خلال الثلث الأخير من شهر يونيو الماضي، أعيد رسميًا افتتاح المعرض القومي للوحات National Portrait Gallery، بعد أكثر من ثلاث سنوات من أعمال التطوير التي بدأت في مارس من عام 2020، والتي تكلفت نحو 44 مليون جنيه إسترليني، ليعود ذلك المبنى الشامخ المتربع في شمالي ميدان ترافالغار بقلب العاصمة لندن إلى سابق جاذبيته.
أشرف على عملية التطوير المهندس المعماري الشهير جيمي فوبرت، بالتعاون مع نيكولاس كولينان المدير الثاني عشر للمعرض التاريخي، الذي تأسس منذ ما يقرب من 170 عامًا، ليكون أول مؤسسة من نوعها في العالم تمارس ذلك النوع من النشاط، وبأسلوب أكثر تميزًا عن كل ما عُرف من أساليب العرض.
وحسب كولينان، فإن المعرض يزخر بكنز حقيقي من الأعمال الفنية. فإنه على سبيل المثال يضم أكثر من 4,000 لوحة ومنحوتة ومنمنمة، بالإضافة إلى 8,500 عمل على الورق، وأعمال أولية لم تصنف على أساس الجدارة الجمالية، إذ عُد المعرض منذ نشأته حاضنة تكرم الأفراد الذين أثروا التاريخ الفني الجمعي البريطاني، منذ ظهور فن البورتريه لأول مرة في هذا البلد حتى اليوم.
كما يتباهى المعرض بالعديد من الأعمال الفنية التي يعتز بها، كالصور الكاريزمية للملوك والحاشية المرصعة بالجواهر، فضلاً عن مظاهر البذخ في صالات تيودور الشهيرة. وعلى النقيض تأخذ لوحات منازل القطط والكلاب مكانها أيضًا، كما تأخذ لوحات التأمل والشرود مساحتها المميزة، في تناغم رائع للتناقضات والأضداد التي تبرز زخم وتنوع السجل الفني البريطاني.
NPG
مشروع التطوير
منذ البداية أدرك القائمون على مشروع تطوير المعرض الوطني، أنه بالإضافة إلى تحديث المجموعات المعروضة من الصور، سيتعين عليهم إصلاح مبنى المعرض أولاً، وهو المبنى المصنف من الدرجة الأولى للمهندس المعماري الفيكتوري إيوان كريستيان، والذي جرى افتتاحه بشارع مارتنز بلاس في عام 1896، بعد أربعة عقود من افتتاح المعرض الرسمي في عام 1856، إذ ظل المعرض خلال هذه العقود يتنقل بين مواقع مختلفة، بما في ذلك منزل ريفي على الطراز الجورجي في وستمنستر، ومتحف بنثنال جرين في شرق لندن.
على أن مشكلات المعرض في البناء الذي أقيم خصيصًا له تراكمت على مدار العقود، حتى تفاقمت بشكل كبير بحلول عام 2010. وحسب كولينان الذي تولى الإدارة منذ عام 2015، فقد اجتذب المعرض قبل جائحة كورونا نحو 1.9 مليون زائر سنويًا، إلا أن معظمهم كانوا من زواره المخلصين، بينما عده البعض مكانًا قديمًا متربًا وخانقًا وغير ذي صلة.
وهنا كانت بداية التفكير لبلورة مشروع تحول كبير، بخلاف مشروعات الترميم التي جرت خلال الثلاثينيات والتسعينيات من القرن الماضي، إذ فقدت عمليات الإصلاح الداخلي وإعادة التنظيم التي تمت مرارًا رونقها على مدى السنوات الماضية، مع ظهور مشكلات عدة كفشل المصاعد، وغياب تجهيزات استقبال الكراسي المتحركة في بعض الطوابق، وعدم توافق الاستوديو التعليمي الوحيد مع الغرض منه، وهو ما استدعى تولي فوبرت قيادة أعمال التطوير في عام 2018 بعد نجاحه في تطوير Tate St Ives and Kettle’s Yard في كامبريدج.
NPG
كان العائق الأكثر تعقيدًا أمام فوبرت في المعرض هو مدخله غير المناسب، الذي وضعه مصمم المبنى التاريخي في هذا المكان -ربما مضطرًا- لأسباب كثيرة، منها تفادي الأماكن المشوهة لجمال المبنى وقت بناء المعرض. وبحلول القرن الحادي والعشرين، بدت هذه العتبة الفيكتورية غير مناسبة، إذ جرى الخلط بينها وبين أماكن أخرى.
كما أنها ساهمت في حجب المعرض عن الناس، ومن ثم كانت فكرة فوبرت هي تصميم مدخل أكثر إثارة للإعجاب في الشمال من المبنى وليس في الشرق، حيث قطع ثلاثًا من نوافذ الواجهة لتوفير مساحة لمجموعة من الأبواب ذات الإطارات البرونزية التي يبلغ ارتفاعها 13 قدمًا، يقترب منها الزوار عبر جسر جديد. كما نقل تمثالاً برونزيًا للممثل الفيكتوري هنري إيرفينغ الذي احتل مكانًا خارج الأرض يقابلها فضاء يتضمن مجموعة من السلالم التي تشكل مدخلًا لطيفًا للمكان.
وفي الداخل جرى إخفاء السلم الكهربائي الذي يأخذ الزوار إلى صالات العرض خلف جدار جديد بوساطة مكتب الاستقبال، الذي جرى نقله مع معالم أخرى كانت تشوه المكان، بعد مسح جرى للمبنى بأكمله وتصحيح لبعض الأجزاء بما يخدم أجواء العرض، مثل معارض تيودور التي احتاجت إلى بعض التعديلات الصغيرة كتبديل لون الجدران الرمادية الداكنة إلى اللون الأزرق لإبراز اللوحات بشكل أفضل، وببعض التدخلات البارعة زيدت المساحة العامة بنحو خمسة أضعاف.
NPG
الاستغلال الأمثل للإبداع
حسب فوبرت فقد كان كريستيان بارعًا في التلاعب بضوء النهار، الذي كان مصدر الإضاءة الوحيد للمعرض قبل تركيب الإضاءة الكهربائية خلال الثلاثينيات. وخلال الحرب العالمية الثانية جرى تعتيم العديد من النوافذ الكبيرة وأضواء الأسقف، ولم يُعد فتح العديد من المصاريع الخشبية مطلقًا لأنها وفرت مساحة إضافية للعرض، وهو ما جعل أجزاء من المعرض تشبه المبنى المهجور.
ولذلك ركز التطوير على إعادة ضوء النهار إلى صالات العرض، فكُشف عن معظم هذه الفتحات المسدودة، مع التركيز أيضًا على حماية الأعمال الفنية، من خلال التحكم في مستويات الضوء، ولذلك جرى تزويد اللوحات بنوعية خاصة من UV و scrims بالإضافة إلى وضع الستائر، لتحافظ على ذلك الألق ولتبدو متلألئة باستمرار.
وقد عمل فريق فوبرت بالشراكة مع مستشاري التراث بورسيل، ومن ثم جرى ترميم أرضية تيراتزو التي اكتُشفت تحت بضع أقدام من الخرسانة، في جناح طويل مع قاعدة مستديرة تلتف حول الحافة الشرقية من المعرض.
أما الجناح الشرقي الذي أعيد تسميته باسم جناح ويستون تقديرًا لمساهمة مؤسسة Garfield Weston التي تبرعت بمبلغ 6.5 مليون جنيه إسترليني للمشروع، فقد تحول لصالات عرض كبيرة مضاءة، بالإضافة إلى أكثر من طابقين على مستوى الشارع وأسفله تضم مختلف الخدمات التي يحتاج إليها الزائر.
أما قاعة المدخل الجديدة، فمحورها الأساس هو أرضية الفسيفساء التي تكرم المهندس المعماري الإيطالي كارلو سكاربا بنمطها الذي يبدو معاصرًا، والتي وضعت لتمييز مناطق التداول عن صالات العرض المزينة بأرضيات خشب الساج.
وقد نُفذ العديد من التفاصيل، بما في ذلك هذه الفسيفساء بعد أن تلقى المعرض في عام 2021 تبرعًا بقيمة 10 ملايين جنيه إسترليني من مؤسسة عائلة بلافاتنيك، ليحصل الطابق الأول، المكون من تسع صالات على اسم جناح بلافاتنيك.
سيضم المعرض استوديوهات تعليمية، بما في ذلك مركز تعليمي مذهل تحت الأرض بارتفاع مزدوج، يطل على الخندق، وهو مبنى مزروع حديثًا كحديقة، حول محيط المبنى، فيما سيجري في المستقبل تطوير كشك التذاكر شمالي الفناء الأمامي الجديد.
NPG
معروضات فريدة
سيكتشف الزوار أن 48% من اللوحات على جدران المعرض الوطني لصور النساء، كما سيكتشفون 56 عملية استحواذ جديدة، مع تلك الرموز الخالدة لأولى عمليات الاستحواذ التي قام بها المعرض منذ نشأته، بالإضافة إلى لوحات أوليفر كرومويل، وويليام شكسبير، وأخيرًا واحدة من أعظم اللوحات البريطانية، بورتريه أوماي لجوشوا رينولدز من عام 1776، والتي تصور أول بولينيزي يزور بريطانيا، عُرف باسم "أوماي" وقد أصبح مشهورًا بعد أن قُدم إلى جورج الثالث.
وفي اللوحة يبدو أوماي حافي القدمين وبيدين موشومتين أمام منظر طبيعي استوائي يرتدي رداء فضفاضًا، وهي اللوحة التي حصل عليها المعرض بالاشتراك مع غيتي في لوس أنجليس مقابل 50 مليون جنيه إسترليني، ليعرضها مؤطرة بقوس من الرخام الأسود مواجهة للطرف الآخر من قبة الملكة فيكتوريا.
جاءت اللوحة جزءًا من إعادة تشكيل ما يقرب من 1200 صورة شخصية بالترتيب الزمني، فيما أعيد كتابة كل ملصق على مختلف لوحات المجموعات البالغ عددها 33 مجموعة باهتمام بالغ، يجسد أهمية وتاريخ كل لوحة في إطارها المجتمعي، مع مجموعة كبيرة جدًا من الصور الفوتوغرافية التي تصل إلى نحو 220,000 صورة.
يخاطب المعرض مختلف الأذواق والتيارات الفنية التي مرت على المملكة المتحدة. ويبرز ذلك على سبيل المثال وليس الحصر في عملين فنيين متناقضين سيجدهما الزائر بين هذه اللوحات المتباينة، الأول يتجسد في صورة ميريديث فرامبتون الأنيقة الجليدية لجورج السادس، التي رسمت في عام 1929 عندما كان لا يزال دوق يورك، والثاني ريشينغ أوت لتوماس جيه برايس التي رسمت عام 2021، لشابة برونزية تنتعل حذاء رياضيًا من نايكي فيما تستخدم هاتفها الذكي، لتشكل اللوحة صورة مصغرة لكيفية تغير المعروضات لتجمع بين الأصالة والمعاصرة في الصور واللوحات.
تحتل منحوتة برايس جزءًا من العرض الجديد في قاعة المدخل، جنبًا إلى جنب مع صورة ذاتية لجاكوب إبستين، وتمثال برونزي لنيلسون مانديلا، وتمثال نصفي رخامي رقيق من القرن الثامن عشر، أبدعه لويس فرانسوا روبيلياك، وقطع أخرى وضعت لتجذب الجميع.
فقد أراد القائمون على المعرض عكس صورة بريطانيا منذ اللحظة الأولى لوصول الزائر إلى المعرض الوطني، إذ يؤمن هؤلاء بأن المؤسسات تزدهر من خلال ضمان احترامها لماضيها وتقاليدها، وهو الأمر الذي انعكس حتى على الشعار الجديد للمعرض الذي استمد روحه من سجل غني لتاريخ حافل بالحفاظ على الأصول الفنية بغض النظر عن تقييمها أو تقييم أصحابها، كونها جزءًا من مراحل التطور للحركة الفنية البريطانية، التي سيستمتع الزائر بالمرور بين جنباتها في المعرض الوطني بحلته الجديدة.