بلغت طائرة الكونكورد أوج ازدهارها في أوائل سبعينيات القرن الفائت، وأصبحت آنذاك مثالاً يُحتذى به للسفر الفاخر الخارق لجدار الصوت. بل إنها ظلت على حالها هذا إلى أن فُرضت القيود على الضوضاء والانبعاثات. وما إن حلّ عام 2003 حتى أفلت شمس هذه الطائرة الحالِمة.
الطيران بسرعة أكبر من الصوت.. شركات تستعد لحمل الراية بعد طائرة كونكورد
وبعد عقدين من آخر رحلة لطائرة كونكورد، يتغنّى بليك شول، مؤسس شركة "بوم سوبرسونيك" Boom Supersonic ورئيسها التنفيذي، مرة ثانية بإمكانيات الطيران الخارق لجدار الصوت. وفي هذا يقول: "لا تتعلق السرعة بالتحليق السريع فحسب، بل بالوقت الذي نقضيه مع أحبائنا وأقاربنا، والمكان الذي نستطيع بلوغه لإنجاز أعمالنا".
على أن شُول ليس وحده المفتون بفكرة إحياء الطيران الخارق لجدار الصوت. فمن الشركات التي تحاول إنعاش هذا الأسلوب في الطيران شركة Spike Aerospace التي تعمل على تطوير طائرة رجال أعمال تُحلق بسرعة أكبر من سرعة الصوت، شأنها في ذلك شأن شركة "لوكهيد مارتن"Lockheed Martin التي تعاقدت معها وكالة ناسا لبناء طائرة X-59 المخصصة للاستخدام المدني.
كما تعتزم شركات أخرى مثل "ديستينوس" Destinus و"هِرموس" Hermeus رفع مستوى التحدي والتفوق على المنافسين عن طريق بناء طائرات تُحلق بسرعات تفوق سرعة الصوت بخمس مرات. مع ذلك، خابت بعض الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك جهود شركة "أيرون" Aerion التي كانت ذات يوم رائدة صناعة الطائرات الخارقة لجدار الصوت، والتي أغلقت أبوابها فجأة في عام 2021 بعد قرابة 20 عامًا من إحياء آمال متابعيها.
طائرة Overture.. أول طراز تنتجه شركة بوم
تواجه شركة بوم بدورها عقبات كثيرة، ليس أقلها اسمها. منذ عام 1973، جرى حظر الطيران الخارق لجدار الصوت فوق الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بسبب التأثيرات السلبية للدويّ المسموع الذي يحدث عند كسر حاجز الصوت.
ويقول شول إن طائرة Overture، التي ستكون أول طراز تنتجه شركة بوم، ستحلق بسرعة تبلغ 1.7 ماخ (ما يعادل 1,304 أميال/الساعة) فوق البحر، فيما ستحلق فوق اليابسة بسرعة تبلغ 0.94 ماخ (ما يعادل 721 ميلاً/الساعة)، أي أقل من سرعة الصوت، ومن دون خرق القيود المفروضة على الضوضاء.
وخلافًا لما هو عليه حال كونكورد ومحركات الدفع المعززة بوحدة الحارق اللاحق التي تعتمدها، تعتزم شركة بوم استخدام محرك توربيني مروحي يمتاز بنسبة التفاف متوسطة، أطلقت عليه اسم Symphony، وسيشتمل على مزايا عدة بغرض الحد من الضوضاء.
على الورق، تبدو آفاق بوم واعدة. فقد تلقّت 130 طلبًا من شركات طيران مثل أمريكان إيرلاينز American Airlines، ويونايتد إيرلاينز United Airlines، والخطوط الجوية اليابانية، بالإضافة إلى تعاونٍ مع شركة "نورثروب غرومان" Northrup Grumman لتطوير طائرات عسكرية.
وهمّت الشركة أخيرًا بإنشاء مصنع جديد في ولاية كارولينا الشمالية، حيث سيجري إنتاج طائرات Overture في وقت ما من العام المقبل. ولكن كثيرًا من العاملين في قطاع طيران الأعمال يشككون في أن الطائرة ستحلق يومًا، لا سيما بعد أن صرّح كبار صانعي المحركات، مثل برات أند ويتني، ورولز - رويس، وجي إي أفييشن GE Aviation، وهانيويل أيروسبيس Honeywell Aerospace، وسافران Safran، بأنهم غير مهتمين بتطوير نظام دفع للطائرة.
في معرض حديثه عن التعاون الثلاثي بين شركات Florida Turbine Technologies وGE Additive وStandardAero لتطوير نظام الدفع الخاص بالطائرة، يقول خبير قطاع الطيران براين فولي: "لقد أعلنت بوم الآن عن هذا الاقتران المذهل بين هذه الشركات لتطوير محرك طائرتها. لكن هذه الخطوة تبدو خطوة متعمدة ويائسة لاستخلاص حل مناسب".
ويضيف قائلاً: "إن تصميم محرك ليس بالمهمة اليسيرة، لا سيما إذا كانت البداية من نقطة الصفر. ويُرجح أن يتطلب الأمر إنفاق مليارات الدولارات، وذلك من دون احتساب تكلفة التصميم".
إن التحديات الهندسية المرتبطة ببناء مثل هذه الطائرات من دون خرق مختلف القوانين المفروضة خلال القرن الحادي والعشرين تحديات هائلة. وقد وصف أحد خبراء القطاع، الذي طلب ألا يُذكر اسمه، الأمر بأنه "مثل مكعب روبيك.
فما إن تُكمل ترتيب واجهته الصفراء، حتى تسري الفوضى في الأوجه الزرقاء والخضراء". على أن ثمة مسألة أكثر أهمية، وهي التمويل. تقول بوم إن مقدار ما جمعته حتى الآن لا يتعدى 600 مليون دولار. وفي هذا يقول فولي: "لا يُقدّر كثير من المتابعين، ومنهم بعض العاملين في القطاع، الأموال الطائلة التي ينبغي إنفاقها للخروج بنتيجة مُرضية".
يتحدث بعض المراقبين بصراحة عن الهوة القائمة بين الواقع الحالي والمنتج النهائي. وفي هذا الصدد، يقول ريتشارد أبو العافية، العضو المنتدب في شركة AeroDynamic Advisory: "إن ما تعرضه شركة بوم ليس إلا مجموعة من الرسومات التصوّرية المثيرة للاهتمام". ويتابع: "أنا لا أرى شيئًا ذا أهمية هنا باستثناء محاولة لجذب الأموال. نعم، لقد استطاعوا تأمين مبلغ معين، ولكنه ضئيل للغاية بالقياس إلى معايير قطاع الطيران".
يُقرّ شول بأن جهوده لجمع الأموال لا تقترب من المقدار المحدد الذي يضمن طرح طائرة Overture في الأسواق، والذي يراوح بين 6 مليارات و8 مليارات دولار، ولكنه يردّ على المشككين قائلاً: "لقد حقّقنا ما قال خبراء القطاع إنه مستحيل. إن التكنولوجيا اللازمة موجودة وكذلك سلسلة التوريد، كما أن الحاجة إلى إقامة علم جديد منعدمة. فالتقنيات الأساسية في هذه الطائرة كلها أثبتت كفاءتها من قبل".
بغض النظر عن تكثيف بعض شركاء بوم، مثل يونايتد إيرلاينز، جهود التسويق للطيران الخارق لجدار الصوت، يدرك خبراء القطاع التحديات العسيرة التي تحول دون تحقيق هذه الغاية، وذلك بالرغم من إقرارهم بجاذبيتها. يقول أبو العافية: "قد يكون هذا جزءًا من المشكلة. فالفكرة جذابة للغاية، وستجذب ما يكفي من الأموال لتظل غير متحققة فترة طويلة".