استحضر فيروس كورونا، مع أذاه الذي بدأ أوله في الصين وانتشر من بعد في العالمين، أن العالم ما يزال يجمعه حس إنساني واحد، تأتلف فيه قلوب الناس وإن تباعدوا في البلدان، ويألم فيه بعضهم لبعض على ما أصابهم في شرق الدنيا أو في غربها.
لم تكشف جائحة فيروس كورونا عن ضعفنا، ضعف العالم بأجمعه، عن مواجهة المخاطر التي انتشرت من ووهان، ولم تكد تنجو مدينة في العالم من أضرارها، بل كشفت عن كوننا جماعة إنسانية واحدة وإن تعددت الألسن، وتنوعت الثقافات، وتفرّقت المذاهب. فالمصاب واحد. وما كان يخشى من أن تتعاظم آثاره في الصين وينزوي عليها، بلغ أطراف الدنيا من أدناها إلى أقصاها. فالعولمة التي كان المتطرفون يجلبون بخيلهم ورجلهم عليها ليقيموا الجدران العالية بين الثقافات والأديان والألوان والألسن والبلدان سادت بحسها الإنساني بعد أن وحّد الخوف، والحزن، والأمل، والموت، والألم بين الناس. سقط ما كان يتكلّفه المتطرفون من أسباب التمايز العنصري المدّعاة ليفرقوا بين الناس. وخَفَتَ كثير من أصوات اليمين السياسي المتطرف الذي عجز سياسيوه وغوغائيوه عن أن يحسنوا تدبر حجم الكارثة التي هجمت على الناس، كل الناس، وانتشرت كالنار في هشيم الدنيا بأجمعها. وإن كان بعض المرضى السياسيين يؤثر جماعة على أخرى في طلب اللقاح أو اختطاف ما يُتقى به المرض، فإن الحس الإنساني بعمومه كان، على الأغلب، غالبا.
ثم إن الجائحة كشفت عن وجه ثان تداعت له الأمم بقدر من التعاون: إنها حاجة الأمم بعضها إلى بعض لاكتشاف علاج، أو الوصول إلى لقاح، أو مساعدة مرضى، أو شراء أدوية، أو أجهزة تنفس، أو أقنعة يتّقى بها فيروس كورونا الذي صار يخشى الناس أنه ينتشر في الهواء كالهواء، وإن كانت بعض الحكومات، خصوصا في دول تزعم أنها متحضرة، تمارس عملا يشبه ما يستبشع من عمل القراصنة، وكل عمل القراصنة بشع، في اختطاف أقنعة أو معدات طبية أو أدوية كانت في طريقها إلى بلد آخر... على الرغم مما تحتال فيه بعض الحكومات لتحقيق مكاسب سياسية من جائحة إنسانية، نجحت دول في إدارة الأزمة على نحو يعز نظيره ووسعت دائرة العلاج الذي تقدمه مشافيها كل من كان على أرضها من أهلها ومن غير أهلها.
ثمة وجوه أخرى كشفت عنها هذه الجائحة: من ذلك أن العالم، كل العالم، الذي انشغل في بناء ترسانات من السلاح الذي يدمر الأرض بأجمعها، مرات ومرات، لم يلتفت إلى بناء قدر كاف من المشافي التي تستطيع أن تخرج في علاج الناس، في أوقات الأزمات، عن منطق طب الحروب حيث يُنتقى من يعالج، ويترك من لا يحزن على موته إلا قليل. وكما كشفت الجائحة عن دروس عظيمة في إدارة الأزمات، كشفت أيضا عن المصائب التي أتى بها أحيانا سوء تقديرات بعض السياسيين وهم يخوضون في غير ما يعرفونه، وفيما لا يحسنونه، خوضَ الأطباء في صحة الناس وعافيتهم، وقد غلب على معالجتهم لهذه الأزمة الكارثية تحصيل المكاسب السياسية والاقتصادية، بدلا من تعظيم تلك المكاسب الإنسانية التي تُحفظ بها الأنفس، لا يضيرهم أن تعلو، يوما بعد يوم، في كل بلد بالآلاف أعداد الإصابات، أو بالمئات أعداد المتوفين.
وثمة أبطال وضحايا تضيق مساحات الأمل عندهم، وتقل احتمالات أن ينأوا بأنفسهم عن العدوى إن أصابت أحد المقربين منهم. أما الأبطال الذين لا تداني بطولتهم بطولة فالعاملون في القطاع الصحي من أطباء وممرضين وممارسين صحيين الذين قدّموا صحة الناس على صحتهم، وبذل العشرات منهم أرواحهم وهم يجتهدون في علاج المصابين، أولهم ذلك الطبيب الصيني الذي حذر من شر فيروس كورونا، وأنه لا يشبه ما ألفه الناس من فيروسات من قبل. فوبخوه قبل أن يقتله الفيروس وهو يداوي الناس، ثم تذكروا أن يشكروه ويعتذروا إليه بعد أن قضى. أما الضحايا الذين ينساهم كثير فهم ممن لا مهرب لهم من الفيروس يفرون من العدوى إن كان أحد أهليهم مصابا، ولا مكان يعتزل فيه مريضهم، إن ثبتت إصابته بالمرض أو ظهرت عليه بعض عوارضه، وبيتهم من غرفة واحدة تشبه مقبرة تزدحم فيها الأنفس والأنفاس، ولا يتقي فيها حميم حميما. هذا حال من ضاقت بهم الدنيا لفقرهم فازدحمت آلامهم مع أجسادهم وشقاء عيشهم في غرفة واحدة، أو معتزل صغير لا يقيهم بأس المرض كحال المهمشين الذين تأويهم منعزلات الفقر أو القهر كالمخيمات والعشوائيات وحيث احتشد الهاربون من الموت والساعون للنجاة بحياة أطفالهم من الحروب وجرائمها. ويكأن الفقر لم يكفهم قهرا، ولا الجوع، ولا عيش الكفاف، وما دون الكفاف، بل جاءهم ما يقرّبهم من عتبات المرض والموت، وهم في عيشهم يجرّبون كل يوم موتا يشبه الموت. والسلامة عند هؤلاء لا يهددها فقرهم وقلة حيلتهم فحسب، بل يهددها جوعهم إن انعزلوا، والموت إن خرجوا. فما أصعب أن يستوي عندك خياران أحلاهما موت مر، إن اختبأتَ أو إن خرجتَ.
لن يكون بعد هذه الجائحة، لا ريب، ما كان قبلها. فقد أخرجتنا من إلْفِنا إلى ما لا نألفه طلبا للسلامة، فحبستنا في بيوتنا على ضيقها أو على رحابتها، وجعلتنا نختبر كيف ينتشر الخراب من مكان إلى مكان والناس يشهدون ذلك بأعينهم بعد أن كانوا يقرأون عن مثل هذه الجوائح في الكتب، ويسمعون عن بعض أخبارها من المتقدمين الأولين. ربما سيكون التواضع أحد الدروس التي سيتعلمها الناس بقوة، وأن شأن الإنسان مهما علا فإنه لا يزال صغيرا إذ يواجه جوائح ليس بمقدور دول ذات تقدم وبأس شديدين أن تنهض لمخاطرها أو يحسن سياسيوها إدارة أزماتها. وآن لكثرة كاثرة من الشعوب أن تتعلم من جديد مبادئ ما ينبغي لهم أن يأخذوا به من أمور عيشهم. فإن ما يجترحه بين الأمم امرؤ واحد قد يطال ضرره مئات الألوف حول العالم. وعلى تسليمنا بأن الناس أحرار في طرائق عيشهم، ومذاهبهم فيما يأكلون، فإنه كما تمنع حرب من أن تمتد من بلد إلى غيره، فإنه بمثل ذلك الحرص على الأنفس والأموال والتجارة والاقتصاد وطرائق الناس في عيشهم، ينبغي أن تحرص الأمم على أن تجنّب بلادها وشعوبها ما قد يضرها من طرائق عيش غيرها. وقد يشبه الضرر الذي نشأ في ووهان، في قليل أو كثير، ما يتولّد في العادة عن الحروب من مخاطر. فقد هلكت أنفس كثيرة، وتهدّمت اقتصادات دول، وأضير العالم بأجمعه بسبب هذه الجائحة. فمن ذا الذي يعوّض الناس عما فقدوه من أحبة، وما تهدد عيشهم وأعمالهم واقتصاداتهم؟ ولن يستغرب أن يكون من بين خلاصات هذه الجائحة أن يحول الناس، في دول كثيرة، دون أن يضار العالم بأجمعه مما قد يستقذر أو يستغرب من مأكل أو مشرب أو طريقة في العيش لا تنحبس أضرارها على بلد بعينه، ولا تسلم منها أمة دون غيرها، بل يطير شر ذلك كله إلى حيث لا يبقي من ضرره شيئا ولا يذر.