تنطلق تجربة الطعام في مطعم أماس Amass على نحو غير متوقع بعض الشيء حتى في أفضل المطاعم، وإن كان لا ينبغي لذلك أن يشكل مفاجأة. فقبل تقديم الطبق الأول، يكون الزائر قد غامر أصلاً في الذهاب إلى وجهة صناعية غير مصقولة الطابع تمتد عند أطراف كوبنهاغن، وجلس في مبنى قديم كان يشكل فيما مضى حوض سفن ليتناول عشاءه محاطًا بجدران إسمنتية جرداء لا كسوة لها سوى رسومات الغرافيتي الأنيقة. تعكس هذه الفسحة مظهرًا وحشيًا ولكنه مصقول، إذ تلطف حدة طابعها طاولات مشغولة من خشب السنديان المدخن وكراس تتدثر بالجلد. لكنها لا تشبه حقيقة ما ألفه الزائرون في مطعم ذي شهرة عالمية.
يستخدم مات أورلاندو الحديقة الخاصة بمطعم أماس لابتكار أطباق
مثل معجون الميسو المصنوع من الكرنب والخوخ، والمنكه بلب التفاح المجفف وبقايا الشعير.
يعلن النادل أن قائمة التذوق ستبدأ بالخبز، لكن ما يؤتى به إلى المائدة هو زبدية من رقائق كبيرة الحجم منتفخة وإلى جانبها إدام. بالرغم من مظهر هذه الرقائق، إلا أن النادل يؤكد للضيوف أنها قطع من الخبز، أو أنها على الأقل كانت كذلك. فالخبز الذي يعده المطعم يوميًا في مطبخه قد نُقع وهُرس، ومُزج مع نبات تايبوكا النشوي، ثم بُسط وجُفف قبل أن يُقلى ليصير مقرمشًا. لهذه الرقائق طعم لذيذ، ولهذا المسار الكيميائي الغريب بعض الشيء دلالاته.
تشكل بقايا الطعام محصلة يومية في المطاعم. وفي معظم الأماكن، تُفرغ هذه البقايا في حاويات النفايات، أو يُلقى بها وسط أكوام السماد. وفي أفضل الحالات، يجري تحويل الخبز المعد في اليوم نفسه إلى مكعبات من الخبز المحمص. لكن مالك مطعم أماس، الطاهي مات أورلاندو، أخذ على عاتقه مهمة تحقيق ما هو أفضل. بالإضافة إلى السير قدمًا بالمطعم على طريق خفض البصمة الكربونية، والحد من معدل استهلاك المياه، ليتحول المطعم إلى وجهة رائدة في مجال الاستدامة، حث أورلاندو فريق عمله على النظر إلى المنتجات الثانوية للطعام ليس بوصفها فضلات، بل مصدرًا قيمًا للمكونات كفيلاً بشحذ الإبداع. ومن المطبخ الاختباري الذي افتتحه، ليس بهدف ابتكار أطباق جديدة، ولكن لاختراع عمليات طهو مستدامة، أعد العدة لنشر رسالته، ومفادها أنه بالإمكان أيضًا الاستمتاع بمذاق الأطعمة الصديقة للبيئة.
قبل افتتاح مطعم Amass، شق أورلاندو، الذي ولد وترعرع في كاليفورنيا، طريقه عبر عدد من أفضل المطابخ في العالم، فعمل لبعض الوقت في مطاعم بير سي Per Se، ولو برناردان Le Bernardin، وفات داك Fat Duck، قبل أن يتولى أخيرًا منصب كبير الطهاة في مطعم نوما Noma بكوبنهاغن. في عام 2013، انطلق أورلاندو في مغامرته الخاصة، فافتتح مطعم أماس في مكان بقي عمومًا على حاله منذ أغلق حوض السفن برومايستر آند واين أبوابه سنة 1996. صحيح أن أورلاندو نشأ على حب المدينة، إلا أنه كان يتوق إلى تقديم طعام أكثر جرأة وثراء مما ينطوي عليه المطبخ الأوروبي الشمالي الحديث المهيمن على المشهد. لم ينطلق الطاهي بداية في مشروعه بهدف ابتكار ثقافة تُعنى بالاستدامة والحفاظ على البيئة. وفي هذا يقول: «لا شك في أننا افتتحنا أماس بعقلية تشابه ما هو عليه الحال في المطاعم الأخرى.» لكن هذه المقاربة سرعان ما تغيرت بعد وقت قصير.
يعتمد أورلاندو في ابتكاراته على الأطعمة الفاخرة مثل البط والهليون الأبيض بالإضافة إلى مكونات غامضة تشمل قشور الفول الأخضر.
بعد انقضاء ستة أشهر، أقفل أورلاندو أبواب أماس لفترة استراحة شتوية قصيرة، وأعطى نفسه فرصة للابتعاد عن متاعب العمل اليومية. أدرك آنذاك أنه يريد لمطعم Amass أن يتمايز بوصفه أكثر من وجهة تقدم وجبة طعام راقية. كان يرغب في أن يجعل منه مطعمًا فاخرًا مستدامًا. وبحلول نهاية العطلة، أعاد جمع فريق عمله وتحدى أعضاءه لتغيير أساليبهم. هل كان بمقدورهم الحد من فضلات الطعام، والبصمة الكربونية، واستهلاك المياه، بموازاة الاستمرار في تقديم وجبات رفيعة المستوى؟
تمثلت الصعوبة الأولى في فائض رواسب القهوة المطحونة. وفي هذا يقول أورلاندو: «توصلنا إلى حقيقة أصابتنا بالدهشة.» لقد أدرك فريقه أنه لا يستخدم سوى ما نسبته %1 من المغذيات حتى وإن قام بإعداد القهوة من كامل محصول الحبيبات الذي يبتاعه. يستطرد أورلاندو قائلاً: «كنا نرمي ما نسبته %99 من الحبيبات التي أنبتت ثم نُقلت من إفريقيا أو أمريكا الشمالية، وحُمصت ونقلت مجددًا وصولاً إلينا لاستخدامها في إعداد القهوة.»
في زاوية من مطبخ المطعم، انصب اهتمام أورلاندو والطهاة الذين يعملون معه على تحويل رواسب القهوة إلى مكون لذيذ بما يكفي لاستخدامه في أطباق جديدة. حولوا رواسب القهوة إلى بسكويت وكعك مقرمش، وطحنوه ليصير دقيقًا يُستخدم في الخبز، وقاموا بتخميره مثل معجون الميسو، وابتكروا له استخدامات مثيرة أخرى.
يقول أورلاندو: «ابتكرنا معجون ميسو من مزيج الخزامى، والفاصولياء السوداء، والقهوة. كان ابتكارًا أخذ مني كل مأخذ. كانت رواسب القهوة هي نقطة الانطلاق. لقد أظهرت لنا الإمكانات التي يتيحها التأمل في منتج يتغاضى عنه الجميع بوصفه يفتقر إلى أي قيمة، ثم إضافة قيمة ما إليه من خلال استكشاف مختلف السبل المتاحة لمعالجته.»
انضوى مسار إعادة التفكير في الفضلات ضمن هدف أوسع نطاقًا لتحقيق الاستدامة في المطعم. منذ عام 2015، دخل Amass بداية في شراكة مع منظمة Zero Foodprint في سان فرانسيسكو، ثم مع جامعة كوبنهاغن بغية تحليل البصمة الكربونية الإجمالية للمطعم. وقد مهدت النتائج الطريق أمام أورلاندو وفريق عمله للمضي قدمًا.
أدركوا مثلاً من خلال التحاليل أن البصمة الكربونية للحم الغنم أعلى بكثير من تلك الناجمة عن لحم البقر، لأن الحملان تنتج كثيرًا من الغازات رغم صغر حجمها، فتوقفوا عن تقديمه للزبائن. فضلاً عن ذلك، لم يستخدم المطعم على مدى سنة كاملة سوى اثنتين وثمانين علبة من القشدة المخفوقة التي يدخل أكسيد النتروجين في تصنيعها (يستهلك بعض المطاعم خمسين علبة مماثلة في الأسبوع الواحد)، لكن هذه العلب كانت مسؤولة عن نسبة %1 من مجموع الانبعاثات الكربونية التي يتسبب فيها المطعم، ما حتم الإقلاع أيضًا عن استخدامها.
كما يتسبب صيد السمك باستخدام شباك الجر من الحجم الصناعي في إنتاج انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تفوق عشرة أضعاف ما هي عليه في حالة الصيد بالصنارة، وذلك بسبب الوقود الضروري لجر الشباك عبر مياه البحر.
الإوز البري وبطارخ سمك السندر.
لذا حرص مطعم Amass على التزود بالأسماك التي يجري صيدها باستخدام أساليب ذات تأثير أقل ضررًا، مثل الصيد بالصنارة أو بالشباك الخيشومية أو المصائد الشبكية التي تلتقط عددًا أقل من الكائنات البحرية غير المنشودة. ويحد المطعم من معدل استهلاكه للمياه عبر جمع مختلف القوارير شبه الممتلئة عن الموائد ثم غلي المياه واستخدامها لري الحديقة أو تنظيف الأرضيات في ختام الأمسية.
ينتج أي مطعم راق ما يعادل خمسة وعشرين كيلوغرامًا من ثاني أكسيد الكربون لكل ضيف. أما في أماس، فأتاحت جهود فريق العمل خفض المعدل الوسطي من ثمانية عشر كيلوغرامًا لكل ضيف إلى اثني عشر كيلوغرامًا. حظي المطعم بسبب مساعيه الحثيثة والنتائج الملموسة التي حققها بالاحترام في أوساط نظرائه.
يقول الطاهي التنفيذي آندي دوبرافا من مطعم راستيك كانيون Rustic Canyon الحائز نجمة ميشلان، والذي يركز على تقديم أطباق تُعد من مكونات طازجة يؤتى بها مباشرة من المزارع المحلية في سانتا مونيكا بكاليفورنيا: «سيقومون حتى بأمر بسيط. على سبيل المثال، أقلعوا مؤخرًا عن استخدام الأغلفة البلاستيكية، ورأينا فجأة المطاعم الأخرى كافة تحذو حذوهم. إن مطعم Amass يحدد التوجه السائد عندما يتعلق الأمر بالاستدامة. بل إنه من أوائل المطاعم التي رأيتها تتبنى مبادئ عدم إنتاج أي نفايات، ولكن ليس على سبيل مواكبة توجه رائج. إنهم في هذا المطعم لا يبددون أي شيء، وهذا أمر ملهم لأن تحقيقه ليس سهلاً.»
ساهمت الأشواط التي قطعها فريق العمل لدى أماس في إيقاد حماسة أورلاندو الذي خصص مساحة لمطبخ اختباري أتاح لكيم وايندورب، مدير الأبحاث والتطوير في المطعم، القيام بتجارب على بقايا الطعام وتطوير مسارات أكثر استدامة للمطعم وغيره. وقد جذب هذا الالتزام اهتمام مخبز Jalm&B، في كوبنهاغن، الذي كان يأمل في استخدام الخبز القديم لأغراض أخرى غير إعداد المكعبات المحمصة.
يقول مارتن ماركو هانسن، المدير التسويقي للمخبز: «نحن نحتل موقعًا وسيطًا بين مخبز محلي صغير وشركة إنتاج صناعية. فقدراتنا تفوق إمكانات مخبز صغير، لكن حجم نشاطنا ليس كبيرًا إلى الحد الذي يجعلنا نتخوف من هذه المشاريع الإبداعية. كما أن الاستدامة تعني من منظورنا استخدام عدد ضئيل من المكونات وليس هذه المواد المضافة كلها. كان واضحًا لنا أن هذه أيضًا غاية فريق العمل في مطعم أماس.»
لا شيء تقريبا ينتهي إلى حاويات النفايات في مطبخ أماس، فالخبز يتحول إلى مثلجات، وعشبة عصا الراعي اليابانية تقدم مع الأخطبوط المشوي.
تواصل هانسن، الذي يمتلك خبرة طاه أيضًا، مع أورلاندو ووايندورب للعمل معًا. ناقش الثلاثة عددًا من الأفكار فيما كانوا يشربون القهوة، لكن أيًا منها لم يبدُ صائبًا. ثم سأل أورلاندو: «كم من الخبز تنتجون يوميًا وتعجزون عن بيعه فتضطرون إلى التخلص منه؟». تبين أن المخبز غالبًا ما ينتج أرغفة من الخبز لا تتسع في الأكياس بسبب الشوائب في شكلها، أو لا تتخمر كما يجب، فيعجز عن بيعها. توافق هانسن مع الرجلين على تسليم بعض أرغفة الخبز القديمة إلى المطبخ الاختباري لاستكشاف ما يمكن لمطعم Amass إعداده باستخدام هذا المكون.
استخدم أورلاند ووايندورب هذا الخبز في إعداد الحلوى. فإذ وجدا الإلهام لدى مطعم برودن آند بيلد Broaden & Build، غمسا الخبز في الماء ثم قاما بتسخينه إلى الحد الذي يجعل النشويات فيه تتفكك وتتحول إلى سكر سائل. قاما بعد ذلك بتخفيف هذا السائل السكري، وأضافا إليه القليل من الحليب ثم حولاه إلى مثلجات قد يظن المرء، إن لم يخبره أحدهم بالحقيقة، أنها منكهة بالعسل بالرغم من أنها لا تشتمل على أي سكريات مضافة.
«يعد أماس من أوائل المطاعم التي رأيتها تتبنى مبادئ عدم إنتاج أي نفايات،
ولكن ليس على سبيل مواكبة توجه رائج. إنهم في هذا المطعم لا يبددون أي شيء، وهذا أمر ملهم لأن تحقيقه ليس سهلاً»
لم يكن هانسن يتوقع منهما إعداد المثلجات، لكن المفاجأة كانت سارة. وفي هذا يقول: «كنت آمل تذوق طعم الخبز، وقد تحقق لي ذلك. فللمثلجات مذاق لذيذ يستحضر طعم الشعير مع قليل من الملح، ويمكن للمرء أن يتذوق فيها أيضًا طعم الحبوب.» أثارت المثلجات أيضًا حماسة فرق العمل لدى المخبز لأنها تجسد منتجًا أعيد تدويره إلى ابتكار أعلى قيمة، وتشكل في الوقت نفسه سلعة مفضلة لدى كثير من الناس وتدوم لوقت أطول، ما يجعلها تلقى استحسان المستهلك العادي. يقول هانسن: «اختبرنا المثلجات في دورة عام 2019 من مهرجان الطهو والأطعمة في كوبنهاغن، وكانت ردود الفعل رائعة.»
تواصل المخبز مع شركة إيرما Irma، التي تشكل رديفًا في كوبنهاغن لشركة الأغذية الصحية Whole Foods. يقول هانسن: «لما نتوصل إلى أي اتفاق بعد، لكن الشركة حريصة على التعاون معنا. تواصلنا أيضًا مع مصنع منتج للمثلجات للبحث في إمكانية التوسع في هذا المشروع.»
شكلت المثلجات نقطة تحول لدى أورلاندو الذي يقول: «تبادلتُ وكيم النظرات وسألنا في الوقت نفسه تقريبا: أي تأثير سنحقق إذا ما تعاونا مع مزيد من كبار المنتجين الصناعيين؟». كان بمقدور الثنائي أن يرصد شركة ضخمة تنشط في قطاع الأغذية، ويحدد مصدرًا مستمرًا للنفايات لديها، ثم يحوله إلى منتج جديد يمكن بيعه.
قشور الطماطم المجففة تستخدم منكها في الصلصات، والفراولة الخضراء تخلل.
يقول أورلاندو: «ما إن يبدأ الحديث مع هذه الشركات الأكبر حجمًا عن الشؤون المالية، حتى تتأهب الآذان للاستماع. لكني لا أبالي بكون الشركة مناصرة للطبيعة أو ناشطة في مجال الإنتاج الصناعي على نطاق واسع. لا أكترث لطبيعة نواياها طالما أنها تتعاون معنا وتقوم بمسعى يخلف تأثيرًا إيجابيًا في البيئة. نحتاج أحيانًا إلى استغلال النزعة المادية لدى الأفراد للمضي قدمًا على طريق تحقيق أهدافنا.»
يعود هذا التوجه بأورلاندو وفريق عمله إلى حبوب القهوة. فالتجارب الأخيرة للمطبخ الاختباري التابع لمطعم Amass تأتي نزولاً عند طلب الحكومة الدنماركية (وشركات أغذية أخرى) استخراج أي بروتينات يُحتمل أنها بقيت عالقة في الرواسب.
يقول أورلاندو: «نعمل جاهدين على إتقان مهمة إعداد قطع بسكويت نستبدل فيها رواسب القهوة المطحونة بالدقيق. توصلنا إلى التقنية المناسبة لتحقيق ذلك، والمذاق المنشود بات متوافرًا، لكن قوام البسكويت لا يزال مريعًا. نجحنا في ثلثي المسار، الأمر الذي يُعد كافيًا للاستمرار في المحاولة.» يواصل الطهاة إذًا ابتكار أطعمة يُعاد تدويرها من منتجات ثانوية كانوا يتخلصون منها سابقًا، ويواظبون على اختبارها وتذوقها. وإذا ما نجحوا في مساعيهم، فإنهم لن يقدموا أطعمة شهية فحسب، بل سيحثون الناس أيضًا على تبني منظور فكري أكثر استدامة حيث «المنتجات الثانوية ليست فضلات طعام بل طعام يجري تبذيره» على ما يقول أورلاندو لفريق عمله.