منذ أن أبصر قطاع الساعات الميكانيكية النور قبل قرون وإلى يومنا هذا، يستمر السباق المحموم بين كبار الصنّاع للإتيان بابتكارات تكرّس تفوّقهم في الإبداع والابتكار، لا سيّما على مستوى تطوير المزايا الهندسية والوظيفية للساعات.
وإن كانت التعقيدات الكبرى تشكل ذروة البراعة الهندسية في هذا المجال، فإن التقنيات الحرفية تعكس من جهتها بعدًا جماليًا يتكرّس به الجانب الفني في صناعة الساعات.
لكن هذا البعد لا يقتصر على زخارف تزيّن العناصر الداخلية من آلية الحركة أو أجزاء العلبة، بل يتجلى في أبهى صوره عبر موانئ يشكلها الصنّاع لوحات فنية مبهرة مستعرضين من خلالها المهارات المتقدمة لمحترفات الأعمال الفنية حيث تحرس الأنامل استمرارية حرف نادرة وقديمة، من رسم المنمنمات والطلاء بالمينا، إلى النحت والنقش، والتطعيم بالخشب أو الترصيع بالجواهر الكريمة وغير ذلك من تقنيات معقدة يفرض تنفيذها عبر المساحة بالغة الصغر للميناء وفوق مادته الهشة تحديات لا تقل أهمية عن الإتيان بتعقيد وظيفي متطور. نستعرض في ما يأتي ثلاثًا من أحدث ساعات الأعمال الفنية التي تستحق مكانة بين مقتنيات هواة جمع الفرائد.
Louis Moinet - Eight Marvels of the World
داخل صندوق للأمتعة صيغ من خشب الدردار وازدان بنقش فضي لزهرة الزنبق، يتهادى الوقت على إيقاع إبداع استلهمته لويس موانيه من ثماني عجائب عالمية افتتن بها المدير الإبداعي للدار ورئيسها التنفيذي جان – ماري شالر.
يتدثر الجزء الداخلي من الصندوق بكسوة جلدية سوداء يزيّنها رسم طباعي معزز بالألوان المائية للكرة الأرضية التي أبدعها يوهان غابرييل دوبلماير في القرن الثامن عشر.
Louis Moinet - Eight Marvels of the World ساعة لويس موانيه
أما الساعات الثماني (المعروضة للبيع معًا بسعر 2.5 مليون دولار)، فيتجلى ميناء كل منها لوحة آسرة استحضر حرفيو الدار من خلالها بعض المعالم الأشد روعة في العالم، موظفين في ترجمتهم الفنية لكل منها تقنيات حرفية معقدة.
في علبة ساعة نُحتت خطوطها يدويًا على نسق الزخارف في تاج محل، أبرزت الدار التفاصيل الهندسية لهذا المعلم الشهير مستخدمة تقنية رسم المنمنمات فوق ميناء من الرخام الأبيض، فيما شكلت قاعدة الميناء في ساعة أخرى من عرق اللؤلؤ في 13 ظلاً مختلفًا للون الأزرق لتنحت الأنامل فوقها معالم المسجد الأزرق في إسطنبول، مستعيدة أيضًا فن الأرابيسك الإسلامي في الزخارف المتداخلة للعلبة.
ساعات تستنسخ في موانئها مشاهد للمسجد الأزرق في إسطنبول، وهرم خوفو في مصر، والبتراء في الأردن.
Louis Moinet - Eight Marvels of the World
أما البتراء في الأردن، فتجسّدت بتقنية الرسم بالترميد لمحاكاة الحجارة الرملية الحمراء. وفي طراز آخر، صيغ هرم خوفو من الذهب المصقول بحبيبات من طلاء المينا ليجاور تمثال الفرعون الذي صُنع من البازلت فيما نُفذت عصابة رأسه بالذهب بتقنية رسم المنمنمات.
يستقر الهرم والتمثال فوق ميناء مشغول من حجر طبيعي يحاكي الكثبان الرملية في مصر ومزدان بكتابات هيروغليفية اعتُمدت في ابتكارها تقنية رسم شفافة. شملت المجموعة أيضًا ترجمة حرفية بالغة الإتقان لسور الصين العظيم، والمدرج الروماني في إيطاليا، وتمثال الفادي في ريو دي جانيرو، ومدينة ماتشو بيتشو في دولة بيرو.
Louis Moinet - Eight Marvels of the World
”Jaquet Droz - Bird Repeater “300th Anniversary Edition
حققت جاكيه درو سنة 2012 إنجازًا ثوريًا في عالم ساعات المعصم عندما قدمّت طراز Bird Repeater الذي جمعت فيه بين الإبداع المميّز لمحترفات الأعمال الفنية وإرثها العريق في الإتيان بساعات آلية الحركة لا مبالغة في القول إنها شكلت سلفًا للكائنات الآلية في عصرنا الحالي. فمنذ زمن المؤسس بيار جاكيه – درو، اشتهرت الدار بابتكاراتها من التماثيل الميكانيكية والساعات التي تتحرّك أجزاؤها لتبعث الحيوية في مشهد ما.
وفيما تكرّم جاكيه درو مؤسسها في الذكرى الثلاثمائة لولادته، تطرح إصدارًا خاصًا من هذا الطراز يعيد مرة أخرى تأكيد ملكة الإبهار الراسخة في هويتها.
”Jaquet Droz - Bird Repeater “300th Anniversary Edition
في الساعة التي تستوطن علبة من الذهب الوردي بقطر 47 ملليمترًا، يتجلّى الميناء مهرجانًا ربيعيًا شكّله الحرفيون بتقنيات النقش والطلاء مجسمّات مصغّرة عن كائنات تتحرك على إيقاع الوقت في لوحة طبيعية متقنة الصنع.
فبإيحاء من الطبيعة في منطقة لا شو دو فون حيث ولد المؤسس الأول سنة 1721، ينبعث الميناء مشهدًا ملونًا آسرًا يتصدره عصفوران من فصيلة أبي الحناء يحرسان فراخهما والبيوض المفقوسة، أمام خلفية لمزرعة يعبرها نهر يحاكي نهر لاروند الذي يجري عبر سهل لا شو دو فون، فيما تظهر في الجزء الأيمن منها نسخة طبق الأصل عن البيت الريفي الذي شهد ولادة جاكيه – درو.
تثري المشهد أيضًا زهرة الكوشاد الصفراء – التي يستخدم صناع الساعات حبيباتها الخشبية الدقيقة لصقل ابتكاراتهم – فضلاً عن ثمار التوت الحمراء، وأوراق البهشية، وفراشة زرقاء تعلن قدوم الربيع، حتى حشرة يعسوب وجندب.
تطرح الدار ساعتها الاحتفالية ذاتية الحركة في ثمانية نماذج فقط مجهّزة أيضًا بتعقيد معيد الدقائق الرنّان.
”Jaquet Droz - Bird Repeater “300th Anniversary Edition
Vacheron Constantin - Métiers d’Art Tribute to Great Explorers
لطالما أظهرت فاشرون كونستانتين براعتها في استخدام فن الطلاء بالمينا للإتيان بابتكارات ترقى بثراء ألوانها وتفاصيلها إلى مستوى أعمال فنية متقنة. أما أحدث الشواهد على إتقان هذه التقنية المعقدة، فيتمثّل اليوم بثلاثة طُرز جديدة تُضاف إلى مجموعة الأعمال الفنية المخصصة للاحتفاء بعظماء المستكشفين.
في إصدار هذا العام، الذي يضم ثلاث ساعات سيقتصر إنتاج كل منها على عشرة نماذج، تكرّم فاشرون كونستانتين بابتكارها ثلاثة مستكشفين برتغاليين من القرن التاسع عشر هم بارتولومو دياس، وفاسكو دي غاما، وبيدرو ألفاريس كابرال. في كل من الساعات المشغولة في علب من الذهب الوردي بقطر 42 ملليمترًا، عكف الحرفيون على تشكيل الميناء لوحة تصوّر أجزاء منتقاة من خارطة أطلس ميللر تعود إلى سنة 1519.
Vacheron Constantin - Métiers d’Art Tribute to Great Explorers
نُفذت اللوحات فوق الموانئ المصنوعة من الذهب باستخدام مسار معقد لفن الطلاء بالمينا يستغرق في كل مرة شهرًا كاملاً ويقتضي تثبيت الطلاء من خلال 11 عملية إشعال في الفرن على حرارة تراوح بين 800 درجة مئوية و900 درجة مئوية بهدف استنساخ الألوان والزخارف الدقيقة التي تشمل تحديد الطرق البحرية التي اتّبعها المستكشفون في رحلاتهم. في الساعة التي تحتفي بفاسكو دي غاما، يتيح طلاء المينا الأحمر تتبّع المسار البحري الذي سلكه أسطوله المكوّن من أربع سفن عبر طول ساحل شمالي إفريقيا حتى كينيا قبل العبور باتجاه جزر الهند التي بلغها سنة 1498.
ينسحب الإبداع الفني أيضًا على أجزاء المعيار الحركي Calibre 1120 AT حيث الوزن المتأرجح شُكل في هيئة وردة الرياح، أداة قياس سرعة الريح واتجاهها. تتميّز آلية الحركة أيضًا ببنية متفرّدة ثُبتت فيها عجلة الساعات أسفل الجزء العلوي من الميناء وزودت بثلاثة أذرع يحمل كل منها أرقامًا لمدة أربع ساعات. تمكّن وحدة الأقمار الصناعية المبتكرة هذه الساعات من التنقل عبر الميناء من أعلى إلى أسفل، عبر دائرة الدقائق الثابتة.