توجهت أنظار هواة الجمع خلال شهر يونيو المنصرم إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث محاكمة تاجر التحف التسعيني البارز جون لوبو (93 عامًا)، وذلك لاتهامه بخداع زبائنه بطريقة وصفت بالعبقرية، وبيعهم قطعًا زائفة على أنها أصلية، بعد أن نسبها للملك لويس الرابع عشر بالقرن الثامن عشر، ليحصل من وراء ذلك على نحو 12.5 مليون يورو! المتابعون لمثل هذا النوع من القضايا لم يصابوا بالدهشة.
فقائمة الأحداث المماثلة كبيرة، ولم تكن قضية لوبو الذي يقع متجره أمام قصر الإليزيه أولها، وربما لن يكون آخرها. ولكن المذهل حقًا هنا هو ازدهار الفن والاحتيال، ليس من حيث الأموال التي تدفع في الأعمال الزائفة فحسب، بل بما يؤطرها من تفاصيل فنية وحرفية على مختلف الأصعدة، سواء على صعيد الصنعة وحرفية التزييف أو التقليد أو حتى ابتكار النماذج من العدم وصقلها بوحي من الخيال، مع تلك العبقرية التي يجري التخطيط بها لعمليات النصب والخداع التي يمارسها المحتالون.
ولا تبتعد عمليات السطو على الأعمال الفنية وسرقتها وإخفائها واستبدالها عن هذا المضمار، الذي تجري فيه مختلف الحيل والجرائم بذرائع قد تتباين، ولكن عنوانها المختصر يدور بين كلمتين "الهوس بالفن".
في السطور التالية نستعرض رصدًا لدلائل حول ازدهار الفن، بالتوازي مع ازدهار الاحتيال في عالم الإبداع، حيث يسعى هواة الجمع والباحثون عن نفائس الفنون المتفردة للحصول عليها بأي ثمن. وربما تكون النتيجة هنا تعرضهم لخداع بعض أصحاب النفوس الضعيفة من خبراء ذلك المجال حول العالم.
تبعات الهوس بالفن
أثارت القضية الأخيرة للوبو الذعر بين بعض هواة الجمع لأسباب عدة، قد يكون أولها أن الرجل استمر لعقود طويلة خلال عمره المديد في بيع التحف، ومن ثم فإن التخوف طال عددًا كبيرًا من الذين تعاملوا معه. فما يدريهم إن كان ما وصل إليهم من خلاله قطع أصلية وليست زائفة؟ كما أن متجر لوبو الذي يقع أمام قصر الإليزيه مباشرة ظل لسنوات يعطي انطباعات بالثقة من خلال موقعه الشهير والمتميز في قلب العاصمة الفرنسية.
وحسب عدد من التقارير الإعلامية فإن زبائن الرجل ضموا شخصيات شهيرة وزعماء وقادة دول، اشترى بعضهم قطعًا مقلدة ظنًا منهم أنها تساوي مئات الآلاف أو حتى الملايين من اليوروهات. وحسب الاتهامات فقد صنع فريق لوبو المكون من خمسة موظفين القطع الأثرية أحيانًا من الصفر. كما اشترى لوبو قطعًا أخرى وزخرفها وأعطاها شهادات زائفة توضح أنها أصلية قبل عرضها للبيع!
وعلى سبيل المثال، وحسب الاتهامات أيضًا، فقد اشترى لوبو طاولة لعب عام 2011 من دار كريستيز للمزادات مقابل 46 ألف يورو، ثم أضاف إليها خشب أبنوس مع ختم زائف يعود إلى القرن الثامن عشر، ليعرضها للبيع مقابل 850 ألف يورو! يعني ذلك أن هذه الأعمال الزائفة كانت متقنة إلى حد بعيد، وأن من قام بها كان فنانًا محترفًا، ومن ثم فقد استطاع منحها تلك الطلة الخادعة التي أوقعت الجميع في شباك احتيال لوبو الذي مارس بدوره الإيحاء النفسي للتأثير على قراراتهم.
وحسب المحققين فإنهم حددوا 17 زبونًا اشتروا قطعًا أثرية زائفة من التاجر المذكور، فيما تشتبه الشرطة في وجود مزيد من الضحايا، إذ اكتشفت خطابًا مرسلاً إلى لوبو بتاريخ 2013 من بائع تحف آخر يصفه فيه بأنه المزور الأكثر عبقرية على الإطلاق. وبالطبع فقد أنكر لوبو الاتهامات ولكن الدلائل ظلت كما هي، حتى وإن قال إنه لم يفعل شيئًا سوى إصلاح التحف التي اشتراها قبل بيعها!
أسرار الاحتيال الفني
الحقيقة أن السر الأكبر لنجاح مثل هذا النوع من الاحتيال هو هوس البعض باقتناء الفن والتحف، واستعدادهم الدائم لدفع كل ما يلزم من أموال لامتلاك الفرائد والنفائس، وهو أمر شخصي ولا يمكن إدانته، ولكنه أدى بالتبعية لاستغلال البعض لمثل هذا الشغف بالفن، كما أدى لرواج وربما ازدهار ما يمكن أن نطلق عليه اسم فنون تقليد الروح الإبداعية لرموز الفن بالعصور المختلفة، بما مكن "فناني التزييف" من نسخ وتقليد صور طبق الأصل من بعض الأعمال أو حتى نماذج تحمل روح صاحب العمل نفسه ونسبها له أو لعصر محدد.
والأمثلة هنا كثيرة. ففي هذا الإطار اشتهر بين الخبراء المختصين في عالم الفن شخص مجهول أطلقوا عليه اسم المحترف الإسباني، وهو أحد الرموز في عالم تجارة التحف القديمة الزائفة منذ سنوات، وقد اكتُشف أكثر من أربعين عملاً مزورًا من أعماله حتى اليوم.
والمفاجأة هي أن بعض هذه الأعمال يعرض في بعض المتاحف أيضًا وليس في أسواق التحف فحسب! وتشمل أعمال ذلك المزور المحترف -الذي يعتقد أن ورشته تقع في جنوب أوروبا في إيطاليا أو إسبانيا- الرأس البرونزي للإمبراطور أغسطس، الذي اشتراه جامع أعمال فنية سويسري بمئات الآلاف من الدولارات في نيويورك، حتى شك في أمره فعرضه على الخبراء الذين فحصوه بأحدث معدات التصوير المقطعي ليكتشفوا أخيرًا أنه زائف.
سوق الأعمال الزائفة
يعتقد بعض الخبراء أن نحو 50% من القطع الأثرية المعروضة في الأسواق زائفة. وحسب هؤلاء فإن أسواق الفن متكتمة للغاية في هذا الخصوص حتى لا تصاب بأضرار وتبعات انكشاف الأمر، ومن ثم قد يؤثر ذلك على مصداقيتها وربما يشجع عمليات الاحتيال والتزييف أكثر من ذي قبل.
وحسب بعض الخبراء أيضًا فإن دور المزادات والمعارض تعرف تمامًا ما الذي تبيعه، الأمر الذي يقودنا إلى قصة أخرى بطلها كان تاجر اللوحات والتحف الشهير مايكل شولتز، الذي توفي في ديسمبر من عام 2021 فيما كان رهن الاعتقال منذ عام 2019، إذ واجه العديد من تهم النصب والاحتيال في مبالغ قدرت بالملايين من اليوروهات، بعد سلسلة طويلة من التحقيقات، التي انتهت آنذاك بالوصول إلى دلائل تثبت بأنه تورط في العديد من عمليات الاحتيال.
وحسب القضية فقد باع شولتز بملايين اليوروهات أعمالاً زائفة على أنها قطع أصلية، فيما تعامل مع كثير من الأثرياء وجامعي التحف، ومن بينهم أسماء لامعة في عالم المال والأعمال والسياسة. وقد باع لبعضهم بما يتجاوز 11 مليون يورو من الأعمال الزائفة وفي تصريح إعلامي في أثناء التحقيقات قال المطور العقاري جيرك جاديك إن شولتز باعه العديد من الأعمال، منها عمل تجريدي لوارهول إضافة إلى عملين آخرين، إلا أن جميعها كانت أعمالًا زائفة!
وتتشابه القصة هنا مع قضية تاجر التحف السبعيني أوسوالدو أوليستيا الذي قبضت عليه الشرطة الإسبانية بعد مطاردة قانونية طويلة، لاتهامه بتزوير أعمال لبيكاسو ودالي وبعض الفنانين الآخرين من الأسماء اللامعة بالقرن العشرين، ثم بيعها لمشترين أمريكيين بوصفها أعمالاً أصلية وإصدارات محدودة، مطبوعًا عليها توقيعات زائفة وأرقام مسلسلة مع شهادات غير صحيحة، وذلك بعد أن شكل أوليستيا عصابة تزوير أصبحت مطلوبة ومطاردة دوليًا حتى تم أخيرًا القبض عليه. ولكن ذلك لم يغير شيئًا في ما حدث من وقائع احتيالية أثرت في ثقة هواة الجمع.
إذا كانت القصص السابقة نماذج لهذا النوع من القضايا التي حسمت، فإن ثمة نماذج أخرى لقضايا خلافية لم تحسم حتى هذه اللحظة. يشمل ذلك الجدل الثائر حول لوحة نسبت للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، تحمل اسم "سالفاتور مندي" أي مخلص العالم، وهي اللوحة التي بيعت عام 2017 في مزاد علني في نيويورك بقيمة 450 مليون دولار أمريكي، لتصبح بذلك العمل الفني الأغلى على الإطلاق لهذا الفنان، الذي لم يُعثر إلا على 20 لوحة فقط من أعماله، إذ يتشكك عدد كبير من الخبراء في نسب هذا العمل الفني لدافنشي من الأساس.
فقد بيعت اللوحة للمرة الأولى في مزاد علني في لندن مقابل نحو 60 دولارًا أمريكيًا قبل أن يُكشف عنها كأحد أعمال دافنشي، ما قد يعنى إمكانية عودة هذه اللوحة للواجهة مرة أخرى ولكن بقصة مختلفة.
سرقة اللوحات الفنية
الحديث عن ازدهار الفن والاحتيال لا يتوقف هنا على النماذج السابقة التي عرضنا بعضها. فثمة أنواع أخرى من الاحتيال أكثر مباشرة، حدثت من خلال سرقات للمعارض والمتاحف الفنية، أو حتى استبدال لوحات زائفة بتلك الأصلية فيها بطرق "عبقرية" لا تقل تفردًا عنها.
ولكن دافع هذه السرقات هنا ليس الهوس بالفن أو الاحتفاظ بابتسامة الموناليزا الساحرة بغموضها مثلاً، بل ترجمة تلك الابتسامة وذلك الفن الخالد إلى أموال، تحوّل إلى خزائن وجيوب هؤلاء اللصوص والمجرمين، الذين يستغلون ذكاءهم لتخطيط وتنفيذ عمليات سطو فريدة قد لا تتخيلها عقولنا.
ثمة أمثلة كثيرة ومتنوعة على هذا النوع من عمليات السرقة التي طالت الأعمال واللوحات الفنية عبر العالم، وهي اللوحات التي أعيد بعضها إلى المتاحف والمعارض بعد سنوات من البحث وعملية المطاردة، فيما دمر عدد آخر منها على يد اللصوص وأعوانهم، واختفى كثير من هذه اللوحات حتى إشعار آخر، ربما لن يأتي أبدًا في ظل تجارة خفية ورائجة لتلك الأعمال بعيدًا عن الشرعية والقانون.
وحسب الخبراء، فإن قائمة اللوحات الفنية المسروقة وحوادث وقصص تلك السرقات طويلة بما لا يسمح باستعراضها في سطور قليلة، والأمثلة كثيرة كلوحة الحفل للفنان يوهانس فيرمير التي تقدر قيمتها بنحو 200 مليون دولار، ولوحة زهور الخشخاش لفان غوخ التي تبلغ قيمتها 55 مليون دولار، ولوحة العاصفة على بحيرة طبرية لرامبرانت التي تقدر قيمتها بنحو 10 ملايين دولار، وغيرها كثير من اللوحات، إذ تشير بعض التقارير والإحصاءات إلى وجود أكثر من 350 ألف عمل فني مسروق لم تُستعد حول العالم، تضاف إليها أرقام أخرى غير محددة وبعيدة عن أي إحصاء.