إذ تنهض بويرتو ريكو من ظلمات المأساة التي حلت بها،
يعود جيل صغير إنما قوي من الطهاة المغتربين
إلى أرض الجزيرة ليضفوا بصيص أمل جديد على مشهد فن الطهو الذي
ظل يتعثر أمدا طويلا في رحابها.
لوسيا ميرينو حلويات Lucía Pâtisserie
تتميز أصناف الحلوى التي تُعدها لوسيّا ميرينو في مخبزها المتواضع بمذاقها اللذيذ ومقاديرها الدقيقة. فضلاً عن كونها غير متاحة على الدوام. وبالرغم من أن الاحتفاظ بالأسرار صعب في رحاب جزيرة صغيرة على غرار بويرتو ريكو، إلا أن ثمة غموضًا يكتنف مخبز Lucía Pâtisserie. يُعزى السبب في ذلك إلى أن ميرينو لا تفتح أبواب مخبزها الكائن في مدينة سان خوان إلا لبضع ساعات أيام السبت من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف من بعض الظهيرة. كما أنها تعمد إلى تغيير قائمة الحلويات تغييرًا كاملاً كل أسبوع. فالكعكات المحشوة بقشدة اللوز، والفطائر الحلوة والمالحة، والكرات المحشوة بالقشدة والبرالين والبندق المتوافرة اليوم ستغيب في الغد لتحل محلها في الأسبوع المقبل مجموعة أخرى من حلويات فرنسية تقليدية تُباع كلها فور أن تُخبز. في معظم أيام السبت، تنفد الحلويات من المتجر بحلول الظهيرة لتنهمك ميرينو بعد ذلك على مر الأسبوع، مع مساعديها المتخصصين في إعداد الحلويات، في توفير المكونات من مختلف أنحاء الجزيرة وتبادل الأفكار حول قائمة أخرى من أصناف الحلوى متقنة الصنع.
«بالرغم من أن جميع من حولي نصحوني بألا أعود إلى الجزيرة، إلا أن نداء ما كان يجتذبني إليها».
لا شك في أن تفاني ميرينو البالغ هو نتاج تدريبها. فابنة بويرتو ريكو تتلمذت لثلاث سنوات على يد فريدريك مونيه (الذي يُعد واحدًا من القلائل الذين يشكلون نخبة طهاة الحلويات في العالم)، وسافرت إلى مدريد وبرشلونة لتوسيع نطاق حرفتها. لكن بعد مرور أكثر من عشر سنوات قضتها ميرينو في بلاد الاغتراب، وعملها لبعض الوقت تحت إشراف طاه أسطوري آخر في مجال صنع الحلويات هو أنطونيو بشور في ميامي، استحوذت عليها رغبة ملحة في العودة إلى أرض الوطن وإطلاق مشروع خاص بها. في بويرتو ريكو، رصدت ميرينو فرصة لقلب مشهد صناعة الحلويات رأسًا على عقب. وعن هذا تقول: «جميعهم هنا كانوا يعدون الفطائر المحشوة التقليدية التي تشتهر بها بويرتو ريكو، فأردت أن أستقدم إلى الجزيرة شيئًا مختلفًا. كانت بعض الشكوك تساورني لأن الوضع الاقتصادي لم يكن على أفضل حال. وبالرغم من أن جميع من حولي نصحوني بألا أعود إلى الجزيرة، إلا أن نداء ما كان يجتذبني إليها».
بعد انقضاء سنتين، وفي أعقاب حملة ناجحة لتمويل المشروع، والتأجيل بضع مرات (ومنها التأخر لثلاثة أشهر بسبب إعصار ماريا)، افتُتحت أبواب مخبز Lucia Pâtisserie في ديسمبر كانون الأول من العام الفائت. وسرعان ما بدأت تتشكل في نهاية كل أسبوع أمام الباب الأمامي للمخبز الصغير صفوف طويلة من الزبائن المولعين بالحلويات. لكن ما يجتذب هؤلاء، على ما تقول ميرينو، ليس الإتقان في إعداد كل صنف من الحلويات الرائعة فحسب، بل القصة المحلية المتمايزة التي يشي بها. فكعك ميرينو الشهير محشو بفاكهة زهرة الآلام الطازجة التي يُؤتى بها من المزارعين على أرض الجزيرة، والمذاق الغني لقطع الكرواسان المقرمشة يُعزى إلى جودة الزبدة التي تُنتج في واحدة من أقدم مزارع الألبان والأجبان في بويرتو ريكو. وفي بعض أيام السبت، تقدم ميرينو نسخة جديدة مبتكرة من الفطائر التقليدية الصغيرة ذات الشكل الهلالي التي تثريها حشوة من الجبن الطازج المنتج في كاغواس، ومربى الجوافة المصنوعة في غواينابو.
جوليانا غونزاليس مطعم Caña
تقول جوليانا غونزاليس: «إنها المرة الأولى التي أطهو فيها أصنافًا من مطبخ بويرتو ريكو الأصيل في مطعم. إن الجمع بين أصناف الطعام التي خبرتها في طفولتي والتقنيات التي أعرفها اليوم ينطوي على تحدٍ جديد كليًا لي».
صحيح أن غونزاليس، المتحدرة من بلدة كابو روجو الشاطئية الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، اكتشفت أولى بوادر شغفها بالطعام من خلال الأطباق التي كانت والدتها وجدتها تحضرانها، إلا أن ذائقتها كانت غالبًا ما تتقلب في سياق تتبعها المطابخ العالمية الواحد تلو الآخر، من المطبخ الفرنسي (الذي تعلمت فنونه في مطعم Evolution التابع للطاهي ديفيد بولاي)، والمطبخ الياباني (في مطعمي Nobu وSushiSamba)، والمطبخ الإسباني (الذي يشكل أساس الأصناف التي تقدمها في ميامي حيث تعمل في Barceloneta، مطعم المقبلات التقليدية الذي يحظى بإشادة النقاد). لكن جوليانا ظلت تطمح بكثير من الأمل إلى تحقيق رغبتها في أن تُعد أطباقًا من مطبخ وطنها الأم على أرض ذاك الوطن. وعن هذا تقول: «كنت أردد دومًا أني أريد العودة إلى الجزيرة. وهل ثمة مواطن من بويرتو ريكو لا يحلم بالعودة؟».
تحقق ذاك الحلم بأسرع مما كان متوقعًا عندما تواصل فندق El San Juan العام الفائت مع غونزاليس وطلب منها أن تبتكر من الألف إلى الياء مطعمًا بويرتوريكيًا معاصرًا. لم تكن الطاهية تحتاج إلى التفكير مطولاً في الفرصة المتاحة أمامها لتوظيف خبرتها واسعة النطاق في المطبخ الذي أوقد في الأصل شرارة شغفها بالطهو. انكبت غونزاليس على العمل، وراحت تنقب في الوصفات العائلية التي كانت محط استحسان على مر وقت طويل، وتسترجع أيضًا ذكرياتها الخاصة، لتستحضر مذاقات ماضيها. تقول غونزاليس: «أردت ابتكار قائمة طعام بويرتوريكية في العمق إنما مطعمة بطابع مختلف لم يسبق للجزيرة أن خبرته».
«هل ثمة مواطن من بورتوريكو لا يحلم بالعودة؟»
وكان أن أبصر مطعم كانيا Caña النور. يستلهم المطعم، الذي يُتوقع افتتاحه الشهر المقبل، اسم نبات قصب السكر الذي شكل الداعم الرئيس لتاريخ بويرتو ريكو الزراعي، وتزهو مساحاته الملونة بطابع تعددي يزاوج بين قطع البلاط التقليدية المصنوعة يدويًا، والصور العائلية القديمة، والأثاث الحديث. ينسحب التمازج أيضًا على قائمة الطعام التي تشمل أطباقًا من مثل اللحم النيء المقدم مع جوز الهند الطازج، والفراولة، وغيرها من ثمار الجزيرة، فضلاً عن شرائح اللحم المشوي التي تُقدم مع أطباق جانبية مستلهمة من المطبخ الآسيوي كالكرنب الصيني والبصل المخلل.
شكلت العودة إلى بويرتو ريكو أيضًا فرصة لغونزاليس لدعم جزيرتها في مرحلة تعافيها الحرجة. وعن هذا تقول: «أردت التركيز بداية على المزارعين. فحركة تقديم الطعام المعد من مكونات محلية قد بدأت تنشط أخيرًا على أرض الجزيرة، وبتنا اليوم قادرين على التزود بمكونات طازجة لم تكن متوافرة لنا من قبل». وتلفت غونزاليس إلى أنها تجيء بالمكونات كلها، من الزهور التي تتزين بها الموائد إلى لحوم الدواجن، من منتجين محليين، وتضيف قائلة: «من الضروري اليوم دعم الأسواق المحلية والسكان المحليين، وفي المقام الأول توفير المساعدة لزملائي من البويرتوريكيين».
فرانسيس غوزمان مطعم Vianda
استغرق إتقان فرانسيس غوزمان أصول إعداد العجين المختمر عامًا كاملاً. وإذ يسترجع الطاهي والمؤسس المشارك في مطعم فياندا Vianda في مدينة سان خوان ذكرياته، يقول: «كنت أرغب بحق في إعداد العجين المختمر من الصفر، لكن أصول تحضيره كانت من التقنيات القليلة التي لم أتعلمها في المطاعم الأخرى. لذا أحضرت بعض كتب الطهو وبدأت أجرب وأخطئ، وأعيد الكرة إلى أن أتقنت الأمر».
كانت تلك سنة أحسن غوزمان الإفادة منها. فالخبز المختمر طبيعيًا يشكل أساس طبق المقبلات المميز لمطعم فياندا، أي رغيف الخبز المحمص الصغير المعد من العجين المختمر والمكسو بطبقة من جبن ريكوتا المصنوع يدويًا، والقرع الصيفي العضوي الأخضر والأصفر، وصلصة محضرة من أوراق الريحان المحلية. إنه طبق بسيط إنما موثوق، ويثبت قوة المكونات الجيدة. كما أنه يشكل أثرًا من أسلوب الطهو لدى غوزمان، المصقول والراقي إنما الموسمي بامتياز وغير المعقد.
لا شك في أن مختلف ابتكارات هذا الطاهي تنطوي على مسحة واضحة من تقنيات الطهو الفرنسي التقليدي، وفي ذلك إشارة ليس إلى التدريبات التي تلقاها في معهد الطهو الأمريكي Culinary Institute of America فحسب، بل إلى السنوات الثلاث التي أمضاها أيضًا في منصب مساعد طاهي في مطعم Modern في نيويورك. تشمل أيضًا أبرز المحطات المهنية المشار إليها في سيرته الذاتية العمل في سان فرانسيسكو في مطعم Blue Hill التابع للطاهي دان باربر، ومطعم Jardinière. أما مطعمه فياندا، فمتجذر بما لا يقبل الشك في أرض بويرتو ريكو. فغوزمان يطعم ابتكاراته هناك بالمذاقات التي خبرها في خلال نشأته، كما هو الحال عليه في طبق المأكولات البحرية ماريسكادا الذي يُعيد من خلاله تقديم موز الجنة المهروس، المعروف باسم موفونغو، والذي يشكل مكونًا غذائيًا رئيسًا على أرض الجزيرة، في نسخة مبتكرة عبر مزجه مع الروبيان والمحار وتقديمه تحت قطعة من السلمون المشوي. كما يعدل غوزمان قائمة الطعام أسبوعيًا بما يتيح له الاكتفاء باستخدام المكونات المحلية الطازجة المتوافرة.
«رصدنا فرصة رائعة للعودة وتحقيق إنجاز حقيقي هنا»
لكن مطعم فياندا، الذي افتتحه غوزمان مع زوجته أميليا ديل في شهر آذار مارس الفائت، ليس فقط مشروعًا يعكس الحنين إلى الجزيرة. بل إنه يشكل أيضًا شاهدًا على تطور فن الطعام فيها. يقول غوزمان: «لقد جعلتنا سان فرانسيسكو ونيويورك مولعين بالمطاعم. لكننا شعرنا بالإحباط لدى عودتنا إلى بويرتو ريكو. فالخدمة كانت دون المستوى المطلوب والطعام كان أقل من عادي. رصدنا فرصة رائعة للعودة وتحقيق إنجاز حقيقي هنا». وقد حقق الزوجان إنجازًا مهما كما أرادا إذ عمدا إلى تحويل أحد المحال الشاغرة في حي سانتورس إلى واحة أنيقة لتناول الطعام ووظفا فريقًا من الأفراد المفعمين بالحماس ضم عددًا من المغتربين العائدين مثلهما إلى الجزيرة. لكن الأطباق رفيعة المستوى التي يتأنى غوزمان في إعدادها، على غرار الخبز المحمص المحضر من العجين المختمر، وسمك القد الحار بنكهة جوز الهند، وعصائب معكرونة تالياتيلي المحشوة بلحم الأرنب المطهو ببطء مع الكركم، هي ما يجسد بحق مستقبل تجارب الطعام في بويرتو ريكو. ولا شك في أن هذا المستقبل سيكون باهرًا حتى إن استغرق بلوغه وقتًا طويلاً.
بيار-فيليب سوسي مطعم Hen House
لم يبقَ من شيء إلا وخبره بيار-فيليب سوسي. فقد عمل هذا الطاهي في فرنسا وبلجيكا، وفي نيوريورك ولوس أنجلوس، وتدرب تحت إشراف طهاة أسطوريين أمثال ديفيد بولاي وروجيه فيرجيه. بل إنه ارتقى إلى إدارة عدد من مطابخ المطاعم الأكثر شهرة في العالم. لكنه أدرك فجأة في العام الفائت أنه قد نال كفايته من مثل هذه التجارب. يقول سوسي مسترجعًا ذكرياته: «أمضيت كامل حياتي في العمل في مجال المطاعم الراقية. ولطالما اعتقدت أن هذا ما ستكون عليه حياتي المهنية دومًا. لكن بعد مرور عشرين سنة، أدركت أني أرغب في القيام بعمل مختلف. وهكذا بدأت العمل في مجال تقديم الدجاج المقلي».
قد يبدو الانتقال من إعداد كبد الإوز وشرائح اللحم البقري إلى تقديم لحوم الطيور المقلية وشطائر خبز البريوش الدائرية أقرب إلى دليل على مسيرة متقهقرة. لكن هذا التحول شكل لسوسي، المولود في بويرتو ريكو، قفزة نوعية باتجاه تجربة أكثر تحقيقًا للرضا من الفوز بنجمة ميشلان، أي قفزة نحو بلوغ السعادة. يقول سوسي: «كنت أعود مرة كل بضعة أعوام، فأبقى هنا لنحو سنة أو ستة أشهر ثم أنتقل إلى مدينة أخرى. لكنني قررت أخيرًا أن ما أريده هو البقاء على أرض الجزيرة إلى الأبد».
عاد سوسي إلى أرض الوطن قبل سنتين وتواصل على الفور مع فندق محلي لابتكار مفهوم مطعم راق. لكن المشروع تعثر، واستحوذت على هذا الطاهي فكرة مختلفة كل الاختلاف. ففي حي سانتورس، كان يجري العمل على تحويل قطعة أرض مهجورة إلى مشروع Lote 23 المكون من مجموعة من أكشاك الطعام أنيقة التصميم والمبنية من الأخشاب ليديرها عدد من أصحاب المواهب الشابة والواعدة على أرض الجزيرة. في خضم الأزمة الاقتصادية، كانت المطاعم التي تحتل الأبنية الإسمنتية تتداعى في كل مكان، وكانت تلك الأكشاك تلقى الرواج إذ تحل محلها. في شهر مارس آذار من عام 2017، افتتح سوسي مطعم هن هاوس Hen House مبتكرًا قائمة طعام مختصرة جدًا لا تشتمل سوى على صنف واحد من الطعام تمثل بشطيرة الدجاج المقلي مع مجموعة محدودة جدًا من الأطباق الجانبية.
«بدأ الناس يدركون أن ثمة مستقبلا حقا»
يقول سوسي: «من الصعب حقًا أن يبتكر المرء وجبة من مكونين اثنين فحسب ويجعلها رائعة المذاق. ثمة براعة تقنية وراء كل عنصر في هذه الشطيرة». الواقع هو أن الفكرة لم تبدأ من صدور الدجاج أو شطائر الخبز الدائرية، بل من الخيار الذي تنتجه إحدى المزارع المحلية. فقد أعد سوسي، بدافع من نزوة ألمت به، خيارًا مخللاً لا مثيل لمذاقه الطيب، ثم زار مزرعة محلية أخرى ليتزود بالخس المثالي الذي يتماشى معه. وقبل أن ينشب إعصار ماريا، كانت حظائر الدواجن في بويرتو ريكو هي مصدر كل لحوم الدجاج التي عمد سوسي إلى قليها في خليط من مخيض زبدة حليب يُعد منزليًا ويضمن إضافة القدر الصحيح من مذاق الملح والنكهة المميزة إلى طعم الدجاج. يقول سوسي: «لا يمكن مقارنة الدواجن التي نأتي بها حاليًا من الولايات المتحدة بتلك التي كانت تُربى هنا. لكننا بدأنا نشهد عودة الطيور المحلية».
تشهد الجزيرة أيضًا عودة مفهوم المطاعم الواقعة في الأبنية الإسمنتية. يخطط سوسي لافتتاح مقر دائم لكوخ تقديم شطائر الدجاج الشهير. سيُفتتح المطعم الجديد مطلع العام المقبل في حي كوندادو في مدينة سان خوان وسيتميز بقائمة طعام أكثر تنوعًا تشتمل على عدد أكبر من الأطباق البسيطة في ظاهرها. سيكون المطعم، على ما يقول سوسي، شاهدًا إضافيًا على عودة بويرتو ريكو أقوى من ذي قبل. يضيف سوسي قائلاً: «بدأ الناس يدركون أن ثمة مستقبلاً حقًا. من الصعب شرح الأمر، إنما ثمة أمر ما يحدث، وهو أمر جيد».