لا يحفل بينالي الفنون الإسلامية بجدة بمشاركات وافرة من الفنانين السعوديين المعاصرين فحسب، ولكنه ينطوي، في الوقت نفسه، على موضوعات فنية مختلفة، متآلفة من جهة ومتباينة من جهة أخرى. فصحيح أن معرض البينالي منضوٍ حصرًا تحت لواء الفنون الإسلامية، إلا أن هذه المظلة من السعة بما يكفي لكي يتناول كل فنان فيها زاوية فريدة وهو ما قد كان.
سعت سارة العيسى ونجود السديري من خلال عملهما المسمى «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» إلى إعادة ابتكار فكرة المسجد، أو النظر إلى الأرض كلها باعتبارها مسجدًا. وهما في هذا العمل يأخذان من الحديث النبوي منطلقًا لإبداع عمل فني مغروس في قلب الفنون الإسلامية.
أما نورا العيسى، فقدمت في المعرض سلسلة صور بعنوان "أوّل ضوء" مستعرضة مشاهد بالأبيض والأسود التقطتها من تحت عباءتها للحجاج من حول الكعبة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"أول ضوء".. صور بعدسة نورا العيسى.
تسيطر على أعمال نورا العيسى سمة لونية معينة؛ فثمة تكثيف من اللون الأسود، وإن شابه بعض بياض في قلة من اللوحات. ولكن الفنانة السعودية لا تركز هنا على التفاصيل في كل عمل، بل تعمد إلى تحفيز المتلقي لإدراك المعنى الكامل عبر تأمله في كلية العمل من دون الاستغراق في أدق تفاصيله، وإن كانت هي قد اهتمت بالتفاصيل اللونية والشكلية لمنح الصور المعنى الكلي الذي أرادته.
Islamic Arts Biennale Jeddah
مشاهد بالأبيض والأسود التقطتها نورا العيسى للحجاج من حول الكعبة.
وثمة سمة أخرى في أعمال العيسى. فأنت لا ترى في صورها أشخاصًا فرادى، بل جماعات يؤدون فعلاً تعبديًا ما، قد يكون طوافًا وربما مجرد المكث وذكر الله.
في المقابل، قد يبدو للوهلة الأولى عمل الفنانة سارة إبراهيم "أصلي لسقوط المطر" بعيدًا من حيث المضمون عن ماهية الفن الإسلامي. ولكن حين تمعن النظر فيها تراها تعزف لحنًا فريدًا، ربما أقرب إلى الصوفية، إذ تركز لوحاتها على البعد الفردي في العبادة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"أصلي لسقوط المطر" بتوقيع سارة إبراهيم.
حرصت الفنانة على إظهار هذه المسألة من خلال حركات شتى: بسط كف وتأملها، أو انحناءة جبين، في تعبير عن خضوع المرء كليًا لله، واتصاله روحيًا بما يحيط به من كائنات وموجودات.
Islamic Arts Biennale Jeddah
إحدى الصور في سلسلة "أصلي لسقوط المطر".
إنها تحاول التعبير عن الصلاة حين تكون حضورًا دائمًا مع الله وليس بوصفها جملة حركات في أوقات معينة، كأنها تقول إن هذه الإيماءات وتلك التأملات صلاة أيضًا ولكن بماهية وكيفية مختلفة.
وإن أردنا مقاربة لأعمال هذه الفنانة أو العثور على شبيه لموضوعاتها الفنية فسنجد أنها أقرب إلى إدوارد هوبر، ذاك الفنان الذي ركز، في أعماله كلها تقريبًا، على الوحدة والصمت، وذوبان الفرد في ذاته بشكل كلي.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"ترامن - دال (مختبر الفن الرقمي)، بتوقيع لمى بنت منصور ومحمد جستنية.
والحقيقة هي أن بينالي الفنون الإسلامية في جدة يزخر بتعابير التأكيد على البعد الفردي في العبادة، أو الاستغراق في الشأن نفسه. فأعمال لمى بنت منصور ومحمد جستنية، وبالتحديد عملهما «تزامن دال» يميط اللثام عن هذا الموضوع بوضوح تام.
ولكن هذين الفنانين يخطوان خطوة أخرى إلى الأمام، إذ يؤكدان أنه وإن كنت غارقًا في تأملك، فثمة شخص آخر في بقعة ما من العالم يفكر في ما تفكر فيه، وهذا التزامن الدال هو ما أرادا التشديد عليه.
وإذا غادرنا هذين الفنانين، فسنجد أن الضوء هو بطل أعمال الفنان التشكيلي السعودي مهند شونو وسيدها. على أن شونو لا يركز في عمله "حروف في الضوء، خطوط نكتبها" على سمة لونية معينة، وإن غلب على إبداعاتها اللون الأسود، بقدر ما يركز على الكيفية التي يتفاعل بها الضوء والظلمة لخلق مشهد أعد له الفنان مسبقًا.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"حروف في الضوء، خطوط نكتبها" لمهند شونو.
ولأن شونو يركز على البعد الروحي في الفن، فقد حرص على أن تكون أعماله بوابة ينتقل منها المتلقي من عالم الملك إلى عالم الملكوت، حتى لتخال وأنت تطالع أعماله كأنك تخلّف عالمنا هذا وراء ظهرك وتلج عالمًا مغايرًا شكلًا وموضوعًا فيما تستكشف معاني المعرفة والخسارة، واليقين والشك، والمحسوس وغير المحسوس في طبيعة الروحانيات في حياتنا.
خلافًا للموضوعات الفائتة جميعها، فإن ناصر السالم يأخذنا عبر أعماله المشاركة في هذا بينالي الفنون الإسلامية بجدة إلى زاوية أخرى تمامًا؛ فالمعماري والخطاط سعى من خلال عمله "حدود مقدسة" إلى الحث على التأمل في مراحل هامة من تاريخ بناء الكعبة، محوّلاً السرديات النصية لهذا التاريخ إلى أشكال وحروف يتداخل في أبعادها البناء والنص.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"حدود مقدسة" لناصر السالم.
يشارك أيضًا في المعرض الفنان أيمن يسري ديدبان من خلال عمله المبتكر "إحرامات" الذي يسلط الضوء على مفهوم الانتماء والحفاظ على التقاليد في وجه قوى العولمة. وفي عمله التركيبي الفني على الجدار، يستعين بملابس الإحرام التقليدية ليتأمل في التعبير عن الهوية الروحانية المشتركة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
"إحرامات" لأيمن يسري ديدبان.
وفيما يركز على الأنماط المختلفة لهذه القطع التي جاء بها من بلدان مختلفة، والتي يوحدها في النهاية اللون الأبيض، يعيد تفسير معنى التسامح. وإذ يمد القطع فوق ألواح خشبية بسيطة لتشكل امتدادات تصاعدية من قاعدة ضيقة إلى قمة أوسع، تخاله يقدم إيحاء إلى ارتقاء النفس مع اقتراب الحجاج من المسجد الحرام.