أول ما يقفز إلى ذهنك وأنت تتأمل عمل إدريس خان «سبع مرّات»، المعروض في بينالي الفنون الإسلامية بجدة، تعدد مشاربه، وتنوع مصادر إلهامه. فقد أفلح العمل، الذي عُرض من قبل في معرض «الحج.. رحلة إلى قلب العالم الإسلامي» في المتحف البريطاني بلندن عام 2012، في الإفلات من القولبة الفنية الجاهزة. ليس بإمكانك حشره في زاوية تأويلية ما، ولكنه يصيبك بذهول تام وربما إرباك.
«سبع مرات»، المكون من أكثر من 140 مكعبًا تنتظم في صفوف تحيل إلى شكل الكعبة، بحث وجودي في الأساس، وتحقيق ذاتي وروحي في آن، يتعمق الفنان من خلاله في المعاني والمضامين الكامنة في صلاة المسلم اليومية.
الأفلاطونية والتجريد
تسحبنا مكونات هذا العمل، الفولاذية ذات الأسطح الشفافة والمصقولة بعناية، من الواقعية إلى التجريدية، ليبدو الفنان أحيانًا، حين تمعن النظر في عمله، أفلاطونيًا، يبحث عن نوع ما من النقاء المجرد، عن الحقيقة المتعالية، بل قل المتجاوزة لشرطها وظروفها وجغرافيتها.
صحيح أن «سبع مرّات» المعروض في بينالي الفنون الإسلامية نتاج تجربة شخصية مؤلمة؛ إذ صنعه خان عقيب وفاة والدته، إلا أن الأمر ليس مقصورًا على مجرد استلهام فكرة من تجربة حزينة.
ربما كانت هذه التجربة هي الشرارة التي قدحت زند إلهامه، لكنه انغمس أكثر في إضفاء معاني مجردة على حادثة واقعية؛ فقد نظم الفنان المكعبات المنفصلة في تشكيل يحاكي شكل الكعبة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
على كل مكعب هنا نرى كتابات عربية كأنما كُتبت بالرمل، يقول إنها أدعية وصلوات يرددها المسلمون.
وعن هذه الكتابة الطلسمية صرح إدريس خان من قبل : "أكتب مجموعة من الجمل، تقريبًا مثل مجموعة من الكلمات بدلاً من شيء منطقي. عندما تقرأها مرة أخرى، لا تجد لها معنى. إنها طريقة عمل سرية تمامًا. لا أحد يعرف في الواقع ما يقال. عليك حقًا التحقيق".
ما الذي أراده خان من هذه الكتابة المبهمة يا تُرى؟ لا شيء سوى أن المعنى صناعة ذاتية. فهو لن يقدم لك ما يعينك على إدراك ماهية ما أراد قوله، لأن عبء المعنى ملقى على كاهلك وحدك.
ولكي تتأكد من ذلك، عليك أن تلقي نظرة على التدرجات اللونية المختلفة للمكعبات المكونة لمأثرته «سبع مرّات» في معرض بينالي: إنها تلك التدرجات التي لا يراها الناظر على الفور ولكن عند التدقيق فيها نرى ذلك التنوع الذي يختلف من مكعب لآخر، ما يمنح القطع نوعًا من التفرد الذي يميّزها ويمزجها بشكل ساحر مع باقي القطع لتنتظم معًا.
Islamic Arts Biennale Jeddah
الذاتي والموضوعي.. إلهام الفنان
مع إدريس خان يلتحم الفني بالشخصي، والذاتي والموضوعي. لا علم لنا تحديدًا من أين يستمد إلهامه، ولكن المؤكد أن ماضيه بحر زخّار، وثقافته واسعة. فمن باخ ونوتاته الموسيقية يستمد فيضًا من إلهامه، ولا تضن عليه ثقافة الشرق السخية أصلاً بنبيل عطاياها.
أنت أمام فنان ولد في برمنغهام عام 1978، لأب باكستاني، نشأ على تعاليم الإسلام، وانفتح من خلال ذلك على مكنونات الشرق وثقافته. بل إن هذا العمل يعبّر، نوعًا ما، عن ارتباط إدريس خان اللاواعي بهذه الثقافة، وربما بمختلف السرديات الثقافية الحاكمة أو السائدة حتى في الشرق.
Islamic Arts Biennale Jeddah
الطقس والتكرار
يتكئ خان على التكرار لبناء فهم للذات في ما يتعلق بالآخرين، وعلى طُقس يربط المسلمين عبر الجغرافيا والزمان. كل همسة، متطابقة في الكلمات ولكنها فريدة في النية والسياق، مجتمعة كتكرار منسق للصلاة، تُظهر كلاً من التشابه وفكرة الخصوصية الوجودية المتأصلة في الإنسان.
التكرار هنا في الطواف حول الكعبة سبع مرات، لكن الاختلاف في ماهية روح المسلم في كل مرة يطوف فيها. فتلك هي أخص الأفكار التي انتبه إليها خان أو التي حاول أن يشير إليها من طرف خفي وكأنه يكمل مشروع دريدا (الاختلاف) ولكن عبر نقيضه تمامًا (التكرار).
التكرار في حركات الصلاة - هذا أحد معاني عمل خان الدفينة - كامن أيضًا، لكن الاختلاف قائم في ماهية كل واحد من هؤلاء المصلين، بل في كل لحظة من لحظات ترقّيه الروحي وتطوره الوجداني خلال الصلاة، التي هي تكرار لحركات معروفة سلفًا.
"هناك الكثير من الإيقاع في هذا الدين: عليك أن تصلي خمس مرات في اليوم، وتردد الكلمات دائمًا. ربما هذا متأصل في ما أفعله في الاستوديو"، هكذا يعبّر خان.
لكن خان لم يستدن التكرار من دريدا فحسب، بل استدان منه أيضًا فكرة الاختلاف، والذي يستخدمه هنا على أنحاء شتى، بعضها ذاتي، أي عن تفكيك لوحاته هو نفسه: إنها مساحته الخاصة للتجريب قبل إماطة اللثام عن العمل في النهاية.
ثم هناك مستوى آخر وهو ذاك الاختلاف الذي يخص المتلقي، فكل عمل من أعمال خان سيمنحك معنى مختلفًا في كل مرة تنظر إليه.
Islamic Arts Biennale Jeddah
الانعتاق من الهيمنة الثقافية الغربية
يحاول الفنان، موصول الأواصر بالشرق، الانعتاق من الهيمنة الثقافية الغربية، وفتح مطل لها على الشرق، وإن كان هو نفسه يقول إنه ليس فنانًا سياسيًا، ولكنه يسير وراء إلهامه أنّى ساقه.
يقول خان شيئًا محرجًا وبمهارة: إنه يضع مقولات الغرب على الطاولة ويحاول تفنيدها ونقدها، وربما بأدواتها ومفاهيمها الفكرية والفلسفية نفسها.
مشروع خان، ليس «سبع مرّات» فحسب، مشروع عن الذاكرة، والأنطولوجيا، والتعقيد الوجودي للفرد في العصر الحديث. إنه مشروع معني بالتوق الرومانسي إلى المطلق، والغوص في عوالم روحانية تستمد معانيها ومضامينها من الشرق القديم وإرثه وثقافته.