أزيح الستار أخيرًا عن دورة عام 2022 من معرض آرت دبي، هذه المنصة التي تحولت بمرور الوقت إلى جوهرة التاج في روزنامة الأحداث الفنية في العالم العربي. على مر ثلاثة أيام، من الحادي عشر إلى الثالث عشر من مارس الفائت، سجّل المعرض، الذي نُظّم، على ما جرت العادة، في رحاب مدينة جميرا ذات الطابع التراثي الأصيل، سجّل أعلى نسبة حضور يحققها على مرّ تاريخه، مشرعًا فضاءاته الإبداعية لأكثر من 30 ألف زائر.
كانت الدورة الخامسة عشرة من المعرض الأعلى تميزًا أيضًا من حيث استقطابها ما يزيد على 100 صالة للفنون المعاصرة والحديثة من أكثر من 44 دولة، بما في ذلك أكثر من 30 جهة عرض تشارك في هذا الحدث السنوي للمرة الأولى مقدمة روائعها عبر أقسامه المختلفة، من صالات الفنون الحديثة والمعاصرة إلى البوّابة، وواحة "آرت دبي ديجيتال"، أحدث إضافة إلى المعرض.
الجنوب العالمي في قلب الحدث
كان اللافت في دورة هذا العام أن أكثر من نصف الصالات الفنية المشاركة في آرت دبي حضرت إليه من أرجاء ما يُعرف باسم "الجنوب العالمي"، أي البلاد الجنوبية من العالم، ما يُعد شاهدًا على التزام منظومة المعرض دعم الفنون في المنطقة. توجز هالة خياط، المدير الإقليمي لآرت دبي، طبيعة هذه العلاقة موضحة: "عندما نستخدم مصطلح الجنوب العالمي (Global South) في سياق الفنون، نقصد المناطق في العالم التي لم تكن تحظى في العادة بتمثيل عادل في معظم المحادثات الغربية.
وتشمل هذه المناطق إفريقيا، وجنوب آسيا وجنوب شرقها، والشرق الأوسط، فضلاً عن أمريكا الجنوبية وأمريكا اللاتينية. كانت غايتنا توسيع نطاق منصتنا العالمية لتشمل هذه المناطق بما يتيح سماع أصوات الفنانين من الجنوب العالمي".
اللوحة الفوتوغرافية Hope للفنان المغربي البلجيكي موس المرابط.
كان من الرائع في هذا السياق أن نشهد في دورة هذا العام من آرت دبي مشاركة 10 صالات (من أصل 100 صالة مشاركة) من إفريقيا، ما وفّر منصة عالمية لأربعين فنانًا إفريقيًا عرضوا أعمالهم المعاصرة والحديثة. وتأتي هذه المشاركة لتتزامن على نحو مثالي مع النهضة الجامحة في مجال الاهتمام بالفنون الإفريقية في هذه المنطقة وخارج تخومها.
تردد أصداء هذا التوجّه أيضًا في تصريح بابلو ديل فال، المدير الإبداعي لآرت دبي، حيث يقول: "إن أبوابنا ستبقى دومًا مشرعة أمام أولئك الذين يحتاجون إلى تمثيل، لا سيّما في المناطق الجغرافية التي لا تشملها في العادة المجموعات والمعارض الفنية المرموقة في العالم.
لوحة أخرى للمرابط بعنوان Luv Ryders.
فهذه المناطق تزخر بكثير من المواهب التي تحتاج إلى من يسمع صوتها". في قسم الأعمال الفنية المعاصرة، قد تشكل الأعمال الفوتوغرافية الرائعة التي أبدعها بحجم واقعي المصوّر المغربي البلجيكي موس المرابط، مستعرضًا من خلالها صور عارضات مقنعات وسط المشاهد الطبيعية في المغرب، واحدًا من أمثلة كثيرة تعكس الالتزام الذي يشدد عليه ديل فال.
شكلت سوديبتا داس عملها الفني متعدد الوسائط Waiting باستخدام تقنية داكجي الكورية لصنع الدمى.
سرديات متنوعة
في ما يخص الجنوب العالمي، شكل جناح البوّابة نقطة الانطلاق الأفضل لاستكشاف تجليات دعم آرت دبي لمجموعة متنوعة من السرديات حول المشهد الفني العالمي.
فهنا قُدمت أعمال عشرة فنانين معاصرين من بيرو، والهند، وباكستان، والمكسكيك، ونيجيريا، وأنغولا وتشيلي، وعُرضت حصريًا روائع فنية جرى ابتكارها في العام المنصرم أو خصوصًا لدورة عام 2022 من المعرض.
كان يكفي أن ينغمس الزائر في التجربة الغامرة التي أتاحتها ألواح من النحاس الأصفر المطرّق، أبدعها الفنان المكسيكي رودريغو هيرنانديز خلال فترة الحظر المنزلي التي فرضتها جائحة كورونا، ليضع رؤية منسّقة جناح البوّابة، الخبيرة في مجال النظريات الثقافية نانسي أداجانيا، في سياقها الصحيح.
تقول أداجانيا: "يركّز جناح البوّابة على الدراية الحرفية أو التقنية Techne، وأقصد بذلك استثمار الذات على نحو محسوس في صنع الأشياء أو تفكيكها، بدلاً من ربط الذات بلاغيًا بمفاهيم وتصورات منفرة تخلو من أي بعد عاطفي.
إنها دعوة إلى التمهّل والتركيز على فن صناعة الشيء Facture، وعلى الدراية الحرفية Techne من حيث كونها شكلاً من أشكال مقاومة قوى الاستبداد السلطوية".
Victoria Asinovsky
في جناح Eye for Art، لوحة لمقبول فدا حسين أبدعها بيكاسو الهند بالألوان الزيتية على الورق.
وسائط متعددة
عبر صفوف لا متناهية من الأجنحة التي استضافت صالات فنية من مختلفة أنحاء العالم، كانت ذائقة الزائرين تستزيد من روائع إبداعات شُكلت في حقبات مختلفة وباستخدام وسائط فنية متنوعة.
في جانب من صالة الأعمال الفنية المعاصرة، اجتذبت الأنظار منحوتة قماشية يمكن ارتداؤها حقيقة، شكّلها يوتا بيكايا، وهو فنان من جورجيا، في هيئة زهرة في عالم من مرحلة ما بعد الدمار ليجسّد من خلالها توق البشرية إلى تغيير ملحوظ.
Bruno Lopes
لوحة من النحاس الأصفر المطرق ضمن سلسلة Night Round التي أضاء من خلالها جناح البوّابة على موهبة رودريغو هيرنانديز.
أما الجانب المقابل من الصالة، فازدان عند مدخله بالعمل النحتي Waiting (الانتظار) الذي تأنت سوديبات داس من أسام في صياغة تفاصيله من أوراق الأرز باستخدام تقنية داكجي Dakjee لصنع الدمى، والتي اكتسبتها في سياق إقامتها الفنية في كوريا الجنوبية سنة 2017.
أعادت داس من خلال هذا العمل ابتكار مشهد يصوّر النكبة التي تحل بالبشر عندما يخسرون "مكانهم" ويختبرون اللجوء. استأثر بالأنظار أيضًا برج قوطي محدث يرتفع حتى علو ستة أمتار في جناح Volte Art Projects، صالة الفنون التي تتخذ من دبي مقرًا لها. يحمل البرج، البالغ وزنه 400 كيلوغرام، والمشغول في طبقات مزخرفة منحوتة من الفولاذ المقاوم للصدأ، توقيع الفنان البلجيكي ويم ديلفوي الذي كان قد ابتكره في الأصل بتكليف من مجموعة بيغي غوغنهايم، واحتاج إلى سنتين كاملتين لتصميمه.
Bruno Lopes
لوحة من النحاس الأصفر المطرق ضمن سلسلة Night Round التي أضاء من خلالها جناح البوّابة على موهبة رودريغو هيرنانديز.
أما في صالة الفنون الحديثة، فتزيّنت جدران الجناح الخاص لصالة Eye for Art من تكساس بأشكال إنسانية نُفذت بألوان زيتية على الورق لتخلّد ضربات الفرشاة الجريئة التي تميّز بها الفنان الهندي غزير الإنتاج مقبول فدا حسين أو "بيكاسو الهند" على ما يُعرف في الأوساط الفنية.
وفي جناح غير بعيد، احتفت صالة أجيال من لبنان بمسيرة الفنانة اللبنانية الراحلة لبيبة زغيب أو بيبي، التي اشتهرت في ثلاثينيات القرن الفائت وأربعينياته برسم المناظر الطبيعية والزهور، على ما تشهد مثلاً لوحة أزهرت فيها زنابق بلون برتقالي ناري على مساحة لوحة بلا اسم من عام 1945.
وفيما أضاءت صالة Comptoir des Mines على أعمال محمد القاسمي، أحد روّاد الفنون في المغرب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، مستحضرة في اللوحات المعروضة ما جسدته ريشته الإبداعية من مصالحة بين الرؤية المأساوية لعصره وتوقه إلى السعادة، استعرضت صالة DAG من نيو دلهي سلسلة من ثماني رسومات حملت اسم "الملك" King Series للفنان رابين موندال واختزلت موقفه من داء السلطة والسياسة والفساد.
شهد معرض آرت دبي أيضًا الكشف عن منحوتة مدولبة كانت ثمرة تعاون مشترك بين علامة بي إم دبليو والفنان التشكيلي جيف كونز الذي يشتهر بمنحوتاته الفنية. تألقت مركبة The 8 X JEFF KOONS، وهي من طراز BMW M850i xDrive Gran Coupé، بطلاء خارجي لافت بألوان الأزرق والأصفر والفضي، وبخطوط وأشكال هندسية استلهمها كونز من المجلات المصوّرة، موظفًا أكثر من 200 ساعة لتنفيذ مأثرته.
عمل فني رقمي بعنوان Pure من ابتكار كينغ جيسي أورانتا.
فنون رقمية
للمفارقة، حقق المعرض أعلى رقم مبيعات في قسمه المستحدث آرت دبي ديجيتال Art Dubai Digital للفنون الرقمية، حيث باع معهد Institut.co من لندن الرمز غير القابل للاستبدال AOI الذي ابتكره تايلور هوبز إلى جامع خاص مقابل 88 إيثيريوم (أي ما يعادل تقريبًا 220 ألف دولار).
تعكس هذه الصفقة النمو المتزايد الذي يشهده اليوم فضاء الفنون الرقمية بقدر ما تكرّس شهرة دبي المتنامية من حيث كونها مركزًا رائدًا في العالم للعملات الرقمية، وفضاء مشرعًا أمام جيل جديد من روّاد الأعمال والجامعين.
Cedric Ribeiro
عالم ميتافيرس كان حاضرًا في آرت دبي من خلال ابتكارات رقمية وفيرة.
ولا حاجة لقول إن منصة آرت دبي ديجيتال تجسّد اليوم لحظة حاسمة في تاريخ المعرض الذي تلاقى عبر مساحاته عالم الفنون التقليدية وعالم الفنون الرقمية، وحيث تحولت الرموز غير القابلة للاستبدال، والعملات الرقمية، والمقاطع المصوّرة، والواقع الافتراضي إلى حديث الساعة.
وفي هذا يقول كريس فاسنر، منسّق جناح آرت دبي ديجيتال: "لطالما كان حس الابتكار حاضرًا في صميم آرت دبي، والفضاء الرقمي سيستمر في أداء دور رئيس في الاستراتيجية الطويلة الأمد لهذا المعرض".
منحوتة When Language Fails (عندما تخفق اللغة) نفذتها غرايسلي لورانس بتقنية الطباعة الثلاثية.
الجدير بالذكر أن هذا الزخم برز أيضًا من خلال منظومة من المحادثات التثقيفية التي تركزت حول القسم الرقمي وقادتها منصة التجارة الرائدة في مجال العملات الرقمية Bybit، والمنتدى العالمي للفنون في دورته الخامسة عشرة والذي انطلق تحت عنوان This is the Picture (أو "هذه هي الصورة"). على مدى ثلاثة أيام، سعت هذه الجلسات التفاعلية إلى تقديم تمهيد شامل عن مشهد الفن الرقمي الذي يشهد نموًا سريعًا.
عبر متاهة من الجدران السوداء، ووسط أنوار مصابيح النيون والدخان المتصاعد، لم يكن أحد ليغفل عن مجموعة من خمس منحوتات نفّذتها غرايسلي لورانس من صالة Postmasters بتقنية الطباعة الثلاثية واستخدمت فيها فواكه وخضراوات تعلو فوق ما يشبه دماغًا بشريًا.
في تصريح حصري لـمجلة Robb Report العربية، قال تاماس بانوفيتش، المشارك في تأسيس الصالة، والذي عمل لأكثر من ثلاثة عقود في مجال الفنون الرقمية: "إنه فن، ولكن الوسيط المستخدم فيه مختلف. بل إنه في الحقيقة الوسيط المعاصر الوحيد. وإذا ما أخذنا في الحسبان التجربة في معرض آرت دبي، فإن العالم قد شرع مؤخرًا يوافقه الرأي".