... بل العودة إلى مسرح الشوق والحب، وملاعب الصبا، ومنبت الشعر، وموسيقا الصمت، وهدأة الليل، وسمر النجوم، وأحلام الشعراء... وفتيت مسك الحبيبات، ودمع المحبين المهراق...
بل الهجرة إلى فضاءات الحلم، وصهيل الخيل، ورمال الصحراء التي دفنت في حناياها الذكريات، والجراحات، والدموع، والمعارك... الهجرة إلى حيث يشتاق أديم الأرض سحائب السماء، وحيث يصنع القَطْر والعطر والشعر مهرجانًا لسحر اللواحظ التي قتلت عشاقها، والثنايا، يا لتلك الثنايا، التي تجملت في بارقة السيوف في معارك الشجعان... إلى مسك صويحبات امرئ القيس، وجآذر المتنبي اللواتي يشبهن الظباء أو تشبههن الظباء، حيث للجمال أصل لم تزيفه ألوان التحضر، ولم تغيِّر من حسه جلبة الدنيا التي تزدحم بعالمها، وحديدها، وزيفها، وإسمنتها، وزجاجها، وكذبها المتجمل وتصنعها الخادع... هناك في تلك الفيافي لا لون للأرض إلا لون الأرض، ولا صوت إلا صوت الذكرى، حيث ركضت الخيل، ورقص الشعر لنبض قلوب العذارى... ثمة حيث كان النهار، نهار الخزامى، إذا ما اختال الربيع ضاحكًا بعطره الذي يضمخ بأريج الزهر الحكايات والذكريات، وبيوت الشعر ومفارق المسك فوق نواصي الحسان، يضوع شذاه بين الثنايا والضفائر..
هناك حيث تصطبغ السماء في شفقها بلون الصحراء أعلن المتنبي:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
وهناك بكى على ذلك المسرح... على أطلال الحبيب جميع الشعراء ممن أحرقت نار العشق شغاف قلوبهم، ولوَّع تحمُّل الأحبة المهج فيهم والمآقي... هناك لا عمارة إلا بيوت القصائد، ولا طريق إلا مدارج حب قيس وجميل، ولا عمرانَ إلا حيث بنت المشاعرُ منازلَ للعشق القديم يتردد صداه فوق الأرض، وتحت الأرض، وفوق بيض الغمام، وقد علت زفراتُ ذلك الحب، وفاضت عَبَراتُ الفراق صبابةً على ظباء تلك الفلاة التي زيَّن فضاءها كحلُ العيون وابتسامة عبلة بين النجوم، وآهات لبنى إذا ما اشتد القيظُ، قيظُ الشوقِ، شوقِ المحب للحبيب.
في الصحراء رحلة في قلب التاريخ، تبحث عن الشواهد، وما بقي من عمارة الوجدان في صهيل الخيل التي ترقص للتاريخ، ودفء الشمس الذي يعانق هذا الكثيب.. وذاك الكثيب.
هناك في الصحراء ينبش التأمل أعماق الثرى، يستخرج القصائد من مراقدها، ويسترجع من الليل أصوات الليل، وبقايا الحكايات التي لم يمحها إقبال السنين وإدبارها، وموسيقا الطبيعة إذ تغازل النسائم الرمال، ليعود إليك، إن أحسنت التأمل، ضجيج الصمت وعنفوان الشجاعة التي لم تَعْفُ رَسْمَها ريحُ الشمال والجنوب.
هناك يلمع في سيف عنترة ثغر عبلة المبتسم، وهناك اغتسلت الشدَّة بعَبَرات المحبين، وقد انعصرت القلوب لمن سارت بهن الهوادج مرتحلات إلى مرتع جديد للوجد، ينبت فيه العشق والعطر والشعر كرة أخرى.
وإن كان لك في ابن خلدون ما تأخذ من قوله أو ترد، فقد مال ميل المتنبي في تفضيل البداوة على الحضارة التي رآها نهاية العمران البشري لأسباب شتى، من بينها، خروجها إلى الفساد. فقد قلَّ، عنده، في الحضر ما كثر في البداوة من اجتماع الناس على ما يعظِّم بينهم الصلة والتواصل والمصالح والتكافل. فجيران الوحش، على وصف المتنبي، استخلصوا من اجتماعهم صفاء الطبع، ورقة الحس، ولطف التمييز بين الأشياء. لذا كان الشعر إذ تخرجه الصدور من لحظ العيون وملح الأرض كالنخلة تخرج من أديم الصحراء ثمرًا حلو المذاق... أما أهل الحضر، عند ابن خلدون، فقد «ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف...» وكأنه يقول، على ما قاله المتنبي الذي لا يرى ابن خلدون في نظمه ونظم المعري ابن الصحراء شعرًا، إن في البيداء ما يبقي للاجتماع الإنساني معنى، كما عشق المتنبي فيهم جمالهم المطبوع لا المصنوع.
في الصحراء فضاء تاريخ أصوات من عبروا، وحداء الإبل، وكرم الضيافة، وصفاء الطبع، وقصص من عشقوا وماتوا بعشقهم... وفي تتبع تلك المواطن والوقوف على أطلال تاريخها متعة في الزمان والمكان لا تشبهها متعة أخرى.