نسيتُ في لحظة اسمَها، ولم أَنْسَ نبضةَ قلبٍ المسمى...
احترتُ وترددتُ وأعياني التذكر:
أنسيتُ الاسمَ؟ أم أُنْسيتُه؟ أم تعمَّدتُ، لسبب نسيتُه، النسيانَ؟
أم أَنْستْني هي، وقد استغرقني التفكرُ فيها، ما اختار لها الناسُ من أسماء؟!
نسيتُ. وقد أعلمُ أن الشمس التي تضرب لقطْر الندى موعدًا ليقبِّل وجناتِ الوردِ لا تُنسى ابتسامتُها، ولا يُنسى، إن اشتد القَرُّ، دفئُها...
نسيتُ. وقد أعلمُ أن العينين قد تستحيان من أن تنظرا في عين الشمس وهي تغسل جدائلها الذهبية في زرقة البحر البعيد لتختبئ من بعدُ أسرارُ نهارها في جوف الليلِ المعتم.
نسيتُ. وفي بريق العينين ما يخلبُ لبَّ كل ذي لبٍّ ممن يغوصون إلى أعمق الأعماق طلبًا للنفيس النفيس من الدُّر والجُمان.
نسيتُ. وقد أعلمُ أن الأسماء قد تضادُّ الصفاتِ، وأن في الصفاتِ ما قد لا تدل عليه الأسماءُ، فتضيع وجهة الذكرى وإن حَضَرَ التذكُّر.
أما وقد أَنْستني هي اسمَها، تذكرتُ أنَّ الورد لا يُنسى لونُه وعطرُه وسرُّه وبوحُه وشذاه. ما نقص في العطر اسمُ الورد شيئًا، ولا زاد في الورد كثرةُ الأسماء.
أَنْسَيْتِني اسمَك وقد هجم طيفُك، فاستغرقني السِّحرُ عن تذكر الأسماء.
نسيتُ اسمَك وأنا أذكرك في نفسي. كيف لربَّات الشعر أن تنسينا الأسماء؟!
أنساني اسمُك اسمَك، وأعياني، وقد انحبستُ في بهائك، أن أتذكر اسمي واسمَك والأساميِ كلها...
حضر البهاءُ، فسكتتِ الألسنُ، وضاع مع الكلام المضيَّع كلُّ الكلام.
هل من سبيل إلى أن يجتمع لشاعر، يستمطر عيني ربةَ شعره، شتاتُ امرأة تفرَّق بوحُها بين ليل تأنسُ إليه وحدتُها من ضجيج النهارات وضوضاء المعاني، وتنسج في عتمته أحلامَها؟ كانت تلقي في بحر الشغف قصائدَ يترددُ موجُها بين الشطآن، ويُسمع صداها في نبضٍ يتردد بين القلوب، إذ تنير بسنا معانيها الأسحارَ. وأجملُ دأْبها أنها كانت تستخرجُ، على ارتياح، أسرارَ العتمة بعد أن تخلدَ الشموعُ إلى نومها، فتستيقظ حكايةٌ تعقبها حكايةٌ، وتطل قصيدةٌ تسبق قصائدَ مثلها. كان يشغلها عن الشعرِ، إذا ما استيقظ ليلُها، الشعرُ، ويلهيها عن الفكرِ طولُ التفكرِ والفكرُ!
كانت تنسج الكلماتِ كما تنسج الحكاياتِ، كما تنبت على ضوء القمر المعاني، كما تزهر في حدائقها الألوانُ معنًى أو فكرةً أو تأملاً في المعلوم المجهول...
كانت تُسمعه ما لا ينطق به لسانٌ
ولا تدرك كُنْهَهُ الآذانُ...
تقول: أنا لست شاعرة! أنا لن أكون!
أنا امرأة من حكايات مستحيلة.
أنا حكاية امرأة يستحيل أن تكون...
أنا من كنتُ أظن أن للحكاية بدايةً
وأن للحكاية نهايةً
وأني امرأة يروي الشعراءُ حكايتي من جديد...
بل كانت تقول: الشعرُ، كلُّ الشعر إنما هو اعتذار الحياة الوحيد إليَّ.
إنما تتولد هذه الكلمات من مكابدة ليل بهموم الليل والنهار.
وإذا ما انتهت الحكاياتُ بعد أن يهدأ اضطرابُ الليل في السَحَر، تفيقُ حكايةٌ جديدة مع فجر جديد، وتنفضُ القصائدُ عن خدودها لآلئ الندى ليتبعها في يوم جديد قصيدٌ جديد...
قالت: أنا لست شاعرة، أنا لن أكون...
مَنْ يعزفُ إذاً المزاميرَ إذا ما هدأ الليلُ وآوتْ أحلامُه إلى غيومه الساكنات من تعبِ المسيرِ،
مِن قلقِ النهارِ،
مِن همومِ الضياءِ؟
مَنْ يُلملمُ المعانيَ الشارداتِ وينظمُها على جيدِ الجمالِ حكايةَ عشقٍ بلسانٍ من شعرٍ مبين؟
مَنْ يستنطقُ العطرَ من سرّ الوردِ؟
مَنْ يلوِّن الليلَ بأحلامٍ تغدو إذا ما شاءت في الليل أن تغدو، وتروحُ متى شاءت أن تروحَ في النهارِ؟
مَنْ يفرُّ قلبُه من صخبِ الناس إلى هدوء الصخبِ؟
مِنْ ضجيجِ الصمتِ إلى أنينِ الضجرِ؟
مَنْ يزيِّنُ الكلمَ بموسيقا البوْحِ؟
مَنْ يأتي من أعماق الجرح بفرح منتظر؟
مَنْ يصنعُ الحكاياتِ في صباحات الندى ومساءاتِ الياسمينِ؟
مَنْ يطرب لِوَحْيِه نبضُ القلوبِ؟
وترقى بلواحظه أسرارُ العشق إلى سماء العشق
وتتنزّل من الغمام القصائدُ قَطْرًا، وعطرًا، وشعرًا، يغسل أوراق الورد من غير ميعاد:
في فجر أيقظه مع نسيم الصَّبا عطرُها
في نهار تلوَّنت خدودُه بلونِ خدِّها
في مساء يودِّع شمسَها ليستقبلَ ليلَها المختبئَ في حكاية لا تنقضي أسرارُها
هكذا الليلُ يلحقُ نهارَك،
هكذا الطيرُ يأوي إلى وطن من أغصانٍ تتراقص أوراقُها لعزف شوقِه إلى سكينتها...
كما يأوي القلبُ المتعبُ إلى قلبٍ لا يتعبُ
كما تنتظر الأرضُ وعدَ السماء فيأتي فجرًا أو حلمًا
يأتي ذكرى أو فكرةً
يأتي ابتسامةً تعطرها أنفاسُك
يأتي، يا أميرة الحسان، جمالاً يؤثرك بسرٍّ من أسراره...
لن يستقيلَ الوردُ من عطره
لن تهجرَ البلابلُ أوطانها
لن تسكت عن عشقها الشادي
لن تسكتَ عيناكِ، ما استيقظَ الفجرُ،
أو هجعتِ الأحلامُ في آخر الليل،
عن قول الشعر
نسيتُ اسمكِ، قال، ولم أنسكِ.
قالت ما ألطف العذر وأقسى في الذنوب الذنب!
قالت بل اصطنعْ إذًا اسمًا جديدًا من الحكاياتِ
من القصائدِ المنسيةِ
من الذكرياتِ...
قالت: سأهديك عشقًا قديمًا منقوشًا على خاتم لتذكرني إذا ما نسيتَ.
قال: ما نسيتُ.
سأهديك من لهْو القلب أجملَ القصيدِ
ما ذكرتُ،
وما نسيتُ،
وما أوحيتِ أنتِ من قصيد...