لعقود تربعت رولكس Rolex على القمة بين أشهر العلامات في عالم الساعات الفاخرة وأهمها، لكن اهتمامنا بفخامة ودقة ما تقدمه هذه العلامة البارزة، ربما لم يترك لنا مجالاً كافيًا لتتبع حياة مؤسسها النابغ هانز ويلسدورف Hans Wilsdorf، ذلك الرجل الذي تنسب إليه الروح البراقة المليئة بالطموح والمثابرة والتحدي والابتكار، والمنطلقة إلى السماء بين الحروف الخمس للتاج الأشهر في عالم الوقت.

فعلى الرغم من حقيقة أن رولكس هي واحدة من أكثر العلامات شهرة، إلا أنه لم يُنشر سوى القليل عن مؤسسها الذي كان له على مدار تاريخه الحافل نظرة ثاقبة وعقل مستبصر بالمستقبل، وملكات متنوعة استطاع من خلالها إحداث ثورة حقيقية في تصاميم الساعات وصناعتها وتجارتها، وهي الثورة التي قادها واستمرت إلى يومنا هذا. فمن هو هانز ويلسدورف وكيف كانت قصة نجاحه؟

التعلم والمثابرة

كانت البداية بميلاد هانز ويلسدورف في 22 مارس 1881 في بافاريا بألمانيا، لأسرة مكونة من الوالدين وثلاثة أبناء هم كارل وهانز وآنا. وقد توفيت والدته وتبعها بوقت قصير والده، ليصبح الطفل هانز يتيمًا ببلوغه عمر 12 عامًا، فانتقل وإخوته ليعيشوا مع أعمامه، الذين قرروا بيع ممتلكات والديه وإلحاقه بمدرسة داخلية، ومن ثم تبعثر ميراث هانز بينما كان لا يزال طفلاً، لذلك كان عليه أن يدبر أمره ويعتمد على نفسه في وقت مبكر جدًا من حياته، إذ كان لا يملك سوى رؤية يغلفها الأمل في المستقبل، مع المثابرة والقدرة الاستثنائية على العمل والتغلب على مختلف العقبات.

في كلية إدارة الأعمال في بايرويت أظهر هانز اهتمامًا خاصًا بالرياضيات واللغات، ما ساعده على السفر والعمل في بلدان أخرى، فانتقل إلى جنيف بسويسرا ليبدأ حياته المهنية متدربًا في شركة مهمة لتصدير اللؤلؤ، أمدته بخبرة كبيرة، وصفها بأنها كانت خبرة لا تقدر بثمن خلال مسيرته المهنية.

وفي عام 1900، التحق هانز بشركة Cuna Korten السويسرية المتخصصة في تصدير ساعات الجيب، ونظرًا لأنه كان يتحدث الإنجليزية والألمانية والفرنسية، فقد كان مسؤولاً عن التعامل مع المراسلات التجارية التي ساعدته لاحقًا في فهم التسويق الدولي، كما أتاحت له فرصة ممتازة لدراسة صناعة الساعات عن كثب، وفحص مختلف أنواعها سواء المنتجة في سويسرا أو خارجها. بل إنه كان مسؤولاً أيضًا عن تعبئة عدة مئات من الساعات يوميًا ومراقبة دقتها، فأصبح شغوفًا بهذا العالم مثلما أصبح شغوفًا بصنع ساعات مثالية.

بعد نحو ثلاث سنوات انتقل هانز إلى المملكة المتحدة، حيث عاش في لندن وعمل بشركة أخرى لصناعة الساعات، وهناك لقي زوجته الأولى فلورنسيس ماي ويلسدورف كروتي التي استمر زواجه منها لأكثر من 31 عامًا حتى وفاتها.

هانز ويلسدورف مؤسس علامة رولكس

Rolex

الانطلاقة الحقيقية

بحلول عام 1905 كان هانز ويلسدورف قد اكتسب الثقة، فقرر بدء عمله الخاص وأسس وشقيق زوجته شركة ويلسدورف أند دايفيس Wilsdorf & Davis برأسمال متواضع، وتخصصا في بيع الساعات وقطع الغيار، بينما أتي تواصله مع Hermann Aegler of Bienne  المصنعة لأحدث حركات الساعات في ذلك الوقت بثمار كبيرة، إذ بدأ التعاون الذي كان هو الخطوة الأولى للأمام في صعود شركته الوليدة.

كان ويلسدورف يمد المصنع بالأفكار الجديدة والتصميمات لتنفيذها، خارجًا عن الإطار التقليدي والمألوف آنذاك، ما ساهم في تشكيل ذوق مختلف للرجال والنساء، أدى إلى نجاح تجاري كبير بالرغم من العقبات، التي كان أبرزها إقناع الرجال بارتداء ساعات المعصم بدلاً من ساعات الجيب وثقافتها السائدة، والأهم تطوير صناعة الساعات لتقديم ساعة موثوقة وصغيرة الحجم، يمكنها مقاومة تأثير الجاذبية بسبب حركة اليد ومختلف العوامل الخارجية المحيطة بها.

جاء عام 1908 لتصبح ويلسدورف أند دايفيس واحدة من الشركات الرائدة في تجارة الساعات البريطانية، وهنا حان الوقت للتفكير في منح ساعتها اسمًا تجاريًا خاصًا بها، يمكن مهره على الموانئ، وهو ما كان يتعارض مع تقليد قديم جدًا لتجارة الساعات الإنجليزية، إذ كان كبار مستوردي الساعات هناك يصرون دائمًا على إبراز أسمائهم دون غيرها على الموانئ أو آليات الحركة.

وبعيدًا عن المعارضة القوية التي واجهها هانز ويلسدورف، وكيف استطاع في النهاية كسرها بالعمل المتقن والتفاوض على مدار سنوات، إلا أنه كان قد اهتدى لاختيار كلمة تمثله هي Rolex، التي حاول من خلالها تقديم كلمة قصيرة يسهل حفظها ولا يتغير نطقها بين اللغات الأوربية المختلفة، لتكون هي علامته التجارية التي سجلها بالفعل في سويسرا عام 1908.

لكن العلامة لم تنطلق بشكل معلن إلا في عام 1925، إذ استغرق الإعلان الكامل عنها نحو 20 عامًا من العمل والتطوير المستمر. فقد كانت العلامة قبل ذلك التاريخ تضع شعارها على ساعة واحدة من كل ست ساعات، ثم على اثنتين فثلاث، حتى انطلقت رولكس رسميًا من خلال حملة إعلانية مكثفة، تمكنت بعدها من تغيير مختلف الأمور لصالحها.

هانز ويلسدورف مؤسس علامة رولكس

Rolex

التطوير الدائم

خلال الفترة بين التاريخين كان هانز قد استطاع تسجيل أول آلية حركة لساعاته، والتي أعقبها عدد كبير من الاعتمادات والشهادات والتقديرات، ما مكّن الشركة من الانتشار والتوسع عالميًا بالرغم من الظروف الدولية التي كانت سائدة آنذاك، والتي دفعته في بعض الأحيان إلى تغيير مقراته والتنقل بين الدول.

واستمرت العلامة منذ إطلاق شعارها بخطى ثابتة لتحقيق حلم هانز في نشر ساعة المعصم، حتى انطلقت بعيدًا خارج المنافسة ببراءة اختراع رولكس أويستر المقاومة للماء، ثم تقديم آلية الحركة الأوتوماتيكية ذاتية التعبئة. استثمرت العلامة الكثير، واعتمدت ومؤسسها النابغ منهجًا خاصًا بالبحث عن الجديد من الاختراعات لضمها وتقديمها، وكذلك تسجيل براءات الاختراع الخاصة التي تجاوز مجموعها حتى الآن 500، مع الاستثمار المستمر بإطلاق علامات أخرى كلما استشعرت حاجة السوق لذلك، مثل إطلاق تيودور Tudor التي أسسها هانز عام 1946.

هانز ويلسدورف مؤسس علامة رولكس

Rolex

كان لدى هانز ويلسدورف رؤية مختلفة جدًا وسابقة لعصره، استطاع من خلالها الرهان دائمًا على المستقبل، مستشرفًا حتمية إحداث ساعة المعصم لثورة في عالم صناعة الساعات، تتسبب في زيادة المبيعات والتطوير المستمر. وبالرغم من أن رولكس لم تخترع التعبئة الذاتية مثلاً، إلا أن هانز كان أول من أتقن ضمها واستثمارها وتقديمها للأسواق بنجاح.

كما كان هانز عقلاً تسويقيًا لامعًا، فقد استثمر الأحداث في عصره والعلاقات مع الشخصيات البارزة لتحقيق أهدافه التسويقية ووضع علامته في مكانها المستحق، فوضع ساعات رولكس على معاصم العديد من الشخصيات البارزة حول العالم، بدءًا من الجنرال جيسان مرورًا بالسير وينستون تشرشل والرئيس أيزنهاور.

بل إنه ابتكر أيضًا مفهوم سفراء العلامة منذ عام 1927 عندما قدم ساعته المقاومة للماء مع السباحة البريطانية مرسيدس غلايتس، وجعل من العالم مختبرًا لساعاته المختلفة، التي أخضعها تقريبًا لمختلف الظروف في أقسى الأماكن على الكرة الأرضية.

واستمر عقل هانز المتقد يعمل ويطور حتى رحل عام 1960، تاركًا إدارة إرثه الضخم لصندوق Hans Wilsdorf Trust  الذي أنشأه عام 1944 بعد رحيل زوجته الأولى، وبعد أن وضع ببراعة من اللوائح ما يكفي لضمان استمرار علامته وكأنه لا يزال حيًا، لتستمر رولكس بفكر مؤسسها وروحه في حفر اسمها في أبرز صفحات تاريخ صناعة الساعات الراقية.