في أنس من طلب العلا، على هذه الأرض تريّث عمر التاريخ في دروبها زمانًا، يلملم آثار من حلّوا في الديار أو ارتحلوا ليُرجعها في الغياب مرة صدى حكايات كبُرت ولم تهرم، ومرات شهقات حنين ارتحلت عن قوافي المتفكرين في الشعر والعشق. على هذه الأرض صحراء نثرت رمل ضفائرها في ملاعب الشمس فضاء لعبق آسر يورّط خفق الفؤاد في مجد تليد، في غياهب ماض تحتشد شواهده عجائب في النحت والعمارة، وروائع نقوش تحكي سيرة الأولين.
ففي صحراء وادي القُرى، تهيم الأبصار بين رمل وصخر في فتنة معالم وآثار تستلبك إلى ما احتجب في تفاصيلها من بديع تصاوير تعبر بذاكرتك والحواس إلى ممالك وثقافات من زمن مضى، إلى ما بقي من حضارات اندثرت وما فتئت حكاياها تتفيأ ظل صخر أو جبل يشمخ حارسًا لتاريخ لا يشيخ، لسحر تنماث به القلوب إذا ما أشرقت شمس أو اغتربت فوق امتدادات مساحات صحراوية يتبعثر همس التاريخ في حناياها صخبًا لا يشبهه شيء مثله.
هناك عروس الجبال التي تعلو في عيون الناظرين مفاتنها وقد شكلتها يد الطبيعة ويد التاريخ صخورًا عجيبة خُلدت في جنباتها ذاكرة شعوب استظلت ذات زمن بفيء واحاتها. هناك صحراء العلا الرابضة على طريق البخور والتوابل، أجيئها بحقيبة سفر صغيرة ودهشة طفلة ما زال بها نهم إلى حكايات الغابرين. أتتبع ذاكرتهم الحية في فضائها الرحب، وأقتفي عبر مساراتها آثار شعر قديم كان يصخب به زمان أشهر العاشقين. ففي وادي القرى، هام فؤاد جميل بن عبد الله بن معمر العذري تيهًا ببثينة بنت حيان.
تعد صخرة الفيل من أبرز معالم العلا، وقد تشكلت تحت وطأة عوامل التعرية على الصخور الرملية في هيئة فيل عملاق.
على طريق البخور التي ربطت في أزمنة غابرة جنوب شبه الجزيرة العربية بشمالها، وبالمراكز الحضرية في مصر والشام وبلاد الرافدين، تستريح محافظة العلا السعودية في الركن الشمالي الغربي للمملكة العربية السعودية فضاءً لتاريخ آسر همسه يعاند سكون الصحراء.
فصحراء العُلا التي شددت الرحال إليها مطلع هذا العام تتراءى للناظرين لوحة آسرة تأوي إلى تفاصيلها والألوان حكايات حضارات بعيدة يتردد صداها اليوم بين واحات النخيل وبساتين الحمضيات والرمان، ومزارع التمور، وجبال رملية وتشكلات صخرية تتناثر عبر المساحات الصحراوية ملاعبَ للشمس نهارًا، ومرايا لانعكاسات ضياء النجوم ليلاً.
دادان، عروس وادي القرى في العلا
في صحراء العُلا - التي يشير المؤرخون إلى أنها حملت هذا الاسم منذ القرن السابع الهجري نسبة إلى عيني المعلق وتدعل، الشهيرتين فيها بمائهما العذب - تستأثر بي لأيام ذاكرة للأماكن والمواقع الأثرية تلهج بحكاياها كنوز طبيعية وإنسانية وفيرة تسخو بها وسط الجرود والوديان بقايا مستوطنات غارقة في القدم، ومقابر أثرية، ونقوش محفورة في صخر ورمل.
إنه تاريخ يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، ما فتئت الشواهد عليه تعترش رحاب واحة كانت في ما مضى تُعرف باسم وادي القرى، على ما جاء في مؤلفات قدامى الرحالة والمؤرخين. في كتاب الأدب الجغرافي «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» (عام 375 هـ)، يقول مؤلفه محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالمقدسي البشاري (ص91): «ناحية قرح تُسمى وادي القرى، وليس بالحجاز بلد أجمل وأعمر وآهل، وأكثر تجارة وأموالاً وخيرات بعد مكة من هذه. عليها حصن منيع وعلى قرنته قلعة قد أحدقت به القرى وأكنف به النخيل، ذو تمور رخيصة وأخباز حسنة ومياه غزيرة ومنازل أنيقة وأسواق حارة، عليه خندق وثلاثة أبواب محددة والجامع في الأزقة في محرابه عظم». أما ياقوت الحموي، فقد نقل في كتابه معجم البلدان عن أبي المنذر قوله (348/4): «سُمي وادي القرى لأن وادي القرى من أوله إلى آخره قرى منظومة وكانت من أعمال البلاد وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة، إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب».
إنه تاريخ أشد الخطو إلى كثير مما بقي من بداياته في موقع دادان الأثري في الجزء الشمالي الشرقي من صحراء العُلا، أو الخريبة كما يسمونه، أستكشف في رحابه المرتفعة فوق أرض وادي القرى والمستظلة بفيء جبال شديدة الحمرة، آثار من استوطنوا عاصمة مملكتي دادان ولحيان منذ ما قبل القرن السادس قبل الميلاد. في دادان - أو ديدان على ما أثبته أيضا ياقوت الحموي في معجم البلدان (563/2) بقوله: «الديدَان مدينة حسنة كانت في طريق البلقاء من ناحية الحجاز خربت.» – أقف على مشارف مدينة كانت تحتجب في طبقات الأرض أسفل حوض دائري نُحت في الصخر الرملي. وأنت تتأمل في هذا الإرث الحضاري، وفي المقابر المنحوتة على واجهة الجبل الشرقي القريب - وفي طليعتها مقابر الأسود، هناك حيث تتزين مقبرتان متجاورتان بنحت لشكل أسد يتكرر مرتين - تتزاحم على فكرك عشرات الأسئلة عما عرفه الدادانيون واللحيانيون في زمانهم من فنون العمارة والهندسة، وسبل العيش، والأنظمة الاجتماعية وغيرها.
بعض ما بقي من المقابر المنحوتة داخل الصخور الجبلية في موقع الخريبة الأثري، أرض مملكة دادان.
أبجدية زمن غابر في عكمة وعشار
ليس بعيدًا عن ديدان، تتلبّس الإجابات وجه نقوش ورسوم وكتابات صخرية تجعل من جبل عِكمة، الواقع على بعد خمسة كيلومترات من بلدة العلا التراثية، متحفًا تراثيًا مفتوحًا ترتحل بك معالمه إلى مملكة لحيان، التي شكلت امتدادًا لمملكة دادان بعد أن بسطت سلطانها على المنطقة من القرن السابع (أو التاسع) قبل الميلاد وحتى القرن الثاني قبل الميلاد.
نسير أسفل الجبل صعودًا عبر مسار مرصوف بالحجارة استُحدث وسط الوادي الضيق المنحدر من جبل شاهق، فيما الأفئدة أسيرة الانبهار بسجل يوثق عمر حضارة عرفت الازدهار على مدى حقبة تاريخية طويلة قبل اندثارها. في جبل عِكمة، الأقرب إلى مكتبة صخرية، أو «صفحة إنستغرام من العصر القديم»، تتواطأ على أنظارنا زينة واجهة الصخر الرملي من نقوش وكتابات لحيانية، بعضها ناتئ بسبب تفريغ ما حول تشكلاته، وبعضها الآخر غائر نُفذ بتقنية حز الحروف في الصخر باستخدام أداة حادة. دُونت معظم الكتابات بالخط الداداني، الذي تتكون أبجديته من 28 حرفًا، والذي يُكتب من اليمين إلى اليسار ويُميزه استخدام خط عمودي أو نقطتين رأسيتين للفصل بين الكلمات. وحدهم أصحاب الاختصاص يفلحون في فك طلاسم هذه الكتابات التي يعود أقدمها إلى القرنين التاسع والعاشر قبل الميلاد.
لكن وفرة النقوش والرسومات تحرض المخيلة على ابتداع مشاهد حية لمجتمع احتكم إلى قوانين وأنظمة، فعرف أصول المعاملات التجارية والمقايضة وجباية الضرائب والخراج، وامتهن بعض المهن والحرف الدقيقة مثل صياغة المعادن والنحت، بل أبقى في حياته الاجتماعية حيزًا للترفيه.
فبعض النقوش تدل على دراية بفن العزف على الآلات الوترية، وفي طليعتها ما يشبه آلة السمسمية التي يعرفها الناس في عصرنا هذا، فضلاً عن الطبول والمزامير. لكن التأريخ فوق الواجهات الصخرية لجبل عِكمة لم يكن على ما يبدو مختصًا بالأهالي المحليين في مملكة لحيان، بل شارك فيه أيضًا عابرو السبيل من المسافرين الذين نحتوا في المكان سجل أسفارهم، ومناسك حجهم، والزكوات التي قدموها.
في جبل عكمة، نقوش على الصخر بالخط الداداني يعود أقدمها إلى القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد.
كنز تراثي آخر نستكشفه في وادي عشار بالقرب من سفح حرة عويرض البركانية، وتحديدًا عبر مسار الفنون الصخرية، المفتوح حصريًا لضيوف فيلات عشار، منتجع الفئة الأعلى ضمن مهرجان شتاء طنطورة السياحي (الذي انطلق في دورته الأولى العام الفائت ليتكرس رحلة سنوية للسفر في عبق ماض أصيل، وظاهرة ثقافية). تقول الدكتورة تهاني المحمود، المتخصصة في فنون ما قبل التاريخ، والتي تعمل على إعداد بحث عن الفنون الصخرية في منطقة العلا: «تواصل الإنسان بالفن منذ 30 ألف سنة، مبتكرًا لغة تواصل عميقة لها دلالات تعجز عنها الكلمات.
تتخذ اليوم الآثار الفنية أشكالاً مختلفة، فتتنوع بين منشآت تحت الأرض، ومنحوتات، وأعمال فنية محفورة في الواجهات الصخرية على ما هو عليه الحال في منطقة العلا. بل إن ما تحويه الواجهات الصخرية من فنون عبر هذا المسار لا يعدو كونه جزءًا يسيرًا من كنوز هذه المنطقة التي لم ينقطع الوجود البشري فيها منذ عشرات آلاف السنين.»
نقوش في العلا تؤرخ سيرة شعوب
كل رسم حفرته أنامل من عبروا موقع العلا أو استوطنوا ضفاف الواحات، بعد أن جفت امتدادات الأراضي العشبية والبحيرات في أرجاء الجزيرة العربية، يختصر فصولاً من حكايات يطول شرحها، بدءًا من مشهد استئناس الجمال، ورعي الماشية، وليس انتهاء بطرائق الصيد والقتال على ما تشهد الرسوم المنحوتة.
في إحدى الواجهات الصخرية رسم لمجموعة من الإبل مع صغارها، وثانٍ لشكل آدمي يحمل سلاحًا موجهًا نحو فارس يمتطي خيله، وفي واجهة أخرى رسم لأسد يواجه جملاً، وفي موقع ثالث مشهد يصوّر استخدام الكلاب في صيد الوعول، وعربة تجرها أحصنة. تستوقفنا عبر المسار صخرة منهارة تعود إلى آلاف السنين، تخال وأنت تتأمل في لوحاتها أنك تسمع صهيل الخيول وصليل السيوف وأزيز الرماح تعبر إليك من جماد مشهد لمعركة يشترك فيها ستة فرسان.
تشير الدكتورة المحمود إلى أن «الواجهات الصخرية تزخر بفوارق كثيرة في أسلوب الرسم واللون، الأمر الذي يؤكد أنها تعود إلى فترات مختلفة. كما أن تراكب النقوش بعضها فوق بعض يبين إعادة استخدام بعض الواجهات الصخرية مراراً وتكراراً من قبل الجماعات التي تعاقبت على المكان.»
نقرأ فوق إحدى الواجهات نقشًا إسلاميًا مبكرًا جاء فيه: «أيوب بن عبد الله يؤمن بالله العظيم.»
خلف الصخرة المنهارة، يتجلى أيضًا نقش من المرحلة الإسلامية المبكرة كتبه شخص يُدعى أبو الحميرا بن الرميحا، ويذكر فيه أنه يؤمن بما كذب به أصحاب الحِجر المرسلين.
"مسرح مرايا، الذي يستضيف أنشطة مهرجان شتاء طنطورة من الحفلات الأوبرالية والعروض المسرحية، يرتفع في عشار على النقيض من فنونها الأقدم، ليتخذ شكل مكعب ضخم يتدثر بالمرايا."
سفر في ذاكرة البلدة العتيقة
نعود أدراجنا من متاهات تاريخ غارق في القدم، مرورًا بمعلم حديث يرتفع في عشار على النقيض من فنونها الأقدم، ليتخذ شكل مكعب ضخم يتدثر بالمرايا من الجهات كلها ليعكس مفاتن محيطه الطبيعي. إنه مسرح «مرايا» الذي يستضيف أنشطة شتاء طنطورة من الحفلات الأوبرالية والعروض الفنية والمسرحية، هناك حيث صدح في دورة هذا العالم من المهرجان صوت مغني الأوبرا الإيطالي أندريا بوتشيللي، وحيث استفاقت أسطورة جميل بثينة في الذاكرة على وقع عرض ملحمي مهيب من إنتاج مسرح كركلا.
يلازمني قصيد جميل أينما يممت وجهي في واحات منطقة العلا، أفتش في نسائمها عن آثار من توقد فؤاده بالعشق عشقًا كثيرًا، فنادى:
أفتش عن تاريخ العشق الأحلى في ما حفظته ذاكرتي من أشعاره، وفي صدى من رددوها من أهل الديار، بلدة العلا التراثية التي تنبسط أنقاضها عند أضيق نقطة في الوادي الممتد من سهول الحِجر شمالاً إلى موقع قرح جنوبًا.
ما فتئت البلدة القديمة، التي كان يحتجب قديمًا خلف أبوابها الأربعة عشر ما مجموعه 900 منزل و400 متجر وخمس ساحات، تحتضن بقايا أبنية من الحجر والطوب، تحرسها من علو هضبة قلعة حصينة يعود تاريخ بنائها إلى القرن السادس قبل الميلاد، وإن كانت قد شهدت عمليات تجديد عدة عبر العصور. تتراءى القلعة للناظرين في هيئة سور خارجي يحيط بقمة الجبل وتتخلله فجوات كانت تُستخدم للمراقبة والرماية. يطيب لي أن أتوهم أن السور ما فتئ يُخفي وراءه بعض مخططات موسى بن نصير، فاتح الأندلس الذي أقام في قلعة العلا في ما مضى، فُعرفت باسمه.
تكشف النقوش عبر مسار الفنون الصخرية عن سيرة شعوب المنطقة وما خبروها فيها من أساليب استئناس الجمال، والصيد، والقتال.
عند أطراف القرية التراثية التي استوطنتها أجيال متعاقبة من أهل العلا منذ بداية العصر الإسلامي، قبل أن يهجروها إلى أحياء أكثر حداثة، أعادت الهيئة الملكية لـ محافظة العلا إحياء سوق وادي القرى الذي يشكل امتدادًا للبلدة بطرقاتها الحجرية، وبيوتها ذات الجدران الطينية والشبابيك الخشبية، وفوانيسها العتيقة التي تنير أزقتها الضيقة.
وأنت تجوب أرجاء السوق العتيقة، يُهيأ لك أن قدمك قد زلت بك إلى صفحات من تاريخ قديم تود لو تحشره، يوم يحين الرحيل، في حقائب العودة إلى جانب مشتريات وتذكارات تتفاوت بين قطع من الصابون تصنعها اليوم أيادي بنات العلا من تمور ورمال وخيرات محلية أخرى، وسلال وأوان تحبكها الأمهات والجدات من خوص النخيل، وقطع حلي تراثية قديمة وأخرى حديثة تتزين بنفائس حجارة محلية. أهيم في السوق وقتًا وأنا أنقل الخطو بين محاله التراثية، وقد تحول أحدها إلى ما يشبه متحفًا مصغرًا يستحضر أساليب عيش الأجداد في البلدة القديمة العلا. فهنا تتوزع أدوات كانت تُستخدم في الزراعة، ومصنوعات من خشب الأثل، وأخرى من النحاس تتفاوت بين أباريق وأوان، ومكواة على الفحم، ومحمصة للقهوة، فضلاً عن بنادق أثرية عُلقت على الجدران، ومؤلفات قديمة، وصندوق عتيق يحتضن لوازم العروس من ملابس وحلي، وعطور وبخور وصابون.
وفي جانب من السوق يرتفع مسجد الصخرة التاريخي الذي بناه أحمد بن يسرة في القرن الثامن الهجري على أنقاض بيوت اشتراها من بني صخر، مستخدمًا لعمارته الطين والحجارة المقطوعة ولسقفه جذوع النخل وجريده. وإلى الجهة الجنوبية الشرقية من البلدة، يقع أيضًا مسجد العظام، هناك حيث صلى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق غزوة تبوك، وخطّ محراب المصلى بعظم.
يحتل قصر الفريد في مدائن صالح كتلة صخرية مستقلة ويعد الوحيد بين القبور
الذي تزين واجهته أربعة أعمدة بتاج نبطي.
في جانب من أسواق العلا، نزور موقع المزولة الشهيرة، أو الطنطورة التي يحمل المهرجان اسمها. ارتفعت هذه الساعة الشمسية في المكان قبل نحو 400 سنة في هيئة بناء هرمي الشكل لا ينفك السكان المحليون يستخدمونه إلى يومنا هذا لتحديد بدء موسم الزراعة، وتبدّل الفصول، لا سيما بداية ما يُعرف بمربعانية الشتاء. عندما يسقط ظل الساعة الشمسية فوق الحجر المغروس في الأرض قبالة البناء الهرمي، يبدأ اليوم الأول في فصل الشتاء. إنها لحظة لا تتكرر سوى مرة واحدة في التاريخ نفسه من كل عام. رُصف هنا أيضًا حجران آخران، أحدهما لتحديد بدء موسم الري، والآخر لإعلان البدء بزراعة القمح. في العام المقبل، سيجتمع الأهالي مجددًا، على ما فعلوا هم وآباؤهم والأجداد منذ مئات السنين، للاحتفال سنة أخرى بتقليد العودة إلى الحقول.
آثار الحجر في العلا، نفائس تاريخ لا يشيخ
في صبيحة يوم آخر، أجدني على موعد مع ماض أبعد تحتل حكاياته الفضاء الرحب خلف بوابة آثار الحِجر. أول ما يستوقف الزائرين هنا بقايا محطة تعود إلى عام 1907، بُنيت على مقربة من قلعة عثمانية ترتفع في دورين يتوسطها بئر ماء يُقال إنه ربما كان بئر الناقة.
شكلت محطة الحِجر قديمًا جزءًا رئيسًا من خط حديد الحجاز لربط الشام بالمدينة المنورة. لكن جل ما بقي من المحطة اليوم قطار ألماني قديم من طراز Jung أعيد طلاؤه حديثًا، وبضعة مبان للحراسة والسكن وأغراض التخزين وغيرها، ومشاهد متخيلة عن رحلات حجاج استراحوا في المكان، ومطالعات تاريخية عن لورانس العرب وحكاية انضمامه إلى الثوار الذين حرضهم سنة 1917 على نسف خط الحجاز.
لكن هذا التاريخ غيض من فيض حكايات لا تنفك أن تستلبنا إليها كنوز نجد في استكشافها في ختام جولة في المتحف الذي تضيء أروقته على تاريخ موقع الحِجر الأثري، و«مدائن صالح» التي أدرجتها اليونسيكو على قائمة التراث العالمي في عام 2008. أُرجع النظر في بهاء فضاء تشكلت معالمه عبر ملايين السنين، وإحساس بالرهبة يتجاوز بي حدود التفكير في لغز هذا الموقع. فبعضم يقول إن الثموديين أول من أقاموا فيه في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ثم أعقبهم اللحيانيون في القرن التاسع قبل الميلاد، إلى أن استقر الأنباط في المكان في منتصف القرن الأول قبل الميلاد وأسقطوا مملكة بني لحيان. غير أن علماء الآثار لم يجدوا ما يثبت أن قوم ثمود هم من بنوا هذه التحفة المعمارية المهيبة، بل شيدها الأنباط مدينة ثانية لهم بعد البتراء على طريق التجارة القديم.
في وادي القرى، يرتسم ألق التاريخ لوحة آسرة تناغم بين امتدادات واحات النخيل وشموخ الجبال الصخرية.
مدائن صالح تحكي سيرة الأنباط
تقع مدائن صالح بمحافظة العلا بمنطقة المدينة المنورة، وهناك أقف مأخوذة بعبق تاريخ يستريح في رحاب جبل إثلب الذي كان يحظى بمكانة قدسية لدى الأنباط. على ما هو عليه الحال في البتراء، ينبسط ممر طبيعي يُعرف باسم «السيق» وصولاً إلى النتوء الصخري المسمى جبل إثلب، وحوض تجميع الأمطار. إلى يمين السيق ديوان يتجلى للناظرين قاعة نُحتت في الصخر وأثرتها مصاطب حجرية، وعلى امتداده كتل حجرية منحوتة في الصخر الرملي تجسد محاريب بعضها فارغ وبعضها يحتضن تماثيل لآلهة الأنباط، مثل ذي الشرى الذي يُرمز إليه برسم النسر. في جبل إثلب، يحتشد ما يزيد على 100 نقش بلغات مختلفة بعضها يمثل رسائل خلّفها السكان المحليون، والمسافرون، وحتى الجنود الذين كانوا يحرسون الطريق إلى مدينة دادان القريبة.
"ما فتئت البلدة القديمة في العلا تحتضن بقايا أبنية من الحجر والطوب، تحرسها من علو هضبة قلعة حصينة."
في منطقة حِجر من البلدة القديمة العلا، كان الأنباط يسكنون السهل المنبسط أسفل التكوينات الصخرية الطبيعية لمدائن صالح التي نحتوا فيها مقابرهم. وفي وسط المدينة المسورة التي ترتفع بيوتها في طبقة واحدة، كان ثمة ساحة فسيحة يتوسطها معبد ونصب تذكاري من الحجر الرملي الأبيض. أعبر مكانًا كان قبل آلاف السنين يضج بأصوات تجار ورعيان وحراس قضوا وبقيت مقابرهم روائع أثرية تشي بتفوق إبداعهم في الهندسة.
فالأنباط الذين سيطروا على طريق تجارة البخور والتوابل، وبرعوا في حفر الآبار وشق القنوات المائية بما ضمن ازدهار سبل الزراعة في زمانهم، أتقنوا فنون الهندسة والنحت والزخرفة على ما يتجلى من مقابرهم الأقرب إلى قصور تشمخ اليوم وسط امتدادات الرمال الصحراوية، من منطقة الخريمات التي تضم 53 مدفنًا موزعة على تسعة جبال تزهو واجهاتها بالأعمدة البارزة والتيجان المزخرفة والتجاويف الجدارية، إلى قصر البنت الذي تشكل من كتلتين جبليتين في إحداهما 29 مقبرة، وفي الأخرى مقبرتان فقط، لكنها كلها حُفرت في الصخر الرملي في هيئة حجرات وجسدت ذروة الإتقان في النحت والزخرفة.
ويتمايز أيضًا ضمن مقابر الحِجر قصر الصانع الذي تعلو واجهته شرفات مدرجة، وقصر الفريد الذي يحتل كتلة صخرية مستقلة ويُعد الوحيد بين القبور الذي تزين واجهته أربعة أعمدة بتاج نبطي عوضًا عن عمودين.
ترتفع قلعة العلا، التي عرفت لاحقا بقلعة موسى بن نصير، في أعلى الجبل في هيئة سور يشرف على البلدة التراثية.
كان الأنباط يبنون مقابرهم من أعلى إلى أسفل، فيستخدمون الفأس بداية لسحق الصخر الرملي، ثم ينفذون الزخارف باستخدام الإزميل والمطرقة قبل البدء بعملية التمليس بوساطة حجر بركاني. في قصر الفريد الذي لم يكتمل بناؤه، على ما يظهر من جزئه السفلي، يظهر في أعلى الواجهة نحت لنسر باسط جناحيه، ومنحوتات لآنية، ونقش يحمل اسم صاحبه «لحيان بن كوزا وذريته».
اعتاد الأنباط أن ينقشوا فوق المدافن اسم صاحب المقبرة (وأحيانًا مهنته)، والأشخاص الآخرين المسموح بدفنهم فيها، وحتى بعض اللعنات التي تصيب الغرباء إن دفنوا فيها، وغير ذلك من الرسوم والرموز الدلالية. في قصر البنت من العلا مثلاً، يظهر رسم لحيتين داخل مثلث يرمز إلى حارس القبر. أما في مدافن جبل الأحمر الواقعة إلى الجهة الجنوبية الغربية من قصر البنت، فنُقش فوق أحد المقابر المكتشفة ما مفاده: «هذا هو القبر الذي صنعته هنية بنت وهب لنفسها، وأطفالها، وذريتهم إلى الأبد.
«كما كشفت أعمال التنقيب في هذه المقابر عن أن الأنباط اعتمدوا أسلوبًا خاصًا في دفن موتاهم، وخلافًا لما كان عليه الحال لدى قدامى المصريين الذين استخدموا التحنيط، لجأوا إلى تكفين الميت في ثلاث طبقات هي الصوف المصبوغ بلون أحمر، يليه طبقتان من الكتان، ثم كسوة من الجلد تُستخدم مواد التحنيط فوقها قبل أن تُزين الجثة بقلادة مصنوعة من التمر.
"في صحراء وادي القرى، تهيم الأبصار بين رمل وصخر في فتنة معالم وآثار تستلبك إلى ما احتجب في تفاصيلها من بديع تصاوير تعبر بذاكرتك والحواس إلى ممالك وثقافات من زمن مضى. "
نغادر مدائن صالح وفي جعبتنا ألف حكاية وحكاية عن حضارة تتواطأ على أفئدتنا بألقها الساحر، وأودع صحراء العلا، عروس الجبال والآثار، وما زال بي توق إلى مساحاتها التي تشكلت فضاء لعبق تاريخي آسر، لعشق خُلّد في أبيات شعر سيظل صداها يتردد بين الأقبر. ففي الغياب قد ينعس ألق وادي القُرى فوق حجارتها، لكن قصيد جميلها سيظلّ يرجع صداه في واحاتها والذاكرة: