قد يكون أول ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن الهند هو ذاك الإرث الثقافي المتجذر في أرض شكلت واحدة من أقدم الحضارات، هذا الإرث الذي ما فتئت تجلياته تحضر في مجالات مختلفة، من العمارة والفنون إلى الحرف اليدوية وغيرها، وفي ألف حكاية من العصر الذهبي لمهراجات الهند وبلاطاتهم الملكية.
في فندق ذا أوبيروي The Oberoi، الشامخ في منطقة بيزنس باي بدبي، يستأثر بك مشهد يختزل هذا الإرث الثقافي ما إن تطأ قدماك مطعم بنجاب غريل Punjab Grill الذي افتتح أبوابه في سبتمبر من العام الفائت ليستلب الأبصار والذائقة إلى تجربة كل تفصيل فيها يتجلى تذكرة عبور إلى عوالم الهند الآسرة، هذه العوالم التي أعادت خبيرة التصاميم الداخلية سوني أغروال ابتكارها على مساحة المطعم.
فعلى نسق ذاك البذخ الذي طبع حياة مهراجات الهند الذين اشتهروا أيضًا برعاية الفنون واستقدام أمهر الحرفيين لزخرفة قصورهم، صمّمت أغروال هذه الفسحة مستلهمة قاعة احتفالات مهيبة من العصر القديم، واختارت لها ثريّات من الكريستال يتساقط ضياؤها سخيًا فوق الأرائك الوثيرة وألوان الزهر التي تتوزّع في الآنية الضخمة عبر أرجاء مطعم Punjab Grill.
أما أكثر ما يوثّق ملامح الأصالة والفخامة الملكية، فتجسّده في الطابع التصميمي للمطعم صور بالأبيض والأسود لمهراجات الهند تتوزّع فوق أوراق جدران مزخرفة استوحتها أغروال من وشاح تلقته هدية من والدتها، لتبتكر بها إيحاءات تذكّر بجدران القصور التي تتدثر بكسوات قماشية.
Punjab Grill
شرائح لحم الضأن الزاخرة بالطعم الغني لبهارات كشميري
لكن البعد الثقافي والتاريخي للتصميم ليس سوى غيض من فيض تجربة تستأنس بها حواسنا فيما نختبر في بنجاب غريل طيب أطباق يبرع كبير الطهاة سانديب علي، القادم من مومباي، في صياغتها فسيفساء متقنة من الألوان والمذاقات.
وسواء اختار الضيف هنا أصنافًا من القائمة التقليدية أو آثر تجربة قائمة التذوّق المكوّنة من سبعة أطباق (أو حتى حضر لغداء عمل صُممت قائمة خاصة به لا يعوزها التنوّع والثراء)، فإنه لن يغفل عن اللمسة الإبداعية لطاه لا يعيد ابتكار مذاقات الهند الأصيلة بقدر ما يرتقي بها في سياق عصري ليتجلّى كل طبق، من أسلوب تقديمه إلى تقنية طهوه وما يجتمع فيه من مكوّنات ونكهات، بلاغة حكاية من أقاليم الهند المختلفة تُصاغ طيبًا يستأثر بالذائقة.
تشهد على ذلك أصناف تقليدية شهيرة، من مقبلات كرات البصل المقلية المقرمشة الشائعة في مختلف أنحاء الهند، والتي يتناغم فيها المذاق الحلو لصلصة التمر الهندي والطعم اللاذع للصلصة الخضراء، إلى طبق الدجاج بالصلصة الحمراء Butter Chicken الذي يُعد خير نموذج على التنوع المميز لمطبخ الهند الشمالي، وطبق برياني اللحم الذي تتلاحم مذاقاته الغنية بإتقان في قدر من الفخار مستحضرة تقاليد الطهو الجنوبية في حيدر آباد.
Punjab Grill
حلوى الرقائق المحشوة بمثلجات بطعم الفستق الحلبي والتين
وإذا كان سانديب علي يبرع مع فريقه في أن يرقى بما هو مألوف في المطبخ التقليدي الهندي إلى مستوى يستثير الانبهار من دون الوقوع في فخ التكلف والمبالغة، فإنه يتقن بالقدر نفسه فن تبديد المسافات بين الأصقاع الهندية إذ يجيء في كثير من الأطباق التي يبتكرها بمعادلة أو صيغة تتلاحم فيها هذه المرة التوابل والمكوّنات على نحو غير تقليدي.
هذا ما نختبره بدءًا من المزيج المنعش والغريب لقطع من البطيخ الأحمر تتناثر فوقها براعم الفول المنكّهة بالتمر الهندي والنعناع والكزبرة فيما تتوّجها رغوة هلامية من البطيخ، وليس انتهاء بتداخل العناصر المتعارضة في طبق يزاوج بين طراوة عصائب النودلز المعدة يدويًا من حبوب الدخن "راغي" والتركيبة المقرمشة للروبيان المقلي المغلّف بقشرة من السمسم، والطعم القشدي لصلصة جوز الهند التي ترتحل بالذاكرة إلى عالم غوا في الساحل الغربي للبلاد.
Punjab Grill
ثمار الروبيان المشوية المنكّهة بالزعفران
ينعكس هذا التلاحم المتقن أيضًا في أطباق ينهمك الطهاة في إعدادها على مرأى من أنظارنا فيما تفصلنا واجهة زجاجية عن مطبخ جُهز بثلاثة من أفران التندور (المبنية من الطين) ومحطة شواء على الفحم.
ويتصدر هذه الأطباق سمك السلمون النرويجي المشوي في التندور والمقدّم مع الخضراوات وصلصة الجزر قشدية القوام، فضلاً عن شرائح لحم الضأن المشوية الزاخرة بالطعم الغني لبهارات كشميري، وثمار الروبيان كبيرة الحجم التي يتناغم مذاق الشواء فيها مع نكهة الزعفران وصلصة الجوز والفجل ومهروس البطاطس الحلوة.
وبالرغم من أنك قد لا تحتاج إلى التورّط أكثر في هذا الانغماس الماتع الذي تعد به كل وليمة في بنجاب غريل، إلا أنك لا تستطيع إلا أن تترك لذائقتك التوغّل أكثر في تلك البهجة الحسية التي تعد بها في الختام حلويات تقليدية أو مبتكرة، مثل حلوى راس ملاي المنكهة بجوز التنبول، أو الرقائق المحشوة بمثلجات بطعم الفستق الحلبي والتين، أو الأصابع الهشة المحشوة بحلوى الجزر.