أصبح معرض فن أبوظبي حدثًا محوريًا في المشهد الفني العالمي، إذ يجتذب اهتمامًا دوليًا متواصلاً بفضل رؤيته المتجددة وتدفّق الاستثمارات عليه من جهات فاعلة بقوة في سوق الفن.
وكانت دورة هذا العام حافلة بالنقاشات حول التغيرات التي طالت المعرض في السنوات الأخيرة والمشاركة المحتملة لمعرض آرت بازل بداية من عام 2025.
ناقش الوافدون باستفاضة إمكانية إجراء عملية استحواذ طرفاها معرض فن أبوظبي ومعرض آرت بازل، وإمكانية عقد شراكة بينهما، ما يُضيء على جاذبية المقوّمات الثقافية المتنامية في دولة الإمارات العربية المتحدة وسوقها الفنية العالمية التي تلفت اهتمام أبرز الجهات الفاعلة في صناعة الفن.
ويتجلى هذا تحديدًا في التطوير الذي خضعت له المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات، التي تضم متحف اللوفر أبوظبي ومتحف غوغنهايم أبوظبي المرتقب افتتاحه قريبًا، وفي الاستثمار الكبير الذي قامت به شركة "القابضة" في دار سوذبيز.
وإذ يُواصل المعرض المنعقد سنويًا في منارة السعديات تطوّره بوصفه مركزًا للفن المعاصر والحديث، يُعزز مكانته الاستراتيجية على خارطة الأحداث الثقافية المنظّمة في الشرق الأوسط. وباستمرار نموه حجمًا وشهرة، يمكن القول إن مستقبله مأمون.
Abu Dhabi Art
تمتد مهمّة فن أبوظبي إلى خدمة المجتمع وتعزيز شمولية المشهد الثقافي واستدامته.
معرض فن أبوظبي 2024.. مشهد ثقافي شامل
أضاءت دورة هذا العام على ارتفاع شأن المعرض، كما أضاءت على دوره المهم في دفع عجلة التحول الثقافي الجاري في الخليج، لا سيما أن سوق الفن في المنطقة في طور التوسّع ويشهد إقبالاً من المعارض والمستثمرين المحليين والدوليين.
وقد تُعزى القفزة الهائلة التي حققها معرض فن أبوظبي إلى مديرته ديالا نسيبة التي تقول: "حين انضممت إلى معرض فن أبوظبي في عام 2016، كان هدفي الرئيس تحديد هويته الممكِنة.
حاليًا، يُركز المعرض أساسًا على خدمة المجتمع وتشجيع التنوع الفني. أقصد أن مهمّته لا تنحصر في عرض الأعمال الفنية فحسب، بل تمتد إلى تعزيز شمولية المشهد الثقافي واستدامته وحيويته".
سارت نسيبة على نهج ثابت منذ توليها إدارة المعرض، وهو نهج يجمع بين الجانب التجاري والغنى الثقافي المحمول على أكتاف قيّمين وفنانين ونقاد من شتى أنحاء العالم، ويركز على إحداث تأثير إيجابي، سواء بدعم الفنانين الناشئين أو تعزيز الإبداع أو انتقاء الأعمال الفنية وتشجيع المبادرات التعليمية.
Abu Dhabi Art
جانب من جناح صالة سيفيل دولماتشي التي عرضت أعمالاً لدانيال كنور من رومانيا وإكرم يلشينداغ من تركيا.
من عهد قريب، أدّى تقاطع الطبيعة التجارية مع التعليقات النقدية إلى إقحام المعرض في مسار جديد، باتخاذ الصالات الفنية التجارية خلفيةً لتنظيم مجموعة من العروض المنسّقة والمبادرات المعرفية التبادلية، بما في ذلك تكليف الفنانين الراسخين باستحداث أعمال خاصة بالمواقع التاريخية في مختلف أنحاء الإمارات العربية المتحدة.
منذ أن تولّت نسيبة إدارة معرض فن أبوظبي، تضاعف عدد العارضين ثلاث مرات، من 37 صالة في عام 2016 إلى أكثر من 100 صالة في عام 2024، ما يؤكد الأهمية المتزايدة لإمارة أبوظبي بوصفها مركزًا ثقافيًا عالميًا.
تصبّ هذه الزيادة في الأرقام في مصلحة الرؤية الثقافية الأكبر لإمارة أبوظبي، لا سيّما أن المعرض أصبح جزءًا لا يتجزأ في شبكة واسعة من المؤسسات الثقافية. أدّت المشاريع العملاقة، مثل متحف اللوفر أبوظبي ومتحف غوغنهايم المرتقب ومتحف زايد الوطني ومتحف التاريخ الطبيعي، إلى تحفيز المشهد الفني محليًا وإقليميًا.
وليست هذه المؤسسات عجائب معمارية فحسب، بل إنها تعبير صريح عن التغيرات الطارئة على المنطقة. وفي هذا تقول نسيبة: "إن هذا المعرض مرآة للمجتمع المحيط به.
إنه منصة تتيح لكثير من الفنانين والعاملين في القطاع تقديم أبحاثهم وأعمالهم وأفكارهم، ولذلك فهو حدث متكامل".
وتضيف نسيبة: "يستقي المعرض هويته المتفردة في سوق الفنون العالمية من التركيز على المشاركة المجتمعية والمساهمة الثقافية بدلاً من الأرباح".
Abu Dhabi Art \ mstudio
سجّاد من مجموعة Carpets of Eden في جناح صالة ليلى هيلر، ولوحة من بهرانغ سامادزاديغان بعنوان Not an Oil Story but a Romance.
فن جديد ومقتنيات تاريخية وهويّات متبادلة
تشرح نسيبة أن المعرض سيمضي قدمًا على طريق تعميق المعرفة حول تاريخ الفن في الشرق الأوسط، وفي هذا تقول: "نتناول تاريخ الفن الحديث في المنطقة انطلاقًا منها وبناءً على الدراسات المنبثقة فيها".
وتتابع: "يكتسي هذا الجانب أهمية كبيرة للمعرض، إذ ثمة كثير مما ينبغي إنجازه وتدوينه. كما أن ثمة سيلاً غزيرًا من السجلات التاريخية التي لم يتعرّض لها أحد بالبحث الوافي. ولذلك، ثمة حاجة ماسة إلى بذل الجهود في هذا المضمار لأن ما ندركه منه ليس إلا غيضًا من فيض".
تبعًا لذلك، اشتملت دورة هذا العام، التي شارك فيها أكثر من 100 صالة فنية، على ثلاثة أقسام جديدة كليًا. أضاء قسم "فن جريء، فن جديد" على الفنانين المعاصرين المنحدرين من المنطقة.
حظي هذا القسم باستحسان الجمهور، ويعود الفضل في ذلك إلى الخبيرة الاستراتيجية الثقافية ميرنا عياد، التي كلّفت الصالات الفنية بإبراز فنانين نشطوا بين ستينيات القرن العشرين وثمانينياته، أغلبهم حديثو عهد بالساحة الفنية الحالية.
وقد شاركت في هذا القسم صالات من تونس ومصر وفلسطين ولبنان، بالإضافة إلى عدد من الفنانات الرائدات. وشهد هذا القسم أيضًا عرض أعمال فنية لم يسبق عرضها من قبل.
أما قسم "صالون مقتني الفنون" الذي مدّ جسرًا بين الماضي والحاضر، فأتاح جمع التحف والمقتنيات التاريخية والمخطوطات تحت مظلة واحدة لأول مرة في معرض فن أبوظبي، وفي استحداثه تعززت المقاربة البحثية والأرشيفية التي باتت تنتهجها المعارض، إدراكًا منها لأهمية ضمّ القطع الأثرية التاريخية إلى الأعمال الفنية المعاصرة.
بموازاة ذلك، أضاء قسم "الهويات المتبادلة: الفن المعاصر من طريق الحرير" على أعمال فنانين وصالات من آسيا الوسطى والقوقاز، مبرزًا تاريخ المنطقة وحيوية ساحتها الفنية المعاصرة.
Abu Dhabi Art
مجموعة لوحات Dirty Mirror Selfie التي يستكشف فيها مروان سهمراني التداخل المعقد بين المنظور الذاتي والحقائق المشوّهة من حولنا.
ثقافة تشاركية واستقطابات جامعة
في ما مضى، كانت الأعمال الفنية الراقية مقصورة على فئة محدودة من هواة الجمع العالمين بأحوال القطاع. لكن هذه الشريحة تنوعت في السنوات الأخيرة، وباتت تضم وافدين جددًا توّاقين إلى الانطلاق في رحلة جمع الأعمال الفنية، ما يكشف عن السمة الديمقراطية لمعارض مثل فن أبوظبي.
يتبين هذا في قسم "نشوء" الذي شاركت فيه تسع صالات مختلفة، بأعمال فنية يقل سعر كل واحد منها عن 3,000 دولار، في خطوة تروم إشاعة ثقافة الجمع بين الوافدين الجدد.
فهذه المبادرة لا تدعم المواهب الناشئة فحسب، بل تعمل أيضًا على توسيع قاعدة جامعي الأعمال الفنية، وهي خطوة مهمة لتعزيز استدامة الساحة الفنية، حتى لا يقتصر تبادل الأفكار واقتناء الأعمال الفنية على فئة قليلة من دون الجمهور الأوسع.
وفي هذا تقول نسيبة: "يطيب لي التفكير في أثر توسّع قاعدة هواة الجمع على سوق الفن في الإمارات العربية المتحدة وخارجها، خصوصًا بابتعادها عن الطابع التجاري البحت لصالح ثقافة تشاركية جامعة".
لا بد من الإشارة أيضًا إلى برنامج "آفاق الفنانين الناشئين" الذي أطلقته نسيبة والذي يشارك فيه سنويًا ثلاثة فنانين إقليميين يعكفون، بدعمٍ وتمويلٍ من المعرض، على ابتكار أعمال فنية جديدة.
أضاءت دورة هذا العام على فاطمة آل علي ودينا نظمي خورشيد وسيمرين مِهرا أغاروال المقيمات في الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا تقول نسيبة: "نسعى أيضًا إلى أن يكون المعرض ملتقى لفناني الجنوب العالمي، لا سيما من خلال التفكّر في الروابط التي تجمع بين بلدانه. ومن شأن هذه المقاربة التأثير في أجواء المعرض، ومن ثم في زواره".
يستقطب برنامج "تكليف الفنانين في المواقع التاريخية" مجموعة من الفنانين المخضرمين المعروفين لإبداع أعمال مخصّصة في مواقع تاريخية في مدينة العين وفي مواقع أخرى من إمارة أبوظبي، وذلك بهدف تنشيطها وجذب شريحة أوسع من الجمهور.
انطلق هذا البرنامج في عام 2017، وقد عرفت دورة هذا العام مشاركة منال محاميد ودينا مطر وأحمد سعيد العريف الظاهري، الذين تعاونوا على عمل فني يدور حول حيوان الغزال الأصيل.
أما في برنامج "بوابة"، المعرض السنوي الذي يضيء على فنانين محليين ودوليين، باتّباع منظور تقييمي متفرد، فنسّقت القيّمتان الفنيتان أوديسا وارن وكارين هارماند معرضًا بعنوان "ضفة أخرى" Otra Orilla، يستكشف الصلات بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية.
شارك في هذا المعرض إميليا إسترادا، وعالية فريد، وفرانسيسكا خميس جياكومان، وعشتار ياسين جوتيريز، بالإضافة إلى ماندي الصايغ التي كشفت عن أحدث إبداعاتها.
Abu Dhabi Art
إبداعات للفنانة عالية فريد في برنامج بوابة الذي حمل اسم "ضفة أخرى.
مشاركات واعدة
مثّلت الصالات الفنية المشارِكة لأول مرة نسبة 40% من مختلف الصالات في معرض فن أبوظبي، ما يشهد على تنامي سوق الفن في الإمارات العربية المتحدة.
Abu Dhabi Art \ Ismail Noor
معرض للفنانة ماندي الصايغ بعنوان Modern and Contemporary في جناح صالة لوري شبيبي.
بل إن المبيعات كانت وفيرة أيضًا، والبرهان على ذلك تحقيق صالات مثل غاليريا كونتينوا Galleria Continua وغاليري بيروتان Perrotin صفقات رفيعة.
Abu Dhabi Art
في جناح Galeri La La Lande، لوحات للفنانة إلهام إتيماندي التي تستلهم لوحة ألوانها من تقاليد فن المنمنمات في بلاد فارس.
كما حظيت أعمال حسن شريف في صالة "سلوى زيدان غاليري" باهتمام كبير، حتى إن بعض المتاحف العالمية حجزت عددًا من إبداعاته.
كذلك، استقطبت صالة "ليلى هيلر غاليري" وصالة كربون 12 غاليري Carbon 12 حشودًا كبيرة، إذ عرضت الصالة الأولى أعمال شيرين نشأت ومنى ربيز وواصف بطرس غالي ضمن ثلاثة أقسام، فيما عرضت الصالة الثانية أعمال برنارد بوهمان والنجمة الصاعدة سارة المهيري، التي عُرضت أعمالها أيضًا في متحف اللوفر أبوظبي في سياق معرض "فن الحين 2024" المنضوي تحت مظلة جائزة ريتشارد ميل للفنون. وفي سياق مشاركتها الأولى، عرضت صالة إيفي غاليري Efie Gallery أعمال الدكتور محمد يوسف وإلْ أناتْسوي وعبد الله كوناتي، وقد أدرجت ديالا نسيبة أعمالهم أيضًا في قسم المشاريع الخاصة الذي حمل اسم "في وحَوْل" In and Around.
Abu Dhabi Art \ Ismail Noor
عمل تركيبي من ديما سروجي بعنوان The Rule of Superposition.
كذلك شهد معرض فن أبوظبي مشاركة صالات فنية معروفة من جنوب آسيا، مثل صالة "غاليري إيسا" Galerie Isa من مومباي، وصالة 1x1 Art Gallery من دبي، وصالة "آيكون كونتمبرري" Aicon Contemporary من نيويورك.
Abu Dhabi Art
في معرض المشاريع الخاصة، عمل تركيبي بعنوان "تونس" للفنان أبدولاي كانتي من مالي.
عرضت الصالة الأولى أعمال إيان مالهوترا وديانا الحديد وإدريس خان، فيما عرضت الصالة الثانية أعمال ثيو بينتو، التي اجتذبت اهتمام المشترين مرارًا. أما الصالة الثالثة، فقد عرضت أعمال الفنانة العمانية سارة فريد، التي شاركت في جناح عمان في بينالي البندقية 2024.
Abu Dhabi Art
عمل تركيبي بعنوان Once Upon a Pirate Coast للفنانة فاطمة آل علي.
كذلك عرضت صالة "كو غاليري" Ko Gallery المنحدرة من لاغوس في نيجيريا، أعمال الفنانيْن النيجيريين أوزيوما أونوزوليكه ونايكي ديفيس أوكونداي، وفي اليومين الأولين فقط استطاعت بيع ستة من أعمالهما الفنية.
Abu Dhabi Art
جانب من معروضات صالة ماتياس آري جان في "صالون مقتني الفنون".
أما صالة لوري شبيبي المنحدرة من دبي، فقد عرضت مقصورة جذابة للوحات ماندي الصايغ. فضلاً عن ذلك، حققت صالة "جي دي مالات" JD Malat المنحدرة من لندن ظهورًا لافتًا في مشاركتها الأولى في معرض فن أبوظبي، إذ إنها اتخذت من الحدث منطلقًا لتوسعها القادم إلى دبي أوائل عام 2025. وخلال الافتتاح الحصري، نجحت الصالة في بيع عملين بتوقيع الفنان الكولومبي سانتياغو بارا.
وبالموازاة مع معرض فن أبوظبي 2024، أطلقت دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي الدورة الافتتاحية من بينالي أبوظبي للفن العام. وقد بيّن هذا الحدث الممتد إلى حدود أبريل 2025 التزام الحكومة بتعزيز المقوّمات الثقافية المطلوبة للارتقاء إلى آفاق العالمية.