تتململ لؤلؤة البحر الأسود، وآخر معاقل الشركس على ضفاف الريفيرا الروسية في كراسنودار كراي بالقرب من الحدود مع جورجيا، مجتذبة زوارها إلى فتنة شواطئها المتمددة ألقًا ومشهد غروبها الأخاذ. وبين صيحات النوارس تُسمع من بعيد، وهمهمات قباطنة اليخوت، يشعر المرء في سوتشي أن هذه الواحة الفردوسية التي أعيد اكتشافها تخصه وحده.
تستريح سوتشي بين شواطئ البحر الأسود وقمم جبال القوقاز، مستزيدة من فتنة طبيعة بكر، وألق عمارة زاهية الألوان.
من المرجح أن يكون قائل العبارة الروسية الشهيرة: «إن ليل سوتشي لَحَالِكٌ بحق»، والتي تحولت لاحقًا إلى عنوان لفيلم كوميدي من الحقبة السوفياتية، في إشارة إلى سمعة مدينة شكلت في ذاك الماضي مرتعًا للمجرمين- من المرجح أنه لم يرَ سوتشي مؤخرًا وقد غدت محبوبة الدولة الروسية الحديثة. هذه الجميلة الوادعة تحولت في بين ليلة وضحاها من مرفأ هادئ ومدينة منسية إلى عاصمة روسيا الصيفية، وباتت تشكل مقصدًا لنخبة المشاهير وأعلام السياسة.
تتجلى سوتشي أمام ناظري زائرها مزيجًا من طبيعة بكر، وعمارة من زمن لم يأتِ بعد. هنا تتناسق الألوان الزاهية والتصاميم فائقة الحداثة مع أشجار النخيل التي تطوِّق ممرات المدينة في ربيعها وصيفها. وهنا أيضًا تنبسط الشواطئ على امتداد مسافات من الجمال الخلاب فيما تحرسها من علو قمم القوقاز المجللة بالثلوج. وبين مرفأ ترسو على جوانبه أفخم اليخوت المتسربلة بألوان الباستيل والتصاميم الداخلية الباذخة، وشوارع مرصوفة تزهو بواجهات محال أشهر العلامات التجارية العالمية والدور العريقة، تجتمع في فضاء سوتشي، المنبسطة على مساحة 177 كيلومترًا مربعًا، معاني تمايز لا تعرفها أي مدينة روسية أخرى.
وبالرغم من أن اسم «سوتشي» ذاع صيته كثيرًا في عام 2007 مع الإعلان عن استضافتها دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي أقيمت لاحقًا سنة 2014، والتي عُدّت الأغلى في تاريخ الأولمبياد- إلا أن للمدينة إرثًا تاريخيًا زاخرًا ومؤلمًا. فقد شهد ساحلها والجزء الداخلي منها في القرن التاسع عشر تنظيفًا عرقيًا ومجازر دموية غير مسبوقة استهدفت القبائل الشركسية، ودفعت بهم للهروب إلى الدولة العثمانية بعد سقوط سيركاسيا أو شيركاسيا، موطنهم التاريخي، في سنة 1864. وأنت ترنو إلى الأمواج هنا، قد تسترجع ذاكرتك ما تناقله المؤرخون في كتبهم عن أعداد الغرقى الذين ابتلعهم البحر الأسود، بحر ما زال الشراكسة الباقون في المدينة وجوارها يرفضون الصيد فيه رغم مرور أكثر من 144 عامًا على المأساة التي عاشها أجدادهم. يشير كثير منهم إلى أن منطقة سوتشي، ذات الجذور الشركسية الأبخازية، والتي شكلت آخر عاصمة للشركس في ستينيات القرن السابع عشر- كانت تُعرف في الأصل باسم مدينة «سيدي أحمد باشا»، والي المنطقة آنذاك. لكن الاسم حُرِّف بمرور السنين إلى «سادشا» ثم «ساتشا»، وصولاً إلى «سوتشي».
متنزه «أربوريتوم» الذي يشكل موطنا للحيوانات والنباتات شبه الاستوائية.
اليوم تضم المدينة التي تشبه الحديقة أربع مناطق هي: أدلر، وخوستينسكي، ووسطي، ولازوريفسكي. وهذه تشكل مجتمعة أفخم مجمع للمنتجعات والملاذات الصحية الطبيعية في روسيا. وبوصف مناخها شبه الاستوائي الذي يعد الأندر في القارة الباردة، تستقبل سوتشي في العام الواحد أكثر من 5 ملايين زائر، بعضهم يأتون إليها من الداخل الروسي سعيًا وراء دفء الشمس، فيما يقصدها الآخرون من بلدان أخرى بغرض استكشاف موطن رياضات التزلج في روسيا ووطن الشتاء القديم.
وإن كانت سوتشي قد أفلحت على مدى السنوات الأخيرة في أن تستقطب أيضًا الباحثين عن منافع السياحة العلاجية التي تضمنها ينابيعها الوفيرة ومياهها المعدنية الكبريتية، فاللافت هو أن أقدم المنتجعات العلاجية في سوتشي يعود في الواقع إلى زمن بعيد، وتحديدًا إلى مطلع عشرينيات القرن الفائت. فبعد بناء أول حمام في حي ماتسيستا سنة 1902، شهد عام 1909 افتتاح أول منتجع للعلاجات الصحية تحت اسم «كافكازكايا ريفييرا»، أو «ريفييرا القوقاز». لكن المدينة لم تشهد هذا التغيير إلا في العهد الستاليني! فالقيصر الأحمر اختار البلدة الريفية الرابضة على ضفاف البحر الأسود مقرًا يحتضن منزله الصيفي الواقع إلى يومنا هذا في حدائق الريفيرا الغنَّاء والتي تحوي أكثر من 240 نوعًا مختلفًا من النباتات والأشجار. آنذاك، وبعد الاستحمام في مياه ماتسيستا ذات القدرات العلاجية، عقد ستالين العزم على تحويل سادشا إلى منتجع للعموم، ومقر لاستجمام القيادات الحزبية، والنقابية، والعمالية.
في العهد الستاليني أيضًا، بدأت المباني الكلاسيكية المحدثة ترتفع بالقرب من الخط الساحلي. بل إن سوتشي باتت تشكل موطن العمارة الستالينية التي تتجلى بوضوح أيضًا في موسكو، وتحديدًا في ساحة يوري غاغارين الشهيرة، ومسرح الجيش الأحمر حيث المباني الإنشائية الضخمة ترتفع أعلى من محيطها وتشابه بهندستها الطراز المعماري الروماني القديم. يجد الزائر لمدينة سوتشي نفسه، إلى اليوم، يتنقل بين مبانٍ مختلفة تحمل طابع عمارة ما بعد الثورة.
منتجع روزا خوتور التزلجي الذي استضاف الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014.
في سوتشي، التي باتت تشكل مقر المنتجع الصيفي للقيادة الروسية بوصفها بديلة عن المنتجعات الأخرى التي خسرها الكرملين بفعل انهيار الاتحاد السوفيتي، يأسرك منظر الخط الساحلي الوادع المرصوف بحجارة متعددة الألوان، وأعمدة إنارة سوداء تحرس محال التحف الأثرية والهدايا، والمطاعم التي تتناثر على جانبي ممر لا يكاد يخلو من المتزلجين والسياح طيلة أوقات النهار والليل.
يمكن لزائري المدينة أن يبدؤوا صباحاتهم بأكواب من شاي كراسنودارسكي الروسي المنشأ الأوكراني البذور، قبل أن ينطلقوا لاسكتشاف هذا المرفأ الحالم. فلا أفضل من أن تبدأ جولة الصباح من الممشى البحري الرئيس الذي يقع بين متنزه ريفيرا وحديقة ديندراريوم الشهيرة وسط سوتشي، مدللاً رئتيك بجرعة سخية من الأكسجين المشبع بالأوزون وأملاح البحر.
تصطف بجانب الممشى فنادق لا حصر لها، يطل معظمها على الساحل. فيما يتجاوز عدد الفنادق الإجمالي في المدينة المئتي فندق ومنتجع، يُعد أفخمها رودينا غراند أوتيل أند سبا Rodina Grand Hotel & Spa الذي يبعد عن شاطئ البحر مسافة بضع دقائق سيرًا على الأقدام. يحمل التصميم المتفرد لكل من أجنحة الفندق الأربعين بصمة سوزان لوجير وباتريك بروغمان، مصممي المساحات الداخلية في القصر الملكي الهولندي. تحيط بالفندق ذي الشاطئ الخاص حدائق استوائية تمتد على مساحة 15 هكتارًا. كما تشمل مرافقه الحصرية مسرحًا خاصًا لعرض الأفلام، وملاعب رياضية مختلفة.
تحفل المدينة بكثير من النصب التذكارية التي تجذب انتباه الزوار. لعل أشهر هذه النصب ذلك الذي يجمع بين تماثيل تشرتشل وروزفلت وستالين، شامخًا عند رصيف المشاة بالقرب من جادة الفنادق في منطقة أدلر التي تحتضن أيضًا متحفًا يؤرخ للحرب العالمية الثانية. يمثل النصب الذي نحته فرانك ميسلر في عام 2008 تحية لقادة التحالف الذين حاربوا النازية والفاشية. وقد جرى لاحقًا منح نسختين مشابهتين منه للولايات المتحدة وبريطانيا. أما أقدم نصب في المدينة، المعروف باسم «المرساة والمدفع» فيقبع بالقرب من شارع بريموسكي في متنزه بوشكينسي. يعود النصب إلى سنة 1913 وقد استُخدم في تشكيله مدفع حقيقي من القرن التاسع عشر، ومرساة من القرن الثامن عشر.
تُرجع متاحف سوتشي أيضًا أصداء تاريخ وحكايات بعيدة. فمتحف سوتشي للفنون الذي شُيِّد سنة 1936 يحتل واحدًا من أجمل مباني المدينة، ويضم أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية تؤرخ لمدن البحر الأسود وبلداته على مر حقبات زمنية متباعدة. كما تحتضن المدينة كثيرًا من المتاحف المتخصصة كمتحف السيارات، ومتحف الرياضات الروسية، ومتحف الزجاج، وغيرها.
لكن قبل أن يتورط الزائر في أسر حكايات التاريخ المعتق في متاحف المدينة الكثيرة، فقد يكون من الأجدى أن يواصل أولاً استطلاع الشواهد على تاريخ سوتشي التي تتزين بها فضاءاتها الخارجية، وفي طليعتها متنزه الريفييرا الذي أسسه سنة 1898 رجل الأعمال الروسي فلاديمير خلودوف. تبقى أشجار حدائق المتنزه الواقع في مركز المدينة مورقة على مر العام: في الصيف لهو وظل ومرح، وفي الأشهر الباردة فسحة للتجوال عبر الأزقة المتجمدة بين المطاعم ومراكز الترفيه. لكن أهم ما يميز حدائق الريفييرا، بالإضافة إلى احتضانها منزل ستالين الصيفي المفتوح للزوار، والذي تُرك على حاله منذ وفاة القائد الثاني للاتحاد السوفيتي، هو ما يُعرف بزقاق الصداقة، وهو ممر يزهو بخضرة أشجار غرسها في المكان نخبة من مشاهير السياسة، والفن، والرياضة، ورواد الفضاء الروس.
أما متنزه «يوجنييه كولتوري»، أو «متنزه الحضارات الجنوبية» في أدلر، فيتضوع بسحر من نوع آخر. تأسس المتنزه في عام 1909 وهو يضم أكثر من 5500 صنف من النباتات جُمعت من مختلف أنحاء العالم. يجد الزائر في هذه المساحة الخضراء شجر سنديان يعود إلى ثلاثة قرون خلت، وأشجار نخيل متنوعة المنشأ، حتى نبات الساكورا الياباني الخلاب. يخال المرء إذ يجوب أرجاء هذا المكان أنه يعبر إلى تفاصيل لوحة بديعة الألوان تزيدها ثراء برك تطفو فوق صفحتها زنابق الماء وأزهار اللوتس، وبحيرات مسكونة بطيور البجع، وغير ذلك من مظاهر طبيعية تدل على تنوع بيولوجي ثمين قل وجوده.
تتفرد أسواق سوتشي الشعبية هي الأخرى بطابع خاص يحوِّل زيارتها إلى مغامرة استكشافية يعز نظيرها. في سوق وسط المدينة، كما في أسواقها الأخرى مثل سوق منطقة كراسنداراسكي الأقرب إلى المرتفعات الجبلية، تلفتك تحديدًا مزارع السمك التي تحتجب في الأزقة المتفرعة من السوق الرئيس، والتي تتيح للزائرين تذوق الكافيار الذي تشتهر به روسيا أو ابتياعه. وإن أردت الاستزادة من مذاقات مطبخ الاتحاد السوفيتي سابقًا، فما عليك سوى أن تعرج في وسط المدينة على متجر «كونديترسكايا أليونكا» للحلويات والذي يقصده السكان المحليون كلما اشتد بهم الحنين إلى طعم مألوف من زمن الطفولة. وإن كان المتجر قد حافظ على أسماء المعجنات والحلويات التي يقدمها منذ القديم، فإن تصاميمه الداخلية بقيت أيضًا على حالها منذ ثلاثين عامًا أو أكثر.
استاد فيست الأولمبي الذي يشكل واحدا من الملاعب التي ستحتضن مباريات كأس العالم هذه السنة.
بعيدًا عن صخب الأسواق، تخبئ سوتشي لمريديها فسحة لأنس يسمو بالأرواح والأفئدة فوق جبل أخون، النقطة الساحلية الأعلى في المدينة. فالجبل الشامخ في منطقة خوستا، الذي يحتضن برج حصن حجري منذ عام 1936، يوفر إطلالة بانورامية أخاذة على لؤلؤة البحر الأسود.
أما أولئك الذين قدموا خصيصًا للانغماس في متع سوتشي الفعلية، فلا درب أمامهم إلا أن يصعدوا نحو الجبال، لتفقد منتجع روزا خوتور التزلجي Rosa Khutor Alpine Ski Resort والذي يُعد أحد أبرز منتجعات التزلج في روسيا عمومًا ومن أشهرها عالميًا. ينبسط المنتجع في أعالي الجبال في إقليم كراسنودار كراي، فيبدو من على متن الطائرات وعبر نوافذ العربات السلكية الهوائية فسحة خيالية آسرة. تتوافر لرواد المنتجع خيارات متنوعة من الرياضات الشتوية، إضافة إلى دروس احترافية على أيدي أمهر اللاعبين الروس والعالميين. وفي أعقاب مغامرات ماتعة فوق البساط الأبيض، لا أفضل من زيارة مطعمه الشهير «ريد فوكس» Red Fox الذي يُعد أحد أفضل المطاعم في المنطقة، ومقصد أولئك الباحثين عن طيب مذاقات الأطباق الروسية التقليدية التي تغرم بها موائده.
غدت المدينة الأولمبية في سوتشي أيضًا، منذ استضافتها للدورة الشتوية للألعاب، مزارًا للسياح. يحوي هذا الفضاء الضخم 9 ملاعب للتزلج الحر، وأخرى خاصة بالهوكي، إضافة إلى قصر بولشوي للتزلج على الجليد والذي يتسع لأكثر من 7 آلاف شخص. كما تتميز المدينة الأولمبية ببنية تحتية رياضية متكاملة، ومساحات شاسعة من الحدائق والملاعب التي أقيمت في الهواء الطلق، فضلاً عن مسرح ضخم وآخر مخصص للعروض الخارجية، ومجموعة من الفنادق، والوحدات السكنية، والمطاعم.
في سياق غير رياضي، تبسط سوتشي سجاجيدها الحمراء في شهر يونيو حزيران من كل عام لتستضيف مهرجان الأفلام المفتوح «كينوتافر» الذي تحتضنه المدينة الروسية منذ عام 1991، ويحضره كثير من مشاهير السينما الروسية، والأوروبية، وعشاق الأفلام.
سواء أَقَصَدَ المرء هذه المدينة الساحلية الساحرة بهدف الاستجمام في منتجعاتها الكثيرة، أو توقًا إلى مغامرة تزلجية فوق منحدراتها الثلجية الأجمل، أو كان مولعًا باستكشاف تاريخ هذا المرفأ الأوراسي الدافئ، فالثابت هو أن سوتشي ستنحفر في ذاكرته صورًا ومشاهد يصعب نسيانها.
يشير كثيرون إلى أن منطقة سوتشي، التي شكلت آخر عاصمة للشركس في ستينيات القرن السابع عشر، كانت تُعرف في الأصل باسم مدينة «سيدي أحمد باشا»، والي المنطقة آنذاك. لكن الاسم حُرِّف بمرور السنين إلى «سادشا» ثم «ساتشا»، وصولاً إلى «سوتشي»