تواجه الصحافة العربية تحديات كبرى على صعيد تطوير الصناعة والنهوض للمتطلبات الجديدة التي تفرضها التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والتنموية التي تمر بها المجتمعات. إن العصر الجديد الذي يعيشه الناس بآفاقه المعرفية والمعلوماتية الواسعة يحتم على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية أن يلتفتوا إلى تطوير محتواهم الإعلامي وخطابهم بما يعين على الحفاظ على المساحة التي تحتلها الصحافة في دائرة توفير محتوى مرجعي، أو تثقيف القراء، أو التأثير في وعيهم بخطاب معرفي جديد يدرك تحديات المرحلة، ومقاربة ميول القراء في اختيار المحتوى الذي يقدر على استقطابهم على صعيد الوسائل التقليدية الورقية، أو على صعيد وسائل الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية. أكبر هذه التحديات منصرف إلى تمكين الصحف والمجلات لتبقى مؤثرة وقادرة على الحفاظ على قرائها واستقطاب شريحة جيدة من القراء الجدد. هؤلاء القراء الذين اتسعت أمامهم الآفاق وأصبحوا قادرين على التمييز واختيار ما يريدون أحيانًا من وسائل غير تقليدية.
لا يتأتى لأحد أن يغض الطرف عن تلك التحديات الكبرى التي تهجم على الصحافة الورقية من كل حدب وصوب. ومن أعظم هذه التحديات قصور كثير من الصحفيين والمؤسسات الصحفية التقليدية عن أن تحسن استيعاب الآفاق التكاملية الكبرى التي تتيحها الإنترنت أو المحتوى الإلكتروني على الإنترنت. كثير من الصحفيين العرب، أو بعض صناع القرار في المؤسسات الإعلامية العربية، لا ينظرون إلى الإنترنت إلا على أنها منصة إلكترونية للمحتوى الورقي نفسه. وهذا تصور غير دقيق، ومطلب قاصر. إذ ليست الإنترنت من حيث كونها منصة معرفية ومعلوماتية ما كانت عليه وسائل حفظ قواعد البيانات التقليدية. بل إن الإنترنت التي يألفها الناس تواجه تحديات من داخل عوالمها ستعين على تطويرها واستيعاب الآفاق والفرص الجديدة التي تتيحها مواقع الشبكات الاجتماعية ودور المدونين، والمواطنين الصحفيين أو صُنَّاع المحتوى، في ذلك. على هذا لا يخشى على الوسائل الورقية التقليدية من صحف ومجلات من الإنترنت من حيث كونها وسيلة معلوماتية، بل من حيث كونها وسيلة معرفية تفاعلية قادرة على أن تقدم لقرائها أو متصفحيها ما يرغبون فيه، أو ما يحقق بغيتهم المعرفية المتكاملة في بيئة لا تحدها حدود لزمن التلقي والتفاعل. ثم إن التحدي الأكبر ليس فيما تأتي به وسيلة إعلامية جديدة من تهديد لوسيلة إعلامية سابقة. فكل الوسائل موجودة من مذياع وتلفاز وصحف ومجلات، لم تلغي إحداها الأخرى. لكن كل وسيلة فرضت تحديات جديدة على الوسائل الأخرى. وكان في هذا الأمر بعض الجوانب الإيجابية أحيانًا. إذ كشفت تلك التحديات عن الفرص الكامنة التي يتأتى لهذه الوسائل التقليدية من أن تأخذ بها لتطوير نفسها، وتوسيع دائرة انتشارها لدى القراء الجدد، لا أنها كشفت فحسب عن مكامن الخطر التي قد تهدد الوسائل التقليدية.
لا ريب أن عصرنا الثقافي والسياسي والتقني والمعرفي أنتج قارئًا جديدًا يختلف اختلافًا بيِّنًا عن القارئ التقليدي، من حيث قدرة القارئ الجديد على الوصول إلى المصادر الإعلامية التي يريدها، أو يغلِّب الثقة بمحتواها، بسهولة ويسر. إنه قارئ ذكي يحسن التميز بين هذه المصادر ويعرف ماذا يريد منها، ويتيح له تنوعها أن يتقلب بينها. هذا القارئ يمثل الشريحة السكانية الغالبة في معظم المجتمعات العربية، وهي شريحة القراء الشباب الذين يشكلون غالبية من يقرؤون، بغض النظر عما يقرؤونه وقيمته. أكثر هؤلاء منصرفون إلى أوعية المحتوى الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت. ولقد غدت شريحة كبرى من هؤلاء في كثير من البلدان العربية في دائرة صنع الحدث السياسي والاجتماعي الثقافي من حيث كونهم منتجين له، لا مخبرين عنه أو قارئين له فحسب. هذه الشريحة الغالبة من القراء الجدد لا ينبغي أن يغفل عنهم العقل الاستثماري في المؤسسات الإعلامية العربية.
ربما كان التوسع في صناعة المحتوى الإلكتروني في مقدمة استراتيجيات المؤسسات الإعلامية العربية. صحيح أن واقع هذه الاستثمارات عمومًا قليل وضعيف، إذ لا يكاد يزيد المحتوى العربي على الإنترنت عن %2 من المحتوى المتوفر بلغات متعددة. وأكثر هذا المحتوى محتوى «غير نظيف»، ولا يستقيم أكثره لقواعد الصناعة الإعلامية. على هذا، وعلى كون المساحة العربية في الفضاء الإلكتروني لا تزال ضيقة، فإنه ينبغي أن تتوسع الاستثمارات فيها من حيث كونها هي الفضاء الواسع للقراء الجدد، أو لقراء جيل الشبكات الاجتماعية. إذ لا يمكن النظر إلى المساحة الإلكترونية التي تشغلها وسائل الإعلام الورقية على الإنترنت على أنها الحضور الإلكتروني البارز للمحتوى العربي على الإنترنت فقط، إنما هي جزء من هذا الحضور وليس الحضور الأكمل على صورته الاستثمارية الأنسب إذا ما استحضرنا بعض التجارب العالمية. بل لا بد أن تبنى مواقع محتوى إلكترونية تفاعلية على الإنترنت تشكل نتاجًا حقيقيًا لعصر المحتوى المعرفي الجبار الذي تشهده شبكة المعلومات العالمية، وتستصحب تصوراته أول ما تبتدئ منه احتياجات القارئ الجديد.
المحتوى الإلكتروني على الإنترنت ينبغي أن يستفيد من الإمكانات التقنية التي تتيحها الإنترنت من حيث تحديث المحتوى الذي تتكامل فيه أجزاؤه النصية والمرئية والسمعية بما يتعذر مثله للنسخة الورقية من المطبوعة. وإذا ما نُظر إلى هذا الحضور نظرة استثمارية أيضًا، فإنه يغدو يسيرًا تدبر أن وسائل استقطاب القراء والمعلنين إلى المواقع الإلكترونية تختلف، لا ريب، عن وسائل استقطابهم إلى المطبوعات الورقية.
حتى لا تخدعنا القراءة المستعجلة لأرقام الإيرادات الإعلانية الإلكترونية التي جلبتها مواقع الصحف والمجلات الكبرى في العالم، فإن الصحف العالمية الكبرى ما زالت تحقق أكبر إيراداتها من نسخها الورقية وإن كانت قد تدنت هذه الإيرادات الورقية وهبطت معدلات التوزيع الورقي عمومًا.
لا شك أن دوائر الاستثمار في صناعة النشر عالميًا تدرك أن الصحف والمطبوعات عمومًا في محتواها التقليدي ستنحسر مساحات توزيعها انحسارًا ظاهرًا. لذا يلتفت الاستراتيجيون إلى أمرين رئيسين، من بين أمور أخرى، من حيث الاستفادة من الفرص الكامنة للتطوير التي يأتي بها هذا العصر الإلكتروني. الأمر الأول والأهم هو تطوير محتوى هذه الوسائل التقليدية بحيث تحسن التكامل مع الوسائط الجديدة المتعددة الكثيرة للحصول على المعرفة أو المعلومات أو المحتوى. الأمر الآخر هو تطوير الحضور الإلكتروني على الإنترنت والشبكات الاجتماعية بفريق صحفي آخر يحسن فهم هذا الفضاء الافتراضي ومتطلبات رواده.
إن صحافة تقليدية لقارئ تقليدي لن تعمر طويلاً في عالمنا العربي. لا بد من صحافة جديدة لقارئ جديد. ولن يأتي بهذه الصحافة الجديدة إلا صحفيون جدد غير تقليديين، يدركون متطلبات القراء الجدد ويحسنون تدبر اقتصاديات الصحافة الجديدة، والتغيير الذي يأتي به، لا عصر الإنترنت التقليدي، بل عصر الشبكات الاجتماعية، وصُنَّاع المحتوى الجديد بوسائطه المتعددة.