في شهر يونيو حزيران الفائت، وفي أعقاب الحظر الذي فرضته جائحة كورونا، أعاد الطاهي دانيال هام افتتاح مطعمه الشهير إيليفن ماديسون بارك Eleven Madison Park.
لكن المطعم الحائز ثلاث نجوم ميشلان كان هذه المرة مختلفًا. فقد غابت عن موائده الأطباق التي طبعت مسيرة هام المهنية، على غرار طبق البط المنكّه بالعسل والخزامى، الذي أتاح له موقع الصدارة على قائمة أفضل 50 مطعمًا في العالم لسنة 2017.
يقول هام: "بعد ما خبرناه العام الفائت، كان جليًا أننا لن نستطيع افتتاح المطعم نفسه. أدركنا أن التغيير لم يطل العالم من حولنا فحسب. نحن أيضًا تغيّرنا".
يشير الطاهي إلى أن المطعم لم يكن يعتمد طريقة مستدامة بيئيًا على مستوى توفير مصادر البروتين الحيوانية وتقديمها، لذا قرر إقصاء اللحوم ومنتجات الحليب عن مطبخه. تزخر قائمة الطعام الذي يقدمه اليوم بأطباق مثل بذور التونبوري (بذور مجففة مصدرها شجرة كوشيا اليابانية) التي تُطهى مع الأعشاب البحرية وتُقدّم في زبدية فضية تستقر فوق طبقة من الثلج، على طريقة تقديم الكافيار، وإلى جانبها أوراق من الخس ملئت بهريسة البازلاء والميزو وقشدة اللوز والليمون، ليسكب الزوّار مقدارًا قليلاً منها فوق البذور الشبيهة بالبطارخ.
يقول هام: "أتاح لنا ذلك كله الشعور بالثقة لإعادة ابتكار مفهوم الطعام الفاخر. نشعر بأن هذه مجازفة تستحق العناء".
Jordan Wise
فطيرة المحار الملزمي وبطارخ قنفذ البحر والليمون في مطعم أتولييه كرين.
فيما يرى الطاهي الشهير منفعة في تغيير توجّهاته، ينظر آخرون إلى قراره من حيث كونه مخاطرة غير مسبوقة. فغالبًا ما تُصوّر المطاعم التي لا تقدم منتجات حيوانية على أنها مملة، ويجري التغاضي عنها في سياق منح الجوائز، بالرغم من تزايد الطلب على المطبخ النباتي والأطباق المعدّة من مكوّنات غير مكررة أو معالجة صناعيًا. فقائمة المطاعم المئة والخمس والثلاثين الحائزة ثلاث نجوم ميشلان في العالم لا تضم سوى مطعم نباتي واحد، فيما اقتصر عدد المطاعم النباتية التي حازت نجمة ميشلان واحدة على ثلاث وجهات فقط. لا تنفك اللحوم، لا سيّما الأصناف الفاخرة منها، مثل كبد الإوز ولحم كوبي البقري (صنف من لحوم واغو اليابانية)، تُعد رمزًا عالميًا للرفاهية. لكن هذا ليس حال الجزر مثلاً.
Evan Sung
مجموعة من الأطباق النباتية تشمل الفلفل المقلي مع أوراق السلق، على قائمة الطعام التي أعاد دانيال هام ابتكارها في مطعمه إيليفن ماديسون بارك.
تقول الطاهية أماندا كوهين، من مطعم ديرت كاندي Dirt Candy النباتي الرائد في لويير إيست سايد بمدينة نيويورك: "لا يزال بعض الأفراد يميلون إلى الاستهلاك اللافت للأنظار، ويُفتنون بالمطاعم التي تستخدم مكوّنات باهظة الثمن. فتجربة الطعام من منظورهم وسيلة لاستعراض مكانتهم الاجتماعية، فيما تبدو الخضراوات في عالمنا هذا أقرب إلى طعام للطبقة الدنيا. إن صنف الخضار الوحيد الذي يكترثون له هو الكمأة".
لا شك في أن ثمة طهاة سبقوا دانيال هام إلى هذه الخطوة. في عام 2017، توقفت دومينيك كرين في سان فرانسيسكو عن تقديم اللحوم في مطعمها الرئيس أتولييه كرين Atelier Crenn، وحازت سنة 2019 ثلاث نجوم ميشلان. أما في عام 2020، وعندما ألغي برنامج تقديم هذه الجوائز، فقد صنفها دليل ميشلان ضمن مبادرته للنجوم الخضراء Green Stars التي تسلط الضوء على طهاة يلتزمون مبادئ الاستدامة في مقاربتهم للطهو.
Evan Sung
طبق Tower of Terroir الذي يشتمل على أزهار أبو خنجر الصالحة للأكل في مطعم ديرت كاندي.
فضلاً عن ذلك، نشهد اليوم الاستعداد لافتتاح (أو إعادة افتتاح) العديد من المطاعم الفاخرة التي لا تقدّم أي منتجات حيوانية، الأمر الذي يشير إلى تغيير في أولويات الطهاة في المطاعم بما يتماشى مع تفضيلات المستهلكين في ما يتعلق بالصحة والبيئة.
في شهر يونيو حزيران الفائت، أعاد مطعم غوتييه سوهو Gauthier Soho في لندن افتتاح أبوابه ليقدم هذه المرة قائمة طعام نباتية بالكامل. نفدت الحجوزات المتاحة كلها تقريبًا حتى موسم الخريف المقبل. وفي غضون بضعة أشهر، سيعمد كايل وكاتينا كونوتون، الثنائي الذي يمتلك مطعم سينغل ثريد SingleThread الحائز ثلاث نجوم ميشلان في هيلدسبورغ، إلى افتتاح وجهة بالقرب من سان فرانسيسكو لا تُقدم فيها أي لحوم.
طبق الهليون والشمندر المحلّى في مطعم غوتييه سوهو.
قد يحمل التأثير طويل الأمد للانقلاب الذي قام به دانيال هام تغييرًا جذريًا. إنه يبرهن عمّا يمكن تحقيقه عند قمة قطاع المطاعم، الأمر الذي قد يدفع بطهاة آخرين إلى إعادة التفكير في ما يقدمونه في مطاعمهم، بموازاة حث مؤسسات مثل ميشلان وفيفتي بيست 50 Best (الخمسون الأفضل) على إعادة تقييم رؤيتهم الضيقة لما يشكل مطعمًا فاخرًا.
في ما يخص الطاهي هام، لم يتسبب التغيير في توجّهاته في تراجع الطلب على ابتكاراته. فمطعم إيليفن ماديسون بارك محجوز بالكامل طيلة هذا الصيف.