عندما تحط في المطار في جزيرة برينسيب Principe بالغة الصغر في غرب إفريقيا، يبدو لك أن الطائرة تلامس أعالي الأشجار في الأدغال الكثيفة محدثة تأثيرًا يكاد يشابه تلك الدوائر التي تخلفها الحصاة فوق سطح الماء. بعيدًا عن مدرج الطائرات ومحطة الوصول الأشبه بكوخ، يكاد هذا المكان يخلو من أي دليل على تدخّل بشري في المشهد الطبيعي الذي يحاكي ما رأيناه في فيلم الخيال العلمي "جوراسيك بارك" Jurassic Park.
لاحقًا، وفيما تجوب أرجاء الأدغال سيرًا على قدميك، سيتعاظم شعورك بأنك انتقلت إلى زمن آخر. فالنعيق والأصوات الغريبة التي تتردد وسط الأرجاء، والتي تشهد على عشرات أجناس الطيور المتفردة التي تستوطن الأشجار، توهمك بسهولة بأن مصدرها قد يكون ديناصورًا في غير زمانه ومكانه.
إنه الانطباع نفسه الذي اختبره أيضًا مارك شاتلوورث قبل نحو عقد من الزمن عندما حط للمرة الأولى فوق الجزيرة على متن طائرته من طراز بومباردييه فيما كان يبحث مع ربّان الطائرة عن مكان مثالي للتوقف بين قاعدتيه الدائمتين في جزيرة آيل أوف مان في البحر الإيرلندي وكايب تاون في جنوب إفريقيا حيث ترعرع.
يستعيد شاتلوورث ذكرى ذلك اليوم قائلاً: "كنت أبحث عن مكان ناء يمكنني أن أستمتع فيه بالانعتاق إلى الطبيعة في إفريقيا"، ثم يقّر بأنه كاد يستبعد هذا الموقع لكنه سرعان ما غيّر رأيه بعد أن حط في جزيرة برينسيب. وفي هذا يقول: "انتابني شعور عارم بأن هذه الجزيرة متفرّدة وهشّة بصورة استثنائية. أردت أن أغتنم الفرصة لصنع شيء ما مع السكان المحليين يضع بين أيديهم ميزة متفردة في العالم تبقى إلى الأبد".
تحولت هذه المهمة المرتجلة - التي دفعته حتى إلى أن يزور مكتب رئيس البلاد من دون موعد مسبق طالبًا الاجتماع به – إلى القوة المحركة في حياة شاتلوورث، وجعلت من دولة ساو تومي وبرينسيب São Tomé e Príncipe واحدًا من أبرز مكامن شغفه. استثمر صاحب الملايين البالغ من العمر 48 عامًا والمولود في جنوب إفريقيا أكثر من 100 مليون دولار من ثروته في ثاني أصغر دولة إفريقية من حيث المساحة (بعد جزر سيشل)، ساعيًا إلى دعم اقتصادها، ومن ثم المساعدة في الحؤول دون استغلال موردها الرئيس، الطبيعة، على نحو غير منضبط. كانت خطته تقتضي استقطاب المسافرين الموسرين والواعين لأهمية الحفاظ على البيئة في ما يشبه محاكاة استراتيجية السياحة ذات البصمة الكربونية المنخفضة والقائمة على الإنفاق الكبير التي أثبتت نجاحها مثلاً في رواندا وبوتسوانا.
بعد انقضاء عشرة أعوام، أصبحت النتائج الملموسة جلية، على ما تشهد ثلاثة فنادق قيد التشغيل وفندق رابع من المقرر افتتاحه أواخر هذا العام. تعطي شركة HBD Príncipe Group، التي أطلقها شاتلوورث لإدارة هذا المشروع، الأولوية للمصلحة الاجتماعية، إلا أن مالكوم كاوتش، الرئيس التنفيذي للشركة، يتوقع أن تتساوى التكاليف مع الإيرادات في غضون سنتين إلى ثلاث سنوات، ليبدأ تحقيق الأرباح في غضون عقد من الزمن.
يقول كاوتش إن الشركة ستعيد استثمار أي إيرادات في دعم اقتصاد الجزيرة. وفيما يشير إلى أن هدف الشركة هو أن تكون مصدرًا ملهمًا وفي الوقت نفسه تكون نموذجًا يحتذي به أتراب شاتلوورث من عمالقة رجال الأعمال، يقول: "لا نية لنا لتحقيق عائد على رأس المال المستثمر. بل إننا سنستخدم هذه الأموال للاستمرار في تحسين برينسيب". ويستطرد كاوتش قائلاً: "نريد أن نخبر الآخرين الذين قد يملكون الثروة ويرغبون في استثمارها في أجزاء أخرى من العالم أنهم يستطيعون استخدام هذا النموذج. سنرشدهم إلى السبيل لتحقيق ذلك".
غايات نبيلة
تُقدر ثروة شاتلوورث بنحو 670 مليون دولار، كسب الجزء الأكبر منها عبر شركات ناشئة في قطاع التقنية. وهو يشتهر بتخصيصه 20 مليون دولار من هذه الثروة للذهاب قبل 20 عامًا في رحلة إلى الفضاء بوصفه راكبًا على متن مركبة سويوز روسية، ليتحوّل بذلك إلى أول شخص من القارة الإفريقية التي ينتمي إليها يذهب في رحلة مماثلة، الأمر الذي أكسبه لقب Afronaut (رائد الفضاء الإفريقي). لكن تسليط الأضواء عليه لهذا السبب يُعد مضللًا، لا سيّما وأنه ليس شخصًا مستهترًا يميل إلى تبديد المال.
يمكننا أن نرى فيه النقيض لابن بلده إيلون ماسك، لا سيّما وأنه يرغب في استخدام ثروته الهائلة خلال حياته بأساليب مثمرة تعزز التأثير الاجتماعي وليس الحضور في وسائل التواصل الاجتماعي. فيما كان شاتلوورث يتهيأ للرحلة إلى الفضاء، أطلق مؤسسة Mark Shuttleworth Foundation التي توفر مِنح زمالة صغيرة لأولئك الذين يطلقون مشاريع إنسانية وبيئية في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك، ولكن ليس حصرًا، في دولة ساو تومي وبرينسيب. يعمل أحد أصحاب هذه المنح اليوم على وسم السلاحف هنا لمراقبة عادات وضع البيوض لديها.
قد توحي هذه الهندسة الاجتماعية وهذا السخاء الأرستقراطي بنوع من الاستعمار الحديث، وهذه تهمة لا يتغاضى عنها شاتلوورث. فهو يدرك التعقيدات والإيحاءات التي ينطوي عليها مشهد رجل إفريقي أبيض البشرة وموسر ينفق ثروته في القرن الحادي والعشرين على دولة فقيرة أغلبية سكانها من أصحاب البشرة السوداء.
في مقابلة نادرة مع مجلة Robb Report العربية، يقول شاتلوورث: "أعتقد أن ثمة فارقًا عميقًا بين الهيمنة الوطنية والاستثمار، لكن قد يحدث أحيانًا أن تتشابك الحالتان. لست معنيًا باستخراج أي شيء من برينسيب أو استغلال مواردها. بل إن مثل هذه التفكير ينم عن فظاظة". يقدم شاتلوورث نواياه بوصفها إيثارية، ويقول: "إن مشروعي لجزيرة برينسيب يشكل فرصة لا تتكرر لتوجيه التطور في اتجاه مختلف".
يعتقد شاتلوورث أنه ليس الوحيد الذي يسعى وراء هذه الغاية، ويقول: "أرى رجالاً موسرين وناجحين جدًا من مختلف أنحاء العالم تقريبًا يبدون الرغبة في استثمار مكاسبهم في الحياة لتحقيق غايات نبيلة. لكن قد يكون من الصعب أن تحقق مبتغاك بعد أن تبلغ الثمانين من عمرك لأن الخيارات المتاحة لك ستكون محدودة جدًا عندئذٍ. لذا أردت استغلال الطاقة والمنظور اللذين يمكنني تسخيرهما وأنا في سن الشباب لتحقيق مرادي".
شلال O Que Pipi / دولة ساو تومي وبرينسيب
أرض الكاكاو
أما المهام التي تحظى باهتمام خاص من شاتلوورث، فهي تلك التي يوحي بها اسم الشركة HBD. فهذا الاختصار يعني Here Be Dragons، العبارة الموجزة التي كانت تُستخدم في الخرائط القديمة للإشارة إلى الأراضي غير المستكشفة.
يوحي هذا الاسم بالتزام الدفع بحدود الممكن، وفي الوقت نفسه بالأسباب التي تجعل شاتلوورث يدعم مكانًا مثل ساو تومي وبرينسيب. لا تزيد مساحة اليابسة في الدولة الصغيرة المكوّنة من الجزيرتين عن 400 ميل مربع، كما أنها في الأصل ذات طبيعة بركانية. عندما وقع المستكشفون البرتغاليون على الأرض الصخرية الغناء في خليج غينيا في أواخر القرن الخامس عشر، لم تكن مأهولة بسكان دائمين.
وقع المستكشفون حقيقة على أرض بكر نمت الغابات تقريبًا في كل بوصة منها. استولى المستعمرون على الأرض ليعيدوا استخدامها مزارع أنتجوا فيها بداية قصب السكر. لكن في عام 1820 تقريبًا، جرى استبعاد هذا المحصول بأمر من الملك البرتغالي الذي أصدر مرسومًا طلب فيه استخدام الأرض الخصبة لإنتاج حبوب الكاكاو المربحة والمكتشفة حديثًا.
اختار الأوروبيون شجرة الكاكاو بعد أن اكتشفوها مصادفة في البرازيل، وحظيت الشوكولاته المصنّعة من حبوب هذه الشجرة باهتمام عالمي بالغ. بل إن حبوب الكاكاو كانت مربحة للعالم الناطق باللغة البرتغالية إلى حد أن كلمة "كاكاو" لا تزال تُستخدم في اللغة العامية للإشارة إلى المال. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت الأرض التي تشكل اليوم ما يُعرف بدولة ساو تومي وبرينسيب واحدة من أهم المزارع المنتجة لحبوب الكاكاو في العالم.
في ما يتعلق باليد العاملة، اعتمد هذا القطاع في البدء على الأفراد المستعبدين، ثم على عمّال السخرة بعد أن جرى حظر العبودية في مستعمرات البرتغال في أواسط سبعينيات القرن التاسع عشر. جرى استقدام العديد من هؤلاء العمّال من إقطاعيات برتغالية أخرى، وخصوصًا من جزر كايب فيردي Cape Verde، وكانوا يعيشون في ملكيات شاسعة تبدو أقرب إلى دول مصغّرة ويتوافر لكل منها مشفى وخط لسكة الحديد ومخزون غذائي.
في مطلع القرن العشرين، تعرض قطاع إنتاج الكاكاو إلى حملة انتقادات شرسة من البريطانيين. كان أشهر صنّاع الشوكولاته في بريطانيا من الكوايكرز، المعروفين أيضًا بحركة الأصدقاء التي دعت دومًا إلى إلغاء الرق ورأت أن عمّال السخرة في تلك المزارع عبيد في مختلف جوانب حياتهم إلا الاسم.
نجحت في النهاية مصانع راونتري، وكادبوري، وفراي في فرض مقاطعة محاصيل الجزيرتين (قد لا يكون من باب المصادفة أن مزارع الكاكاو المجاورة في ما يشكل اليوم دولة غانا الحديثة، والتي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية تُعرف باسم غولد كوست أو ساحل الذهب كانت تتنافس في السوق نفسه).
هذه الانتكاسة، إلى جانب نضال الجزيرتين لنيل الاستقلال، الذي تحقق سنة 1975، والمشقات التي برزت في مرحلة ما بعد الاستعمار، كادت تقضي على القطاع الرئيس في ساو تومي وبرينسيب، وتركت العديد من الملكيات في حالة مزرية يصعب إصلاحها. لكن منذ ذلك الحين، أعيد تشغيل بعض الملكيات، وإلى يومنا هذا يبقى الكاكاو مرتبطًا باسم الدولة.
بل إن الكاكاو، الذي يمثل حصة الأغلبية في صادرات الدولة، يندرج ضمن الأفضل في العالم ويدخل في منتجات عدد لا يُحصى من مصانع الشوكولاته الفاخرة في العالم. لكن دولة ساو تومي وبرينسيب تمتلك أصلاً آخر يعده شاتلوورث أكثر قيمة: إنه الأرض نفسها.
كنوز أرض ساو تومي وبرينسيب
يبلغ عدد سكان البلاد نحو 200 ألف نسمة، يعيش 97% منهم في ساو تومي، الأكبر بين الجزيرتين. تزهو الجزيرة بمسحة جاذبية تميّز في العادة الأماكن المتداعية، وبطابع مسترخٍ يختصره المثل الشعبي المحلي léve – léve ومعناه "على رسلك".
عند ساحلها الشرقي، تتلاطم الأمواج فوق الصخور المكوّنة لصدع بوكا دو إنفيرنو Boca do Inferno وتنبجس مياهها صعودًا على نحو غير متوقع. وبسبب هذه الأمواج نفسها، يشكل الشاطئ المجاور موقعًا رائعًا لركوب الأمواج. يغلب على العاصمة التي تحمل الاسم نفسه طابعًا جماليًا باهتًا تستحضره واجهة الشاطئ التي يسوّرها ممشى من الحقبة الاستعمارية فُقدت بعض أجزائه فبات يذكر بابتسامة تكشف عن أسنان مفقودة. في مركز العاصمة، يحضّر كلاوديو كورالو، أفضل صانع معاصر للشوكولاته في البلاد، ابتكاراته التي تباع في متاجر فاخرة من حول العالم، بما في ذك في متجر فورتنوم أند مايسون في لندن.
يعيش ابن فلورنسة البالغ من العمر 70 عامًا في إفريقيا منذ نحو خمسة عقود، حيث يدير صفوفًا للتذوق وتخمين المكوّنات في المصنع الذي بناه في باحته باستخدام حاويتي شحن. أما المادة الخام التي يعتمد عليها في ابتكاراته، فهي حبوب الكاكاو المنتَجة في مزرعته بجزيرة برينسيب.
الحقيقة هي أن جزيرة برينسيب هي التي تستقطب معظم الزائرين على ما أدرك شاتلوورث منذ رحلته الأولى إليها. اليوم، وفي ما خلا فندق أومالي Omali الواقع في جزيرة ساو تومي، تتركز العمليات الداخلية كلها لشركة HBD في برينسيب.
تشكل الجزيرة الأصغر، التي تقارب مساحتها 50 ميلاً مربعًا، إحدى محميات المحيط الحيوي التابعة للأمم المتحدة. هنا تعيش عشرات أجناس الكائنات التي لا تستوطن أي دولة أخرى، ما يجعلها تتنافس مع مدغشقر، الأشهر والأكبر مساحة، على الحق بلقب "جزر غلاباغوس الإفريقية".
يُعزى هذا الثراء في الحياة الحيوانية المتفردة إلى الأصول البركانية للأرض: لم تتصل الجزيرة قط باليابسة في القارة، ما سمح للأجناس الحيوانية فيها بأن تتطور بعيدًا عن التأثيرات الخارجية. يشكل موقع برايا غراندي Praia Grande، أحد أكبر الشطآن في جزيرة برينسيب، موطنًا رئيسًا لأعشاش السلاحف. تحث السلاحف البحرية الخطو فوق الرمال بدءًا من أواخر الخريف لتضع بيوضًا بحجم كرات تنس الطاولة في ظل حماية جمعية محلية غير ربحية. بحلول شهر فبراير، يبدأ موسم الفقس، وعلى مدى نحو ثلاثة أشهر، تزدحم الرمال بسلاحف صغيرة جدًا تغادر الأعشاش وتتقدّم نحو البحر الهائج.
خلال الحقبة الاستعمارية، كانت المزارع شائعة في كلتا الجزيرتين. في ساو تومي، يبقى كثير من المزارع بحالة جيدة، وتُستخدم مهاجع العبيد فيها إلى اليوم مساكن. أما في برينسيب، فقد عادت الأدغال لتتمدد عبر معظم الملكيات الزراعية القديمة، ليتحول نحو 60% تقريبًا من اليابسة في الجزيرة إلى متنزه وطني.
أما الطريقة المثلى لرؤية المتنزه، فتتمثل بالإبحار عبر خليج الأبراج المستدقة Baía das Agulhas. عندما يكون الطقس صافيًا، ينقشع الضباب عن محيط الصخور البركانية التي تشرئب إلى السماء فوق قمم الأشجار. أما عندما تتسلق الصخور عبر الشجيرات، فإنك ستكتشف تفصيلاً من صنع الإنسان - قد يكون جسرًا من الآجر أو مسارات سكة حديد قديمة – يبدو في غير مكانه داخل هذه الغابات البرية.
طام طائرة غرقت في خليج بوم بوم Bom Bom / دولة ساو تومي وبرينسيب
ملاذات تستلهم بيئتها
إذا كنت ترغب في المكوث في جزيرة برينسيب، فاعلم أن شركة HBD تمتلك وتشغّل هنا ثلاثة فنادق كل منها متجذر في بيئته المحيطة بطريقة مميزة. يقول شاتلوورث عند الحديث عن استراتيجيته في مجال السياحة: "إن جزيرة برينسيب مكان آمن للغاية.
إنها نائية والجميع فيها يعرف بعضهم بعضًا، وهذه ميزة رائعة تتيح لنا تجربة أمور ما كنا لنطلقها في أماكن أخرى". لنأخذ مثالاً على ذلك مخيّم ساندي برايا Sundy Praia الذي بُني قبل أربع سنوات على الشاطئ في موقع محجوب عن الرؤية بحيث لا يتعدى على المشهد الطبيعي البكر.
يخلو هذا المخيّم من أي أسوار تعلوها الأسلاك الشائكة أو غير ذلك من الشواهد التي توحي بأن المجتمع المحلي غير مرحب به هنا. بل إنك قد تصادف في صبيحة يوم أحد مجموعة من المراهقين المحليين يتسكعون فوق أحد شواطئ المخيم.
شُيِّد كل بناء بما يضمن الحد من تأثيره على الأرض ويسمح بإزالته دون أن يخلّف ذلك أي أثر بصري في المكان. هنا الطقس دافئ ورطب بعض الشيء، والصوت الوحيد الذي يمكن سماعه في ما خلا زقزقة العصافير هو هدير الموج.
يظهر بين الحين الآخر من بين الشجيرات عالم حشرات مجنحة بلحية غزاها الشيب (هو أحد ضيوف الفندق) ممسكًا بيده شبكة فيما يسعى في إثر عيّنات من الفراشات المتفرّدة التي تستوطن الجزيرة. يواظب هذا العالِم على زيارة برينسيب منذ عقود جامعًا فيها بين العطلة وبعض العمل الميداني.
إذا ما مشيت مسافة 15 دقيقة صعودًا عبر التل، سينتهي بك المطاف في روخا ساندي Roça Sundy، الفندق المكوّن من 16 حجرة والذي كان يشكل في الماضي بيتًا على أرض مزرعة. على مقربة من الفندق تقع المهاجع التي كانت مخصصة للعبيد في زمن الاستعمار والتي تشغلها إلى يومنا هذا نحو 150 عائلة.
يعمل العديد من السكان في مزرعة الكاكاو التي تشغّلها شركة HBD على أرض الملكية. أما الفندق الأخير والأشهر في الجزيرة، فيحمل اسم بوم بوم Bom Bom ويربض في موقع آسر معلقًا فوق جرف يمتد بين شاطئين أحدهما يواجه الشرق والآخر يقع قبالة الغرب، ما يتيح مشاهدة الشروق والغروب على حد سواء. يربط جسر الحجرات الأشبه بمقصورات بجزيرة صغيرة جدًا أقيم عليها مطعم المنتجع. تساعد حديقة صديقة للطيور، زرعتها والدة شاتلوورث التي تهوى مراقبة الطيور، على استقطاب الأجناس المتفردة التي تستوطن الجزيرة لترفرف في أنحاء الملكية.
آفاق المستقبل
اطلعت مجلة Robb Report حصريًا على المرحلة المقبلة من جهود شركة HBD في برينسيب. سيبدأ فندق بوم بوم، الذي بُني في الأصل في ثمانينيات القرن الفائت ليكون كوخًا للصيد، والمغلق حاليًا، في استقبال الضيوف مجددًا في وقت لاحق من هذا العام بعد اكتمال مشروع تجديده الشامل.
يقول شاتلوورث موضحًا: "إننا نحتفل بالشواطئ الرائعة، متيحين للضيف اختبار شعور روبنسون كروزو فوق شاطئ لم تطأه الأقدام من قبل. عندما تبحر مستقبلاً مرورًا بفندق بوم بوم، لن تعرف أنه موجود هنا". فضلاً عن ذلك، سيحظى فندق برايا ساندي بناد صحي جديد ومركز للياقة البدنية في الهواء الطلق مدمج في الغابة.
ابتاعت أيضًا شركة HBD بناء في عاصمة الجزيرة الصغيرة والواقعة على بعد رحلة بالسيارة تستغرق 40 دقيقة. هناك ستستحدث الشركة سوقًا، وصالة فنية، ومكاتب ومطعمًا، بالإضافة إلى بعض الحجرات المخصصة للضيوف. أما في فندق روخا ساندي، فتخطط الشركة لتجديد مهاجع العبيد سابقًا. يأمل شاتلوورث إعادة ابتكارها في سوق يستخدمه أهل ساو تومي المحليون لبيع الأطعمة أو المشغولات الحرفية. أما العائلات التي تقطن المهاجع حاليًا، فسيجري نقلها إلى قرية مجاورة حديثة تعمل الشركة على بنائها.
بذلت شركة HBD جهودًا حثيثة لضمان ألا تنطوي مشاريع البناء التي تتولاها على عنصر هدّام حتى وإن عن غير قصد. سعى شاتلوورث إلى تحقيق نهضة اقتصادية من خلال حضور الشركة في البلاد. على سبيل المثال، موظفو فندق روخا ساندي، الذين يبلغ عددهم نحو 50 فردًا، كلهم من أهل ساو تومي الأصليين باستثناء واحد فحسب.
فعلى ما هو شائع إلى اليوم في قطاع الضيافة في إفريقيا، مديرو العموم للملكيات الثلاث كلهم من العرق الأبيض. يعيش كثير من الموظفين في مهاجع العبيد سابقًا، ويمكن حتى للضيوف هنا أن يتناولوا الطعام في مطعم تديره امرأة تبدع في طهو الحبّار الرائع والسمك الطازج وتقدمه فوق مائدة طويلة ثُبتت تحت المظلة الخشبية التي تمتد من المهاجع الإسمنتية القديمة.
أما على المستوى البيئي، فقد وصلت إيما توزينكيافيتش في شهر مارس الفائت لتشغل منصب أول مديرة ميدانية للاستدامة تابعة لشركة HBD التي استقطبتها من نيويورك حيث كانت تشغل منصبًا تنفيذيًا في شركة KKR & Co. تُعد شركة HBD أيضًا جزءًا من مؤسسة لونغ ران Long Run غير الربحية التي تقرّب بين المنتجعات والأكواخ في الوجهات القصية من حول العالم، من كينيا إلى أستراليا، للتعاون في مجال تشارك الممارسات المستدامة.
يقول شاتلوورث: "من المهم أن يشعر الأشخاص الموجودون اليوم هنا أنهم مشاركون في مسيرة التطوير"، وهو يقر بأن الاسم المختار لمشروع المساكن الجديد الذي يطوره لينتقل إليه السكان الحاليون لمهاجع العبيد، وهو Terra Promitida أو الأرض الموعودة، قد يوحي بالتعجرف. لكن يبدو أن السكان المحليين هم الذين اختاروا الاسم. وفي هذا يقول: "لا أخفي أن الاسم صدمني. فهو لا يتناسب مع ذائقتي. لكني تجاوزت مشاعري الخاصة. ففي نهاية المطاف، نحن نعلم أن المجتمع المحلي كان يتوق بشدة إلى مساكن أفضل، وقد رأى في هذا المشروع خياره الأفضل".
تفاعل شاتلوورث منذ البداية مع أهل ساو تومي طالبًا مشورتهم. في رسالة إلكترونية، يكتب خوسيه كاساندرا قائلاً: "أعترف بأن الارتياب هو الانطباع الأول الذي انتابني عند لقاء شاتلوورث. تساءلت آنذاك: ما الذي يجعل شابًا، يبدو في الثلاثينيات من عمره، مهتمًا بالاستثمار في جزيرة منسية في المحيط الأطلسي؟".
كان كاساندرا، البالغ من العمر 57 عامًا، قد شغل منصب الرئيس الإقليمي لجزيرة برينسيب طيلة 14 عامًا، حتى أغسطس من سنة 2019، وعمل في غضون ذلك على نحو وثيق مع شاتلوورث في ظل تنامي اهتمامي شركة HBD في البلاد وتناسق رؤى الرجلين. يثني كاساندرا على مشروع المساكن الجديدة وعلى مقاربة شركة HBD لاستحداث الوظائف، والحفاظ على الموارد الطبيعية في الجزيرة حتى عندما كانت معدلات البطالة مرتفعة.
يسارع كاساندرا إلى دحض أي مخاوف بشأن ظاهرة استعمارية حديثة، مشيرًا إلى أن السكان المحليين يشغلون العديد من المناصب العليا في مشاريع مختلفة تابعة لشركة HBD. يكتب الرئيس السابق قائلاً: "نحتاج إلى مستثمرين يثقون بالإمكانات المتاحة في بلادنا، وفي مجالات مختلفة مثل الزراعة والسياحة، ويبدون استعداداً لإشراك السكان المحليين وتدريبهم على غرار ما فعلت شركة HBD. فمن شأن هذه الخطوة أن تسهم في بناء الدراية الوطنية التي ستتيح لنا أن نتولى بأنفسنا مشاريع التطوير. أما نقيض ذلك، فسيكون شكلًا من أشكال الاستعمار".
مخيّم ساندي برايا Sundy Praia / دولة ساو تومي وبرينسيب
واحات العزلة والسكينة
إنها كلمات تثلج الصدور، لكن شاتلوورث يدرك تبعات الصفقة الصعبة التي دخل فيها كاساندرا وبلاده. وفي هذا يقول: "من المحزن أن نرى مكانًا مثل برينسيب، هش وبديع وغني بالخيرات، ولا نفعل شيئًا حيال ذلك. قد ينظر أحدهم إلى هذه البلاد ويعتقد أنها ستهلك قريبًا، ثم يدير ظهره ويمضي في سبيله. فمسار التطوير يتبع في العادة منحنى تراجيديًا ويؤدي إلى تدمير الثقافة والهوية. هل كان السكان المحليون ليحظوا بحياة أفضل لو أني لم أتدخل؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال".
ربما يتخذ شاتلوورث موقفًا متواضعًا. فعندما أظهر اهتمامه بالجزيرة في بادئ الأمر، كان من المقرر بيع منطقة مزارع ساندي إلى شركة أغريبالما Agripalma المتخصصة في تصنيع زيت النخيل، ما يعني أن الشركة كانت ستقطع الأشجار في الغابة المطيرة لتزرع محلها أشجار النخيل، الأمر الذي يحقق نهضة اقتصادية بالطبع ولكن يؤدي في الوقت نفسه إلى كارثة بيئية. آنذاك، تقدم شاتلوورث وفريقه بعريضة إلى الحكومة لإثبات مقدرتهم على استحداث وظائف من دون تدمير الأدغال.
لا شك في أن جهود شاتلوورث تتناغم جيدًا مع التوجهات الحالية في قطاع السياحة الإفريقية على ما تقول ديب كالماير من شركة Roar Africa المتخصصة في تنظيم رحلات سفر نخبوية فاخرة.
ساو تومي
تضيف كالماير موضحة: "ثمة موجة جديدة من الوجهات التي بات بالإمكان بلوغها والتي تعد بتجارب فخمة من دون أن تقتضي أن يكون الضيف مغامرًا من الطراز الأول. من المؤسف أن البعض يعتقد أن الرحلة إلى إفريقيا تقتصر على تجارب السفاري في إفريقيا. فالساحل في بعض البلدان يوفّر مشاهد آسرة، حتى أنك قد تشعر عند الشواطئ الإفريقية بأنك تعيش على تخوم البراري. لن تجد هنا منتجعات مزدحمة بالضيوف على ما هو عليه الحال في جزر الكاريبي. ثمة جمال خام هنا".
تبقى دولة ساو تومي وبرينسيب واحدة من الدول التي تستقطب أقل نسب من السائحين في العالم. في عام 2018، بلغ عدد زوّارها 33 ألف فرد فقط، ثم تراجعت الأرقام على نحو بالغ بسبب جائحة كورونا. من المتوقع أن يبقى العدد منخفضًا، على الأقل لأسباب لوجستية: تنحصر الرحلات الدولية بتلك التي تربط البلاد بعدد محدود من المراكز الرئيسة في غرب إفريقيا مثل أكرا في غانا، والطريق إلى لشبونة التي بقيت من زمن الاستعمار. لذا توفّر الطائرات الخاصة وسيلة أسهل لزيارة ساو تومي وبرينسيب.
يستخدم شاتلوورث هذه الوسيلة ليزور البلاد ثلاث مرات في العام، حيث يمكث في ملكياته الفندقية شهرًا كاملًا، ما يتيح له متابعة مساعي شركة HBD عن كثب. يقول شاتلوورث: "بعد قضاء أسبوع واحد في برينسيب، أشعر بأني حسّنت جانبًا ما في ذاتي. الأمر يشبه الشعور المحسّن بالسكينة ولكن في الوقت نفسه الزخم لخوض التحديات. الحياة تمضي بنا في مختلف الأحوال، ونحن لن نحظى بفرصة الاستيقاظ ثم الذهاب مجددًا إلى النوم إلا بضع مرات، وهذا برأيي أمر بالغ الأهمية".