" Dub Plants المنتصب في ساحة المريجة على العلاقة التاريخية بين ثقافة الراديو والزراعة.
بموازاة ذلك، يستكشف خورخي غونزاليس سانتوس التقنيات البدائية التي تُوظف النار والطين والنباتات لاستحداث تضاريس يَتمثل فيها التعلم المتبادل، فيما يستعيد فرناندو بالما رودريغيز، المهندس الميكانيكي ورائد فن الروبوتات، معارف الأجداد ويتخذها منطَلقًا لمستقبل أكثر استدامة.
Sean Marrs
عمل لكايلي تشان بعنوان Veritas، يتكوّن من 46 خلية فولاذية تمثّل مستودعات للحكايات والذكريات والعواطف.
الممارسات الجماعية والسيرورات التعاونية
يُشدد بينالي الشارقة على التعاون والممارسات الإبداعية الجماعية بوصفها وسيلة لاستقصاء التحولات الذاتية والاضطرابات المجتمعية والموروثات الثقافية.
فتَحت مظلة "مشروع النسيج"، سافرت غونيش تركول ويِيم يِن سوم وسليمة حكيم إلى القرى الجبلية في شرق إندونيسيا لتتبع تاريخ البشرية وتقاليد النسيج، وقد أسفرت هذه الإقامة عن ثلاثة أعمال متفردة.
أما رافين تشاكون، فقد تعاون مع مغنيين بدو لإنشاء تركيب صوتي في قرية المدام، التي كان الهدف من بنائها إيواء الساكنة المحلية. كذلك مجموعة "كونكريت ثريد ريبيرتوار" Concrete Thread Repertoire، التي تضمّ فنانين وباحثين وجماعات مقرها إندونيسيا، على جمع سجل للأنشطة السياسية والأنشطة المُقاوِمة خلال حالات الطوارئ.
أما منصة "بالناقص" متعددة التخصصات، فإنها تعرض أعمالاً تسعى إلى إنتاج نماذج جديدة لتوزيع الموارد، من بينها مشروع لنشر أسطوانات الفينيل ومعرض جماعي يتناول موضوع الديون وعرض موسيقي افتتاحي.
Michael Parekōwhai
منحوتة للفنان مايكل باركوهواي بعنوان "قصة نهر نيوزيلندي"، صيغت على شكل بيانو ضخم من طراز ستاينواي يمكن العزف عليه.
الفن الصوتي بوصفه أسلوبًا للتعبير
يُعد الصوت ركيزة من ركائز بينالي الشارقة ووسيلة تصل بين الاهتمامات الثقافية والبيئة المتنوعة للفنانين، على ما يتجلى في عمل للفنان مايكل باركوهواي بعنوان "قصة نهر نيوزيلندي" He Kōrero Pūrākau mo Te Awanui o Te Motu: Story of a New Zealand river، وهو منحوتة على شكل بيانو ضخم من طراز ستاينواي يمكن العزف عليه وتدعو شتى العازفين لاستنطاق أسرارها.
بالإضافة إلى ذلك، يُسهم الموسيقار وفنان الصوت النيوزيلندي مارا تي كيه في مشروع خاص بأسطوانات الفينيل بالتزامن مع ألبوم "بئر الأجداد: نبضٌ إلى الأرض" The Ancestral Well: Pulse to Terrain الذي أعدّته ناتاشا جينوالا وساراثي كُوار.
أما "منشورات ياز" للقيّمة زينب أوز، فقد ألهمت تركيبًا صوتيًا يستجيب من خلاله الفنانون المشاركون لحضور الأشجار والمياه وأنشطة الري أو غيابها في بستان تمر قديم في الذيد.
تحتفي الدورة السادسة عشرة من بينالي الشارقة بالأصوات والممارسات المتنوعة التي لا تستجيب للسياقات المحلية فحسب، بل للسياقات العالمية أيضًا، من خلال استكشاف عميق وواسع للتداخلات القائمة بين التراث والهوية والمستقبل.