لا تنفك محافظة العُلا السعودية، التي تكرّست هويّتها متحفًا أثريًا وتاريخيًا مفتوحًا، تقدّم نفسها أيضًا وجهة عالمية للفنون في القرن الحادي والعشرين. وقد يكفي شاهدًا على ذلك مهرجان العلا للفنون الذي تحوّل منذ انطلاقه في عام 2022 إلى حدث راسخ في التقويم السنوي لفعاليات لحظات العُلا، مشرعًا فضاءات واحة العُلا القديمة أمام إبداعات الفنانين المحليين والإقليميين والعالميين، وفناني الأداء، والقيّمين وجامعي الأعمال الفنية وغيرهم.

وفي نسخة ثالثة تنعقد هذا العام من تاريخ 9 فبراير الحالي إلى 2 مارس المقبل، انطلق مهرجان العُلا للفنون، الذي يُنظم تحت مظلة الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ويحتفي بالإرث الثقافي الممتد عبر آلاف السنين في هذه الواحة الصحراوية التي استوطنتها حضارات متعاقبة، انطلق تحت شعار"الفن بلا حدود"، مشفوعًا ببرنامج موسّع من الأحداث والمعارض والمبادرات الإبداعية التي تُقام على مدار 22 يومًا في رحاب الطبيعة الصحراوية الآسرة والملهمة.

واحة القصص في وادي الفن

ضمن فعاليات مهرجان العلا للفنون لهذا العام، يقدّم وادي الفن عرضًا تمهيديًا لعمل تركيبي بعنوان "واحة القصص" كُلفت به منال الضويان، التي تُعد من أبرز الفنانين المعاصرين في المملكة العربية السعودية. في "واحة القصص"، تجسّد الضويان فن الأرض بمتاهة عملاقة مستوحاة من المدينة القديمة في العلا، ومن المتوقع أن يجري تركيبها بشكل دائم وسط المناظر الصحراوية الشاسعة في العلا ابتداءً من عام 2026.

أما المعرض التمهيدي، الذي يشكل معلمًا بارزًا في مسار تطوير "واحة القصص"، فتجتمع فيه مئات الرسومات التي تضيء على ممارسات الضويان ومشاركاتها في ورش عمل مع أهالي العُلا. ومن المتوقع أن تثبت هذه الأعمال في نهاية المطاف على جدران "واحة القصص" بما يتيح للمجتمع المحلي توثيق أثر دائم في وادي الفن.

وفيما يشكل هذا الحدث واحدًا من معرضين متجاورين نُظّما في حي الجديدة الفني في قلب العُلا لاستضافة أعمال مختلفة في فنون الرسم والخزف والنحت والنسج، يتعمّق المعرض الآخر، الذي يقُدّم بالتعاون مع غاليري سابرينا آمراني تحت عنوان "حبهم مثل كل حب، وموتهم مثل كل موت"، في ممارسة الفنانة الضويان من خلال أعمال تشمل منحوتات ناعمة مشغولة من حرير توسار وتتباهى بصور مطبوعة تحتفي بتراث العُلا، ورسومات على هيئة متاهات تستلهم معالم مدينة العُلا القديمة، وأعمالاً من الصلصال شُكلت من الطين الذي جمعته من مختلف أنحاء المملكة، فضلاً عن أجزاء من جدارية تجسد نسيج "السدو التراثي"، الذي كانت تستخدمه نساء البدو قديمًا.

مهرجان العُلا للفنون.. مشاريع عملاقة ومبادرات إبداعية تحتفي بالموروثات الثقافية.

AlUla

جائزة إثراء للفنون: النخيل في عناق أبدي

شهد مهرجان العلا للفنون أيضًا إماطة اللثام عن العمل الفني "النخيل في عناق أبدي" للفنان عبيد الصافي، الفائز بجائزة إثراء للفنون، والتي تُعد الأكبر على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن نافل القول إن هذه النسخة من الجائزة هي الأولى التي تشهد تعاونًا بين مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» وفنون العُلا، وذلك في إطار شراكة أوسع بين الجهتين لدمج جهودهما بهدف دعم الإبداع في المملكة العربية السعودية والمنطقة بشكل عام.

سوف يستمر عرض التركيب الفني الضخم "النخيل في عناق أبدي" لمدة ستة أسابيع في موقعه وسط 2.3 مليون نخلة في واحة العلا، ما من شأنه تحفيز المشاهدين على التأمل في طرق الحفاظ على البيئة الطبيعية، بهدف لفت الانتباه إلى أشجار النخيل المهددة بالانقراض، والتي تعد رمزًا للطبيعة والتراث في شبه الجزيرة العربية.

مهرجان العُلا للفنون.. مشاريع عملاقة ومبادرات إبداعية تحتفي بالموروثات الثقافية.

AlUla

التصميم والفنون البصرية في برنامج إقامة العلا

وفي سياق المهرجان، يضيء برنامج إقامة العُلا على معرضين: أحدهما يحتفي بالفنون البصرية تحت عنوان "وما تبقى لنا" فيما الآخر الذي يحمل اسم "رَحِم خفيّة" يتناول موضوع التصميم.

أقيم المعرضان اللذان يستمران حتى 30 أبريل المقبل في مواقع خارجية مميزة في بستان النخيل بفندق مبيتي، وفي مدرسة الديرة، حيث شملت المعروضات قطعًا فنية من إبداع فنانين ومصممين دوليين جرت دعوتهم للمشاركة في برنامج إقامة العلا الفنية، والذي أسس بالشراكة مع الوكالة الفرنسية لتطوير العلا (Afalula).

وفي هذا يقول آرنو موران، رئيس قسم الابتكار والإبداع في الوكالة: "يقدم برنامج إقامة العلا الفنية إطارًا عمليًا يمكّن المبدعين من تقديم رؤية حول تفاعل المجتمع مع المتغيرات وسبل مواكبتها. ويرى موران أن "البرنامج يتيح الاستفادة من تصوّرات الفنانين وأسئلتهم، فضلاً عن رؤيتهم النقدية، موفرًا مساحة غير مسبوقة لتطوير ممارساتهم، فيما يشكل ركيزة أساسية في مجال الفنون وخارطة طريق ترسم استراتيجيات صناعة الإبداع في العلا، بما يتيحه من وسائل مرنة متجذرة بعمق في الأرض وتراثها، على عكس البرامج المخففة ذات المدى الزمني القصير التي قد تكون أحيانًا أقل عمقًا".

مهرجان العُلا للفنون.. مشاريع عملاقة ومبادرات إبداعية تحتفي بالموروثات الثقافية.

AlUla

الأزياء والهوية الثقافية

تشمل أحداث مهرجان العُلا للفنون أيضًا معرض العلا 1445 الذي يتيح للضيوف استكشاف الرؤية الإبداعية للفنان حسن حجاج الذي يشتهر بقدرته على المزج بين الفن المعاصر والأزياء والهوية الثقافية. وكان حجاج قد التقط مجموعة من الصور لأهالي العلا في فبراير 2023 في أحد الاستوديوهات المفتوحة بمدرسة الديرة، وتناول من خلالها موضوعات متنوعة شملت المزارعين، والفرق الرياضية، والتجار، والحرفيين، والمجتمع الإبداعي.

تستطيعون أيضًا تعرّف مقاربات فنانين سعوديين آخرين في معرض «رَمّيْ عَيني» الذي يستمر في قاعة مرايا حتى أواخر شهر أبريل. يُعد هذا المعرض، الذي تتولّى الإشراف عليه الدكتورة عفت عبد الله الفدغ، جزءًا من البرنامج الاحتفالي السابق للافتتاح الرسمي لمتحف الفن المعاصر في العلا، وهو يستعرض أعمالاً فنية معاصرة مستعارة لفترة محدودة من الجامعين في المملكة العربية في محاولة لإعادة تعريف تاريخ الفن المعاصر في البلاد وتوثيق قصص الفنانين ودور مقتني الأعمال الفنية في تطوير المشهد الفني.

يستكشف المعرض الروابط والتأثيرات والقصص المتوارثة عبر أجيال الفنانين السعوديين، وذلك من خلال عرض أعمال فنانين سعوديين أمثال عبد الحليم رادوي، ومحمد السليم، ومنيرة موصلي، جنبًا إلى جنب مع أعمال الفنانين السعوديين المعاصرين البارزين مثل أحمد ماطر، ومهند شونو، ودانا عورتاني.

مهرجان العُلا للفنون.. مشاريع عملاقة ومبادرات إبداعية تحتفي بالموروثات الثقافية.

AlUla

الكنز المخبوء في صحراء X العلا

يعود المعرض الفني الدولي المفتوح، صحراء X العلا، في نسخته الثالثة، التي تستمر من 9 فبراير إلى 23 مارس الحالي، تحت شعار "في وجود الغياب"، محتضنًا 15 مشروع تكليف جديدًا نُسقت تحت إدارة رنيم فارسي ونيفيل ويكفيلد وبمشاركة القيّمين مايا الخليلومارسيلو دانتاس.

ولا يعود شعار المعرض مستغربًا إذا ما أخذنا في الحسبان أنه يضيء على ما تستحيل رؤيته في ظل تجاهل الصحاري في أغلب الأحيان بوصفها مساحات فارغة يخيّم عليها السكون في حين أنها تُخفي أكثر بكثير مما يمكن للعين أن تراه. بل إن هذا ما تبوح به الأعمال المشاركة في هذه الدورة من صحراء X العلا والتي تتوزّع عبر ثلاثة مواقع هي: المساحات الطبيعية الصحراوية لوادي الفن، وتضاريس الحمم الصخرية السوداء في حَرَّة عويرض، وساحة المنشية التي تكشف عن فصول التاريخ المتلاحقة والاندماج الثقافي في العُلا.

مهرجان العُلا للفنون.. مشاريع عملاقة ومبادرات إبداعية تحتفي بالموروثات الثقافية.

AlUla

تحفيز الإبداع في مساحة التصميم بالعُلا

ابتُكرت مساحة تصميم العلا التي افتُتحت هذا الشهر في حي الجديدة الفني بهدف تعزيز التعاون بين المحترفين في مجال التصميم والطلاب وهواة التصميم، إلى جانب الاحتفاء بإرث العلا بوصفه محفزًا للإلهام الإبداعي والتصميم. فهذه المساحة، التي تستكشف مبادئ التصميم ومراحله من خلال عدسة المشهد الطبيعي والثقافي في العلا عبر سلسلة من المعارض وورش العمل والتوثيق التي تشرف عليها جميعًا سارة غاني، ستشرع أبوابها في وجه شتى منابع التصميم، من الهندسة المعمارية إلى التخطيط الحضري، والإنتاج، والتصميم الغرافيكي.

أما المعرض الافتتاحي "ماورد: الاحتفال بالتصميم المستوحى"، الذي أقيم في أواسط هذا الشهر تحت إشراف غاني، فيسلط الضوء على سبل التفكير في التصميم من خلال 10 أعمال مستوحاة من العلا في مجالات التصميم والهندسة المعمارية والتخطيط العمراني، إلى جانب ورش عمل وجلسات حوارية جماعية وجولات تصميم.