في الجناح الوطني السعودي المتلحف بألوان الصحراء في بينالي البندقية لعام 2024، يضج المكان بطنين متناغم ناعم. ما هذا الطنين إلا أهازيج نحو ألف امرأة من المملكة يهتفن في انسجام تام مع "الكثبان الرملية العازفة"، أو بدقة أكبر أصداء عزف الرمال التي سجّلتها منال الضويان في الربع الخالي للمملكة العربية السعودية.
أشرف على هذا التركيب الفني فريق نسائي بالكامل: جيسيكا سيرازي، ومايا الخليل، والقيّمة المساعدة شادن البليهد. يحمل عمل الضويان متعدد الوسائط عنوان "نطقت الرمال فتحرك الصوت"، وقد انبثق عن اجتماع أهازيج النساء ومشاهد الصحراء والتاريخ، بغرض نقض المفاهيم المسبقة لوسائل الإعلام العالمية عن النساء في المملكة العربية السعودية وإسماع أصواتهن بدلاً من ذلك.
الفنانة منال الضويان.. أشهر الفنانات المعاصرات في المملكة
تمتد مسيرة الفنانة السعودية الضويان لأكثر من عشرين عامًا، وقد استطاعت خلالها تكريس مكانتها بوصفها أشهر الفنانات المعاصرات في المملكة. وقد يكون الشاهد الأبرز على المقام الذي بلغته في دنيا الفن أن أعمالها تحضر دومًا في المتحف البريطاني، ومتحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون، ومتحف الفن العربي الحديث، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، وغيرها من المحافل الفنية.
عندما وقع الاختيار على الضويان لتمثيل بلدها في بينالي البندقية – حيث الجناح الوطني السعودي يوثّق المشاركة الرابعة للمملكة في هذا الحدث، والمشاركة الثالثة للنساء في معرضها هناك - ذكرت أن الموضوع الرئيس في عبارة "Stranieri Ovunque"، التي تترجم إلى "أجانب أينما حللنا"، استأثر باهتمامها لأنه امتداد طبيعي لأعمالها السابقة.
La Biennale di Venezia
"بوساطة النحت والصوت، نجحت الضويان في رواية قصة تتجاوز الثقافات والجغرافيا، لتؤكد بذلك على استقلالية النساء السعوديات وتضامنهن"
تحت عنوان "نطقت الرمال فتحرك الصوت"
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، درست الضويان باستفاضة تمثيلات المرأة السعودية ومكانتها في الفضاء العام، كما استكشفت مفاهيم الانتماء الصارمة للإضاءة على الروايات والنواحي التاريخية الغائبة عادة عن النقاش. وفي هذا تقول: "يُبنى هذا التركيب الفني على عملي الاستقصائي الطويل الذي استكشفت عبره الصور الإعلامية وتأثيرها في تقرير المصير. كما أنه يركز على أهمية التمثيل الإعلامي للمرأة ويتناول موقعها في الذاكرة الجماعية لمجتمعها، بالإضافة إلى الأثر العميق لهذه الصور على إدراك إنسانية النساء".
وفي هذا الصدد، تقول القيّمة مايا الخليل: "درجت الضويان طيلة مسيرتها المهنية على إتاحة فرص التلاقي بين الجماعات المحلية عن طريق عقد أنشطة تشاركية وتعاونية تُعلي أصوات هذه الجماعات وتوثقها". وتتابع: "إن ارتباط الضويان العميق بالمملكة العربية السعودية واستكشافها للتغيرات الطارئة عليها يحظيان بتقدير كبير على المستويين المحلي والعالمي".
قبل هذا التكليف للجناح الوطني السعودي، كانت الضويان قد نظّمت ثلاث ورش عمل في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية، متيحة للنساء مناقشة طريقة تصويرهن في وسائل الإعلام. مثلت هذه الجلسات فرصة لإسماع أصواتهن فرديًا وجماعيًا، والإعلان عن أنفسهن بوساطة الأغاني والكلام والرسومات.
داخل الجناح الوطني السعودي، يشق الزوّار طريقهم عبر متاهة من المجسمات الضخمة المطبوعة بالشاشة الحريرية والشبيهة ببتلات وردة الصحراء (صخرة كريستالية تتشكّل في الرمال ويمكن العثور عليها في الصحراء بالقرب من مسقط رأس الفنانة في الظهران).
ترى الضويان في صخور وردة الصحراء رمزًا للهشاشة وسرعة الزوال والأنوثة والقدرة على التحمّل. وعلى ما هو عليه الحال في مجسماتها السابقة، دمغت الفنانة هذه الورود بالنصوص، ولكنها المرة الأولى التي تستخدم فيها الكتابات والرسومات التي أبدعتها المشارِكات في الورش المذكورة، بعد أن عرضت عليهن مقتطفات من وسائل الإعلام المحلية والدولية.
La Biennale di Venezia
يشق الزوّار طريقهم عبر متاهة من المجسمات الضخمة التي تتخذ شكل وردة صحراء دُمغت بتلاتها بالكتابات.
تجسّد وردة الصحراء استعارة لتعقيدات واقع المرأة السعودية، وتهدف أعمال الضويان الفنية إلى إلهام النساء للعثور على أصواتهن وتكوين مساحاتهن الخاصة في مجتمع متغيّر. فضلاً عن ذلك، تؤكد الضويان على أهمية التمثيل الإعلامي والذاكرة الجماعية في تشكيل التصورات عن المرأة، لذلك تسعى من خلال عملها الفني التركيبي هذا إلى تمكين المرأة السعودية وإعانتها على صياغة السرديات بما يناسبها. وفي هذا تقول: "إذا أراد المرء أن يعرف قصة شعب ما، وخصوصًا المرأة السعودية، فإن عليه الإنصات إلى أصوات النساء مباشرة".
تتوخى الضويان تحدي "المنظورات الموحدة التي تُظهر المرأة السعودية في صورة لا تنوّع أو تفرد فيها"، وهي تقول موضحةً: "لقد نشأتُ ضمن مساحات نسائية تعزز دواعي التمكين بما يجتمع فيها من عناصر ثقافية وهيكلية وسياسية مختلفة. لذلك أهدف من خلال أعمالي الفنية إلى توثيق الطرق التي تتبعها المرأة السعودية المعاصرة للموازنة بين أدوارها التاريخية والحديثة على حد سواء".
تختتم القيمتان الفنيتان جيسيكا سيرازي ومايا الخليل حديثهما عن عمل الضويان بالقول: "في سياق موضوع 'أجانب أينما حللنا'، الذي تلتقي فيه عزلة الغريب مع التجارب المشتركة، تقاوم الضويان بجدارة سردية 'الآخر' وتستحضر أصواتًا ظلت محجوبة لزمن طويل. 'نطقت الرمال فتحرك الصوت' تركيبٌ غامر يجمع في ثناياه بين الأنوثة ومشاهد الصحراء والتقاليد ضمن توليفة تتطلع بجرأة نحو المستقبل".
بوساطة النحت والصوت، نجحت الضويان في رواية قصة تتجاوز الثقافات والجغرافيا، لتؤكد بذلك على استقلالية النساء السعوديات وتضامنهن الذي يلقى صدى في مختلف أنحاء العالم.
يستطيع الضيوف معاينة "نطقت الرمال فتحرك الصوت" حتى 24 نوفمبر 2024 في الجناح الوطني للمملكة العربية السعودية في أرسنال، بمدينة البندقية الإيطالية.