اختتمت أخيرًا الدورة السادسة عشرة من معرض آرت دبي، الذي دام ثلاثة أيام بين الثالث من مارس المنصرم والسادس منه. وقد أقيم هذا المعرض، الذي رسّخ مكانته في العالم العربي بوصفه حدثًا فنيًا بارزًا، في مدينة جميرا.
وفيما كانت دورة هذا العام أكثر الدورات تميزًا بفارق كبير، إذ سجلت حضورًا قياسيًا، فضلاً عن مبيعات بآلاف الدولارات، وهو ما عزز مكانة دبي من حيث كونها عاصمة للفنون والثقافة، واصل المعرض تقديم مجموعة متنوعة ومميزة من الأعمال الفنية، إذ احتضن أكثر من 130 صالة فنية من أكثر من 40 دولة، توزعت على أربعة أقسام رئيسة: الفن المعاصر، والفن الحديث، و"بوابة"، والفن الرقمي.
تراث فلسطيني وهموم من الجنوب العالمي
تأكيدًا على ارتقاء دبي الحثيث في مدارج الفن العالمي، قالت المديرة التنفيذية لمعرض آرت دبي بينيديتا غيون: "إن دبي مدينة الابتكار والتطوير المستمر، وهذا واقع يؤكده ازدياد عدد المؤسسات والمتاحف، كما يؤكده استقرار أجيال عديدة من جامعي التحف المنحدرين من مختلف أنحاء العالم في المدينة.
Art Dubai
أشكال مخروطية لاستكشاف معاني الصفر في عمل للفنانة الهندية غونجان كومار.
ومع استمرار تطور المشهد الفني العالمي وظهور مراكز فنية جديدة، أعتقد أن معرض آرت دبي سيكتسب أهمية متزايدة، ذلك أننا مؤسسة مستدامة ومبدِعة ومستقلة، تُبرز إلى الواجهة ممارسات فنية من مناطق جغرافية كانت تاريخيًا تفتقر إلى التمثيل في أوساط المشهد الفني الغربي. إن التعريفات المُحدِّدة للجنوب العالمي آخذة في التغير، ولهذا نحتاج إلى مواكبتها".
يتضح كلام غيون من خلال مجموعة أثارت ضجة كبيرة في صالة Gazelli Art House المُشاركة في قسم الفن المعاصر. فقد استطاعت الفنانتان الأردنيتان الشقيقتان نسرين ونرمين أبو ديل، مؤسستا "مجموعة نقش"، استدراج الزوار إلى رحلة للتفكّر في التراث الفلسطيني من خلال منحوتات متنوعة المواد (تشمل العقيق ورخام فيردي الإيطالي وخشب الجوز) تداخلت مع قطع من النحاس المقطوع يدويًا وأثمرت تصاميم تحاكي الأثواب المطرّزة.
وقالت الفنانتان إن هذه الأعمال كانت بوّابة لتخيل "تجارب حياتية من فلسطين الحبيبة، مثل القفز من جرف عكا والذهاب في رحلة صيد بجانب ميناء يافا".
في مكان آخر من المعرض، كان قسم بوّابة منصة مثالية لإبراز الدعم الذي تقدمه آرت دبي للفنانين القادمين من مختلف أنحاء الجنوب العالمي.
Art Dubai
منسوجات زاهية الألوان صاغها الفنان الكيني ديكنز أوتينو من علب القصدير.
اقتصرت العروض في قسم بوّابة على الأعمال الفنية المنتجة خلال العام الفائت أو تلك المنتجة خصيصًا لمعرض آرت دبي، ومنها إبداعات 11 فنانًا منحدرًا من مختلف أنحاء الجنوب العالمي، ما أسهم في إغناء المعرض باكتشافات فنية متنوعة من هذه المنطقة.
أوكلت إلى الفنان المقيم في بانكوك فيباش بوريشانونت مهمة تنسيق هذا القسم الذي شهد استخدام وسائط عدة عبّر بها الفنانون عن هموم عوالمهم. على أن العرض الذي ألقى الضوء على هذا المزيج المتنوع من الوسائط لم يكن إلا العمل المنفرد للفنانة الهندية غونجان كومار الممثلة بصالة Exhibit 320 في دلهي. حمل العرض اسم "صفر" Sifr، وفيه استخدمت الفنانة تسعة أصباغ صفراء طبيعية رفيعة، حصّلتها من حول العالم، ثم صبّتها على طبقات رقيقة ودقيقة في نحو 15000 مخروط مصنوع يدويًا، في محاولة منها لاستكشاف معاني الصفر - الفراغ المُولّد لاحتمالات لا حصر لها.
وفي نهاية الرواق، عَرضَت صالة Circle Art Gallery منسوجات جدارية بهية مصنوعة من علب قصدير عثر عليها الفنان الكيني ديكنز أوتينو في أحياء نيروبي الفقيرة. إن هذه المنسوجات الزاهية بألوان تراوح بين الأخضر والفضي والبرونزي، والتي استلهم أوتينو تصاميمها من حياته اليومية في نيروبي، تلفت الانتباه إلى الجمال المحتمل الكامن في الأشياء المنبوذة المُهملة، التي حُكم عليها باللاجدوى فقط لأنها مُستعملة.
Art Dubai
"ثوب بيت دجن".. منحوتة من الرخام والنحاس من مجموعة نقش.
إبداع نسوي وفنون تشكيلية
في دورة هذا العام، أثبت قسم الفن المعاصر أنه مقصد هواة الفن، إذ هيّأ لهم الفرص لاستكشاف العديد من الجواهر الفنية الخفية، وخصوصًا الإبداعات التي تحمل توقيع فنانات.
تقدمت صالة Shrine Empire موكب العارضين، إذ قدّمت أعمال ثلاث فنانات نسويات رائدات منحدرات من جنوب آسيا، ومنهن الفنانة البنغلاديشية طيبة بيغوم ليبي، التي أبهرت الزوار بعمل فني على هيئة مشابك شعر ضخمة، مُشكّلة من شفرات حلاقة مصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ.
Art Dubai
أطباق من البورسلين شكلها الفنان الإسباني كارلوس أيْريس في عمل بعنوان I Only Have Eyes for You III.
أخذت ليبي مشبكَ شعرٍ صغير من خزانتها وكبّرت حجمه إلى أن صار منحوتة هائلة، تُذكّر الناظرين جميعًا بأن الشَّعر رمز للأنوثة والجمال، مثلما هو أول بوادر الفناء.
وعلى بعد خطوات قليلة من المكان، عَرضت صالة Zilberman Gallery، التي تتخذ من اسطنبول مقرًا لها، عملاً باسم I Only Have Eyes for You III(عيناي لا تُبصران أحدًا سواك).
صمّم الفنان الإسباني كارلوس أيْريس هذا العمل المُنَسّق على هيئة عين هائلة عن طريق تجميع أطباق من البورسلين تُصوّر أعين عدد من السياسيين. وفي ركن من القسم نفسه، وبالتحديد في صالة Leila Heller Gallery التي يقع مقرها في دبي، انتصبت يدان ضخمتان متلامستان مصنوعتان من رخام كارارا الأبيض.
Art Dubai
لوحة من عام 1964 للفنان السوري مروان قصاب باشي.
حمل هذا العمل الفني الذي حاز اهتمام الزوار اسم Together (معًا)، وهو من إبداع الفنان الإيطالي المعاصر والنحات المشهور عالميًا لورينزو كوين. وفي حديث حصري لمجلة Robb Report العربية، استعرضت ليلى هيلر، مالكة الصالة، أهمية هذه المنحوتة التي أبدعها فنانٌ اشتهر بتصويره المُعبّر للأيدي البشرية على نحوٍ يستحضر مشاعر الحب والإخلاص. وفي هذا تقول: "على ما هو عليه حال أعمال لورينزو كوين الأخرى، تركز هذه القطعة على التعاون والوحدة والألفة، كما أنها تحمل رسالة تتغنّى بالحب والسلام".
أما في قسم الفن الحديث، فعرضت صالة Aicon Gallery، التي يقع مقرها في نيويورك، نسيجًا جداريًا باهرًا مصنوعًا من قماشٍ رفيعٍ بلون أحمر قانٍ.
سمّى الفنان الباكستاني خادم علي هذه القطعةThis Is How It Was (هذا ما ما كان عليه الحال)، وقد ابتكرها في عام 2020 بالتعاون مع حِرفِيّات أفغانيات، وهي تُصوّر الحياة زمن الوباء عندما كان رجال السياسة محط اهتمام الناس.
Art Dubai
منحوتة بعنوان Together للفنان الإيطالي المعاصر لورينزو كوين.
كما شمل هذا القسم إبداعات تحمل تواقيع مجموعة من أساتذة الفنون الحديثة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، بثوا في أعمالهم روحًا تحررية وخصوصيات ثقافية عكست مسعاهم لتقويض التقاليد السائدة على الساحة الفنية، وكان أبرزهم الفلسطيني سمير سلامة عبر صالة جاليري وان، والسوريين نذير إسماعيل ممثلاً بصالة أجيال، ومروان قصاب باشي الذي اشتهر برسم وجوه تعبّر عن المخاوف والوقائع المشحونة بتجربته الشخصية والفنية.
أما في قسم الفن الحديث، فتُعرض أعمال عشرة مبدعين من أساتذة الفن الحديث، 9 منهم من الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ويعود غالب هذه الأعمال إلى الفترة الممتدة بين ستينيات القرن الفائت والتسعينيات، وتضم أيضًا أعمالاً فنية أخرى من السنوات العشرين الأخيرة.
ويتشارك فنانو هذا القسم رغبتهم في خلخلة التقاليد السائدة في عالم الفنون، كما أنهم يبثون في أعمالهم روحًا تحررية وخصوصيات ثقافية تمتزج في سرديات مثيرة للاهتمام. ويضيء هذا القسم خصوصًا على أعمال فنانين مثل جيمس بارنور، ومنى السعودي، وهيلين الخال، وحسين ماضي، وسمير سلامة، وغيرهم.
Art Dubai
لوحة من عام 1974 بتوقيع الفنان نذير إسماعيل ممثلاً بصالة أجيال.
شراكات إبداعية
في محيط الأروقة الرئيسة، شهدت دورة آرت دبي لهذا العام عرضًا مميزًا يليق بهذا الحدث السنوي، كان وراءه الدار الفرنسية المرموقة جيرلان، التي دمجت بين الفنون والعطور للاحتفال بمرور 170 عامًا على إصدار أول قارورة نحل تحمل توقيعها.
بمرور السنوات، تحولت قارورة النحل المميزة هذه إلى قطع فنية مرغوبة (تستهوي جامعي التحف) وتزهو بلمسات فنية بتوقيع العديد من المبدعين ذائعي الصيت، مثل إيف كلاين، ولورينز بومر، وجونوان، وطارق بن نعوم، ولي هونغبو، فضلاً عن الدار الشهيرة ميزون ماتيس.
Art Dubai
الدار الفرنسية جيرلان تدمج في معرضها بين الفنون والعطور احتفاءً بمرور 170 عامًا على إصدار أول قارورة نحل تحمل توقيعها.
وشهد العرض أيضًا الكشف عن إصدار محدود من قارورة النحل في 30 نموذجًا من ابتكار الفنانة اللبنانية نادين قانصو، مؤسسة علامة "بالعربي" في أول تعاون لدار جيرلان مع مصممة عربية. رُصعت النماذج ببريق 1710 بلورات من الكريستال، انتظمت على سطح من الذهب عيار 24 قيراطًا على هيئة أحرف عربية ترسم كلمة "الحب".
وعلى ما كان عليه الحال في دورة العام الفائت، استقدمت دار بوغوصيان للجواهر إلى واحة عرض تمايزت بتصميم يسلط الضوء على الحوار بين الثقافات وتأثيراتها الجمالية.
وتباهت في هذه الواحة فرائد جواهر بتصاميم باذخة مرصعة بالألماس وحجارة بارايبا والتورمالين الأخضر واللآلئ الطبيعية والكريستال الصخري. وفيما تجددت شراكة آرت دبي مع جوليوس باير لخمس سنوات أخرى حتى عام 2027، تمايز جناح مجموعة إدارة الثروات السويسرية الرائدة هذا العام بعرض فني مبهر للفنان التركي رفيق أناضول، الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي الجمالي.
استلهم أناضول مشروعه Glacier Dreams (الأحلام المتجمدة) من جمال الأنهار الجليدية وهشاشتها ليقدم فكرته، باستخدام تقنية المنحوتات البيانية، في هيئة سلسلة حركية متعددة الفصول.
Art Dubai
في جناح جوليوس باير، منحوتة بيانية للفنان التركي رفيق أناضول بعنوان Glacier Dreams.
الفنون الرقمية في نسختها الثانية
على مسافة قريبة، تكفلت الفنانة السنغافورية كلارا تشي وي بيه بتنسيق النسخة الثانية من قسم الفنون الرقمية الذي استقطب مشاركين من القارات الست، وهو ما عزز إدراكنا للتغيرات الطارئة على هذا العالم.
ففي نسخة هذا العام، طغى استخدام الذكاء الاصطناعي على الأعمال المعروضة، ربما بسبب الصعوبات الأخيرة التي واجهها قطاع العملات الرقمية.
Cedric Ribeiro
أحد إبداعات جايسون سيف المستلهمة من السجاد الفارسي.
في صالة Art in Space، كان الزوار المحتشدون في القاعة على موعد مع عرض فني رقمي يحفز الحواس الخمس عن طريق نظام تحكم مركزي آلي مصمم لتقديم تجربة غامرة للغاية. أما في صالة Galleria Continua، فقد ألقى الضيوف نظرة خاطفة على أعمال مبتكرة من تصميم الفنان الإيطالي لوريس تشيكيني، تدمج العالمين المادي والرقمي.
Art Dubai
عمل رقمي بعنوان "حجرة الموسيقا" لنعيمة بكنيات.
كان المُكون المادي في هذا العمل بنية من الفولاذ المقاوم للصدأ، عُرضت داخل صندوق خشبي مبطن بالمخمل، فيما كان المُكون الرقمي منحوتة ثلاثية الأبعاد صاحبتها رسوم فيديو متحركة تجعلها تنبض بالحياة في دورة آسرة لا نهاية لها.
ومن أبرز الأحداث التي شهدها برنامج قسم الفن الرقمي لعام 2023 قمةُ "الفن+التكنولوجيا"، التي تنظمها دار كريستيز لتعزيز الحوارات البنّاءة التي تدرس تقاطع الفن مع التكنولوجيا، وهي المرة الأولى التي تُنظم في دبي.
Art Dubai
في جناح The Upside Space للفنون الرقمية، عمل بعنوان No-to-Scale Plot.
وإذا علمنا أن صالة Unit London باعت رمزًا غير قابل للاستبدال، من تصميم الفنان تايلور هوبس، لأحد الجامعين مقابل 1.4 مليون درهم إماراتي تقريبًا، فإن كلام الفنانة تشي وي بيه يبدو دقيقًا للغاية، إذ تقول: "بالرغم من أن استخدام الفنانين للتقنيات الجديدة ليس أمرًا طارئًا، إلا أن طريقة دفعهم بحدود هذه التقنيات أمر في غاية الإثارة. ولهذا نرى ضرورة في التركيز على التوجه الرقمي، لأنه سيسهم في ابتكار أساليب فنية جديدة تتحدى المألوف والشائع".