تتشابه لوحات الفنان مع روحه التي تميل للحكاية والسرد، فهو يرسم كثيرا
من اللوحات التي مثلت له مشاهدات كان قد عايشها في القدس.
كأن حياته كانت تهيئ له ليكون فنانًا، وتكون القدس موضوعه وهاجسه ووجعه، كما هي حلمه. ففي مطلع الخمسينيات تعرف الفنان ياسر الدويك، المولود في مدينة الخليل عام 1940، إلى شاب مصري قدم إلى القدس وعمل عند والده، واكتشف أن الشاب الغامض الذي لا يعرفون عنه سوى اسمه، إسماعيل، كان رسامًا، وتعلم منه الفتى ياسر فن البورتريه بالفحم (رسم الوجوه). وهو ما جعله يحوز لقب فنان المدرسة الرشيدية التي تخرج فيها.
وفي القدس كما يقول الشاعر محمود درويش:
لا ماضي للقلب إلا على أسوار القدس
ولا طريق إلى الغد إلا عبر أزقتها الضيقة
كان الفن والقدس الأسيرة خطين متوازيين لهوية الفنان ياسر الدويك، اجتمعا لتكون اللوحة سرديتها، وتكون الحكاية بين أسوار القدس وأزقتها والمنفى ظلالاً للمكان، فكل لوحة يرسمها يكون مفتاحها القدس وبوصلتها فلسطين.
يقول الدويك: «القدس عشقي، والمدينة بأسوارها وأسواقها وأقواسها ومآذنها شكلت جانبًا من هواجسي لأحقق ذاتي. وكانت صدمة الاحتلال الصهيوني لما تبقى من أرض فلسطين قد شكلت ردة فعل وتحولاً كبيرين في تناول أشكال الفن لدي للخروج من الفعل الميلودرامي إلى مفهوم التصدي بالاستناد إلى التراث والتاريخ الحضاري».
هناك في المدينة المقدسة نشأ الطفل، يجول شوارع المدينة وأسواقها كل يوم مرورًا من البيت للمدرسة والعودة ويخزن الذكريات. وفي باحة الحرم يراجع دروسه ويرتحل مع التاريخ، ويتأمل المكان ويتشبع بجمالياته، حتى يقول إنه «يعرف كل حجر فيها».
خلال ذلك أتيح للشاب، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة الثانوية، العمل في تذهيب قبة الصخرة نهاية الخمسينيات التي كانت تقوم بها شركة سعودية وينفذها فنيون إيطاليون ومصريون، فتعلم فن التذهيب، الذي يعد من الفنون الإسلامية العريقة. وكان يتحصل على أجرة يومية تقدر بخمسة وعشرين قرشًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، ووفر له التسجيل في الجامعة الأهلية بالقاهرة لدراسة الفنون التي أفادته بتعلم تقنية تثبيت الفحم، ليضيفها لمهارة الرسم على قماش الرسم التي كان تعلمها من مدرس تخرج وقتها في روما. لم يكن المبلغ المالي الذي تحصله من العمل في التذهيب هو المكسب مقارنة بالخبرات النادرة التي كسبها الفنان، والمجد الذي حازه بالعمل في قبة الصخرة المشرفة.
" إن الفنان الدويك يسعى لتحديث العمل الفني وإعطائه بعدا إبداعيا متمكنا
من نواحي الشكل إلى الحد الذي لا يفقد توازنه، ففي أعماله الأخيرة جرى الانتقال من مستوى لوني إلى
آخر دون الإحساس بالقطع أو الإحساس بالتخلخل في الرؤية "
القدس من الذاكرة،
ألوان زيتية على القماش، 70x70سم.
فن الحفر
يقول الفنان الذي درس الفن في معهد العروب، ثم في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1968، وبريطانيا، إنه تأثر بالفنانين العراقيين فائق حسن، وإسماعيل الشيخلي، ورسام الجداريات اليوغسلافي لازيسكي، وخبير الفريسكو الفنلندي أرتمونسكي. ويقول الفنان الذي يعد من الرواد الذين أدخلوا فن الحفر للأردن إن القدس لا تمتاز بجمال العمارة والبناء فحسب، بل هي مدرسة للفنون بما تشتمل عليه من تنوع لعمارة المساجد والكنائس والأسواق والأسبلة، والقناطر، وهي تمثل مرجعية جمالية للفنان وثقافة العمارة وتنطوي على تعدد الثقافات وتمتاز بالتسامح. ويتحدث الفنان عن القدس بحزن شفيف وحنين قائلاً: إننا نستعيد المكان على قماش اللوحة ونستحضره بالخط واللون لنشبع بصرنا بعدد أيام الغياب وسني الشوق وفصول الأسى.
ويصف الفنان الذي درَّس في عدد من المعاهد الأردنية والعربية والجامعة الأردنية أجواء رمضان في المسجد الأقصى بأنها كانت تمثل طقسًا رائعًا، مستذكرًا قدوم القارئ عبدالباسط عبدالصمد وإقامته طيلة شهر رمضان وقتذاك، ويتحدث باعتزاز عن العلاقة التي ربطته مع المقرئ الذي أطلق اسم ياسر على ولده.
يكاد الفنان ياسر الدويك، وهو من مؤسسي رابطة التشكيليين الأردنيين، يكون فنانًا مطبوعًا، بمعنى أن جل أعماله لا تغادر المكان المقدسي الذي يرسمه بشفافية وحب وحنين، ولا يكتفي بذلك، بل يضيف إليها روحه البسيطة والعفوية، والمرحة. فهو شخصية محبوبة من محيط أصدقائه، وجيله من الفنانين، ومنهم كرام النمري، وعزيز عمورة، وعبدالرؤوف شمعون، والراحل محمود طه، الذين يستمتعون بأحاديثه المليئة بالمصادفات الجميلة. يقول الناقد رسمي الجراح: «إن تجربة الفن ، وعبر ما يزيد على نصف قرن من العمل الفني، لهي تجربة فارقة، مهدت الطريق لعدد من الفنانين، وكان لها حضورها العربي».
من حواري القدس 1،
ألوان زيتية على القماش، 70x50 سم.
التعبيرية الرمزية
تنوعت أعمال الفنان الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الفن التشكيلي بالأردن عام 1978، وجائزة بينالي الإسكندرية عام 1976 بين الرسم والتصوير، والحفر والطباعة، والسيراميك، وأعمال المينا، ورسم مدينة القدس بحاراتها وطقوسها التي تضج بحركة الناس والباعة المتجولين والنساء والأطفال.
تأثر الدويك، الذي أقام أكثر من 15 معرضًا فرديًا وشارك في كثير من المعارض الدولية في بداية تجربته، بالمدارس العالمية كالانطباعية والواقعية التعبيرية، لكنه انتقل بعد ذلك إلى التعبيرية الرمزية، خصوصًا في مرحلة السبعينيات. وهو إلى ذلك تربوي أسهم في إعداد كثير من المناهج والمقررات الفنية، خصوصًا في فن الغرافيك (الحفر). يقول الكاتب خالد سامح: «تأتي أهمية ياسر الدويك بوصفه تربويًا، إذ عمل في التربية والتعليم والتربية الفنية تحديدًا، لتشير إلى إخلاصه وفي وقت مبكر للنهوض بذائقة الأجيال، من خلال إسهاماته في صياغة مناهج التربية الفنية للمراحل التعليمية الأولى».
من حواري القدس 2،
ألوان زيتية على القماش، 70x50 سم.
القدس والخليل
لقد نوَّع الفنان بين الرسم الزيتي والحفر على الزنك والمونوبرنت والسلك سكرين وغيرها من التقنيات التي تحمل في طياتها أكثر من خمس عشرة من تقانات فن الغرافيك تناول فيها مفردة الإنسان ومعاناته اليومية. وركز في تجربته على معاناة الإنسان الفلسطيني الذي سلبت أرضه، وهُدِّمت بيوته، وشُرِّد خارج الوطن، وكانت القدس والخليل من موضوعاته. فاهتم بالحارات القديمة في المدينتين وتفاصيلها، وكان يميل إلى رسم المقاطع بدلاً من المشاهد البانورامية، كما تميز بالتناسق الهندسي بين الوحدات والعناصر في سطح اللوحة. وفي الأعمال الزيتية تنحصر الألوان في مثلث لوني يرمز إلى الأرض والقداسة والخصب. فالسماء الزرقاء الصافية، والأشجار الخضراء، والعمارة بألوانها الترابية التي تمنح المكان تناغمًا، وهو ما يظهر في التجانس بين ألوان المكان وألوان أزياء الناس في الأسواق، خصوصًا النساء اللاتي يرتدين الأثواب المطرزة بالحرير الذي تستعار ألوانه من الطبيعة المحيطة بأشجارها ووردها. فالقدس كما يقول المعماري الراحل جعفر طوقان، وهو نجل الشاعر إبراهيم طوقان: «تبدو عمارة القدس وكأنها تنمو من طبيعة المكان».
من حواري القدس 3،
ألوان زيتية على القماش، 70x50 سم.
القدس في حدقة العين
تظهر قبة الصخرة في أعمال الدويك الذي ترأس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين منذ عام 1980 إلى 1985، وعضو الأمانة العامة لاتحاد التشكيليين العرب، وكأنها تقيم في حدقة العين. إنها المدينة التي يراها الفنان الذي أقام أول معرض لفن الغرافيك في الإمارات محروسة بعيون أهلها على الرغم مما يصورها في لوحة أخرى وهي تمتد على الأفق في مشهد بعيد وتتعرض للعاصفة. لكن على الرغم من قتامة العاصفة إلا أن الضوء يتسرب من بين شقوق الغيم ليزرع الأمل.
يقول الفنان التشكيلي محمد الجالوس: «إن تجربة الفنان مرت بعدد من المراحل التي حملت هموم شعبه وأمته». ويقول الفنان والناقد عبد الرؤوف شمعون: «إن الفنان الدويك يسعى لتحديث العمل الفني وإعطائه بعدًا إبداعيًا متمكنًا من نواحي الشكل إلى الحد الذي لا يفقد توازنه، ففي أعماله الأخيرة تم الانتقال من مستوى لوني إلى آخر دون الإحساس بالقطع أو الإحساس بالتخلخل في الرؤية».
تتشابه لوحات الفنان مع روحه التي تميل للحكاية والسرد، فهو يرسم كثيرًا من اللوحات التي مثلت له مشاهدات كان قد عايشها بالقدس، وتحديدًا في أسواقها للباعة والفلاحات والقرويات الفلسطينيات. يقول الفنان المصري عياد النمر: «إن الدويك في أعمال الحفر، خصوصًا الأبيض والأسود، يتميز بالتلخيص والتحوير في تعبير درامي مؤثر».
وفي انتقال ياسر الدويك إلى التعبيرية الرمزية، وبحكم دراسته في أوروبا، فقد انفتح على المدارس الحداثية، مجربًا دراسة الشكل ومواءمته مع الموضوع، خصوصًا بعد أن خبر كثيرًا من التقنيات، في إطار سعيه لتطوير اللوحة بوصفها مفهومًا جماليًا يؤسس لهوية العمل الفني الذي ينسجم مع حجم القضية التي ينافح عنها، دون أن يقع في الخطاب البصري المباشر.
المسجد الأقصى،
طباعة زنك على الكرتون، 40x30 سم.
القدس في حدقة العين
تظهر قبة الصخرة في أعمال الدويك الذي ترأس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين منذ عام 1980 إلى 1985، وعضو الأمانة العامة لاتحاد التشكيليين العرب، وكأنها تقيم في حدقة العين. إنها المدينة التي يراها الفنان الذي أقام أول معرض لفن الغرافيك في الإمارات محروسة بعيون أهلها على الرغم مما يصورها في لوحة أخرى وهي تمتد على الأفق في مشهد بعيد وتتعرض للعاصفة. لكن على الرغم من قتامة العاصفة إلا أن الضوء يتسرب من بين شقوق الغيم ليزرع الأمل.
يقول الفنان التشكيلي محمد الجالوس: «إن تجربة الفنان مرت بعدد من المراحل التي حملت هموم شعبه وأمته». ويقول الفنان والناقد عبد الرؤوف شمعون: «إن الفنان الدويك يسعى لتحديث العمل الفني وإعطائه بعدًا إبداعيًا متمكنًا من نواحي الشكل إلى الحد الذي لا يفقد توازنه، ففي أعماله الأخيرة تم الانتقال من مستوى لوني إلى آخر دون الإحساس بالقطع أو الإحساس بالتخلخل في الرؤية».
"إن القدس لا تمتاز بجمال العمارة والبناء فحسب، بل هي مدرسة للفنون بما تشتمل عليه من تنوع لعمارة المساجد والكنائس
والأسواق والأسبلة، والقناطر، وهي تمثل مرجعية جمالية للفنان وثقافة العمارة
وتنطوي على تعدد الثقافات وتمتاز بالتسامح"
مشهد لمنطقة كنيسة القيامة،
طباعة غائرة على الكرتون، 30x25 سم.
تتشابه لوحات الفنان مع روحه التي تميل للحكاية والسرد، فهو يرسم كثيرًا من اللوحات التي مثلت له مشاهدات كان قد عايشها بالقدس، وتحديدًا في أسواقها للباعة والفلاحات والقرويات الفلسطينيات. يقول الفنان المصري عياد النمر: «إن الدويك في أعمال الحفر، خصوصًا الأبيض والأسود، يتميز بالتلخيص والتحوير في تعبير درامي مؤثر».
وفي انتقال ياسر الدويك إلى التعبيرية الرمزية، وبحكم دراسته في أوروبا، فقد انفتح على المدارس الحداثية، مجربًا دراسة الشكل ومواءمته مع الموضوع، خصوصًا بعد أن خبر كثيرًا من التقنيات، في إطار سعيه لتطوير اللوحة بوصفها مفهومًا جماليًا يؤسس لهوية العمل الفني الذي ينسجم مع حجم القضية التي ينافح عنها، دون أن يقع في الخطاب البصري المباشر.
منطقة الحرم القدسي،
طباعة غائرة على الكرتون، 30x20 سم.
المرأة والأرض
يقول الفنان الدويك عن المرأة في اللوحة إنها الفلاحة الفلسطينية التي تحمل الحياة على رأسها كما تحمل جرة الماء. وهي أم الشهداء والأسرى، الصابرة الصامدة، وهي كالشجرة والأرض، أرسمها بزيها الجميل المطرز بعنفوانها وكبريائها.
للفنان ياسر الدويك مقتنيات في كثير من المتاحف العربية والعالمية، ومنها المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، ومتحف كلبنكيان، العراق، ووزارة الثقافة الأردنية، والمركز الثقافي البريطاني في لندن. أما أعماله التي كان يضمها المتحف الفلسطيني ببيروت فقد تعرضت للسرقة عام 1982.
باب خان الزيت، القدس،
ألوان زيتية على القماش، 70x50 سم.