في تجربة الفنان وتنقلاتها قلق وجودي
لا يتوقف عند اشتراطات التجربة وعواملها
التقنية والأسلوبية.
يشتغل الفنان التشكيلي العراقي، ستار لقمان، على نسقين مختلفين، أو ربما متضادين، حيث يقوم الأول على الزمان بينما يتكئ الآخر على المكان، وهي الفكرة ذاتها التي تشير للذاكرة التي تعيش في المنفى جامعة بين الواقع البعيد مسافةً، والراهن بوصفه ارتحالاً إلى الماضي.
تنقلت تجربة الفنان الذي تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1967 بين عدد من الأساليب والتقنيات، مستجيبة للحراك التشكيلي في العراق وتحولاته وتياراته ونزعاته الفنية، ومتفاعلاً مع الأحداث التي مرت على بلاده، ناهلاً من المشاهدات البصرية التي أنتجتها حضارة وادي الرافدين وتعاقب عليها السومريون والأكاديون والبابليون وحتى الحضارة العربية الإسلامية التي تنوعت بين فنون العمارة والنحت والخط والنقش والرقش.
كان الفنان، الذي يعد من الجيل الثاني بعد الرواد، منتبهًا للحراك التشكيلي والمدارس الفنية التي كانت تنشط في الخمسينيات والستينيات، ومنها جماعة الفن الحديث، وجماعة بغداد وغيرها، وكان واحدًا من مؤسسي جماعة البداية عام 1969 التي نهضت على فكرة إحياء التراث الجمالي العربي والإسلامي، مستلهمين العمارة البغدادية ونمط الحياة اليومية في المدينة والريف ومفرداتها البصرية.
بيوت من الأهوار، قماش، أكريلك،
80X100 سم.
الفن العربي الإسلامي
أخذت تلك الجماعة أبرز سمات الفن العربي الإسلامي بوصفه معبِّرًا عن هوية التشكيل العربي، وينطوي على عناصر البلاغة، خصوصًا أن الفن العربي الإسلامي ينطوي على جملة من البلاغات التي تتصل بالاختزال والتكثيف والسطح الواحد وملأ الفراغ.
كان الفنان ستار لقمان قد نأى بنفسه بعيدًا عن المدينة وضجيجها، موطنًا مفردات الريف التراثية وألوانه وجوانب حياته في اللوحة، وهو اختيار يعكس رغبته في السكينة والهدوء والسلام الذي يشبه شخصية الفنان نفسه.
لم يتوقف البحث عند قراءة الشواهد البصرية في القرية والريف، بل ذهب الفنان إلى تدوين النصوص الغنائية والشعرية والحكايات، كما أفاد من الألوان الحارة، والأشكال المجردة التي تتجلى في الأعمال اليدوية، ومنها السدو، والأزياء، والنقوش.
لا يتسرع ستار لقمان في إقامة المعارض، بل يخمّر التجربة حتى النضج، مراكمًا ومنوعًا بين الأساليب والتقنيات إذ يمثل كل معرض من معارضه تجربة تنزاح عن سابقتها. وهذا ما يفسر قلة معارضه على مدى ستة عقود. من المؤكد أنه لم يتوقف عن البحث خلال ذلك، بل عمل في التدريس، والإلسكو، والمؤتمرات، والورش الفنية التي كانت ترفد التجربة وتضيف إليها بعدًا نظريًا.
الأهوار، قماش، أكريلك،
100X100سم.
بين المكان والإنسان
تجلت تجربة الفنان ستار لقمان في ثلاث مراحل، ربط في الأولى بين المكان والإنسان، وهي المرحلة الواقعية التعبيرية، مقتفيًا أثر الرواد في نقل المشاهدة اليومية من الحارة البغدادية، مبرزًا حضور المرأة. يقول الفنان إنه قد ظهر في هذه المرحلة طراز البناء البغدادي المميز وخصوصًا الشناشيل لأنها صفة البناء البغدادي التراثي المشهورة به، مستدركًا بقوله كنت جسدت الألفة العراقية والوشائج التي تتميز بها الشخصية العراقية مثل المحبة والتعاون والإيثار والتضحية وحب الناس لبعضهم بعضًا. ويضيف قائلاً: كذلك ركزت على الزي البغدادي عند الرجال والنساء، ولم أستخدم اللون الأسود لأعطي بهجة وفرحًا داخل نسيج اللوحة، وقد اتخذت من جسد المرأة تعبيرًا للفرح ، فالمرأة هي المحور الأساسي الذي يزيِّن الحياة، ففي كل حركة منها تغازل صلب الحياة.
"تجلت تجربة الفنان ستار لقمان في ثلاث مراحل، ربط في الأولى بين المكان والإنسان،
وهي المرحلة الواقعية التعبيرية، مقتفيا أثر الرواد في نقل المشاهدة اليومية من الحارة البغدادية، مبرزًا حضور المرأة"
ينظر الفنان المولود في بغداد عام 1944 إلى الرسم بوصفه جزءًا من التعبير الثقافي الذي يمزج بين مشاعر الفنان وثقافة المجتمع. ومن هنا فقد ارتبطت اللوحة بالنص الشعري، فهو يوشح اللوحة بعدد من النصوص الشعرية، ومنها قصائد بدر شاكر السياب، شناشيل بنت الجلبي، وأناشيد المطر التي برزت فيها المرأة اختزالاً للطبيعة وتقلباتها وصورة عن متخيل الفنان الرومانسي.
مشحوف، قماش، أكريلك،
100X70سم.
يقول الناقد العراقي ماجد السامرائي: «إن الفنان يبلغ الحقيقة، لا بالبحث وحده، وإنما من طريق التواصل بين الرؤية الأخرى فيما يقرأ، وبين رؤيته هو، بما يجعل لهذه الرؤية من خصوصية هي الخصوصية الجامعة بين ذات الشاعر وذات الفنان بتمثيلاتها الفنية في الخط واللون والتكوين».
في المرحلة الثانية غاب المكان والكائن وبرز الأثر الذي اختزل منتج الإنسان الجمالي. وذهب الفنان إلى الزخرفة التراثية والشعبية التي تركز على المثلثات والمعينات والمربعات بوصفها عناصر تكوينية يستمدها من الذاكرة، وتحديدًا بعد احتلال العراق عام 2003.
أهلة، قماش، أكريلك،
100X70سم.
وقال الفنان إنه يتجه نحو التجريد بوصفه أحدث الأساليب المستخدمة، مستدركًا بقوله: على الرغم من تعدد الأساليب وتنوعها لا يزال هناك وجود للطابع الإسلامي في بعض اللوحات التشكيلية.
التلوينية الغنائية
تعكس مثل هذه الأعمال الجانب النفسي للفنان الذي تركت الأحداث في نفسه ندوبًا، مكثفًا المشهد البصري في التلوينية الخالصة التي تميل إلى الغنائية وبشكل أقرب إلى نوع من الحنين للمكان الذي طرأ عليه كثير من التحولات بارتدادات جوانيّة للفنان نفسه.
تراثيات، قماش أكريلك،
80X80سم.
يرى الفنان العراقي سعد الطائي أن المنحى الجديد للفنان ستار لقمان يدل على استمراريته في البحث الفني على صعيد الشكل واللون، إذ يبدو تأثره واضحًا بالبيئة. على الرغم من وجود بعض الأعمال التجريدية، إلا أنها لا تزال تحتفظ بمعالم تلك البيئة التي هي أشبه ما تكون بخزين الذاكرة في أعمال جادة وفيها جهد مهم.
"أتعامل مع اللون حسب إحساسي، فالفنان له رؤية تقوم على فهم مغاير عن الآخرين، لأن نفسيته تخضع لبيئة لونية
مجردة تتجاوز الأشكال والأحداث إلى المعنى والدلالة، وهو القادر على تأويلها حسب رؤيته "
- ستار لقمان
يقارب الناقد العراقي، شوقي الموسوي، بين المرحلتين بقوله: إن تجربة الفنان السابقة قد اهتمت بلحظة التعبير عن صورة الحدث «القصة»، فأعماله في السبعينيات والثمانينيات تقترب من الذاتية التي تحتفل بتقديم السير الذاتية وفق نظام السرد الحكائي المباشر. بينما في أعماله المتأخرة والجديدة، قدَّم صورة تعبيرية للانفعالات والصور الوجدانية المستحضرة من الذاكرة البكرية التي يحيلها الفنان بأسلوبه الواقعي التعبيري إلى حقائق موضوعية قابلة للتأمل والإدراك ، مركزًا على صورة الانفعالات التي تساعده على اقتراح أشكاله لصوغ أفكارنا عن العالم المرئي».
الرمزية التجريدية
في المرحلة الثالثة يستعيد المكان باقتراح تأويلي يقايس فيه بين البعد في المسافة والمنفى والماء والخصب والجفاف والخراب، وهو تضاد يبرز قلق الفنان وحنينه وشوقه وحزنه، فيجمع على سطح اللوحة المكان والزمان في افتراقهما دون أن يغيب عن مساحة العمل الفني أسلوب الفنان وملمح ثقافته في الأقواس التي تنهل من شكل العمارة العربية الإسلامية، وشكل القمر والشمس، وهي المرحلة الرمزية التجريدية التي يصفها الشاعر العراقي رياض النعماني بقوله: «إن الأشكال تتوالد في حركة تتراكب نحو مدار الإشراق الأول لفكرة الوجود في دوائر لا تتوقف حتى عند مدار الجوهر الكلي للكون. هكذا كان بعض أسباب وجود الأقواس في بناء العالم، فالقوس أحد تعبيرات قبة السماء، ودورة الأرض، والماء، والجوهر، والفكر، والجسد البشري، وخطوط العمارة في حضارات وادي الرافدين والتي تتردد في تنويعات تشكيلية متعددة لدى الفنان ستار لقمان».
تراثيات، قماش، أكريلك،
100X70سم.
أما الناقد العراقي عواد علي فيقول: «إن لوحات المعرض تشكل امتدادًا لتجارب جيل المؤسسين في الرسم العراقي (مدرسة بغداد منتصف القرن العشرين)، وتتخلله تفاصيل المدرسة المحتفية بالرموز والمعطيات التاريخية والجغرافية الثقافية، بألوان صاخبة وانفعالية تجمل التنوع وفصول السنة وتفاصيل الحياة». ويقول الفنان التشكيلي الأردني، عماد مدانات: «إن المعرض يستلهم الرموز العراقية بأسلوب تجريدي يختزل حضارة العراق ووادي الرافدين عبر الخط واللون».
إضاءات لا تنتهي
هذه الانتقالة عند الفنان تمثل تطورًا للتجربة على الصعيد الذاتي، كما تشكل مساحة استعادية للذاكرة التي تتصل بالمكان العراقي، وتحديدًا منطقة الأهوار التي ترتبط في ذاكرة الفنان بالماء والقصب والحكايات والقصائد والخصب والمشحوف «القارب» والقمر والشمس، والبيوت المفتوحة على الفضاء والحرية، وترتبط بالجفاف والبعد والنأي، وكأن صدى اللون يتردد في المكان مع شوق المتنبي: «لك يا منازل في القلوب منازل». ومع أن الكائن والإنسان يغيب عن المشهد المرئي أو يكاد يغيب، إلا أن تلك التجربة لا تتوقف في صهرها للتاريخ والجغرافيا، والزمان والمكان عند السرد والتأليف الروائي والتشخيصي، بل تذهب إلى الاختزال اللحظي الشعوري الذي يمسك بارتعاشة الضوء واختلاجات النفس، وقراءة الأثر الذي يشير إلى الكائن في تماهيه مع الطبيعة التي تشبهه ويشبهها، وهو سر العنوان الذي حمله المعرض «إضاءات لا تنتهي» الذي يشير إلى استمرار الحياة على الرغم من كل التحديات. وذهب الفنان في أعماله الأخيرة إلى معالجة بناءات اللوحة من خلال الفضاء الفسيح بألوانه التي تظهر الفصول المختلفة وتقلبات النهار بين الإضاءة الساطعة بالأصفر المغبر والمغيب باللون البرتقالي، والأزرق الصافي والأحمر الحار لإبراز انعكاسات المكان نفسيًا والتي تبدو في الضربات السريعة للأقواس والخطوط الأفقية، بينما تقع الكتل بخطوط تجريدية في أسفل اللوحة مكونة منازل أهل الأهوار وأكواخهم وكأنها تقيم على وجه الماء، وبقيت رمزية المشحوف التي تشبه الأهلة التي كانت تمثل واحدة من مفرداته في المعارض السابقة ليواصل الفنان مراكمة التجربة التي تنهل من مفردات الذاكرة البصرية للتراث العراقي في تجلياته المختلة.
تراثيات، قماش، أكريلك،
70X70سم.
البحث عن الحرية
على الرغم من كون الفنان الحاصل على عشرات الجوائز، يقول إنه «لم ير الأهوار»، إلا أن استعادته للمكان ربما ترمز إلى توقه للبحث عن مساحة للحرية والسكون والأمان بعد ما تعرضت له بلاده من مآس وحروب ودمار، وربما العزلة التي يريدها والتي تتيح للمبدع لحظة الروح بلقاء روح المكان.
أفق، قماش، أكريلك،
70X70سم.
يقول الفنان لقمان، وهو عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو نقابة الفنانين العراقيين: إن الفن العراقي له حضوره، وهو يمتاز بملمحه الشرقي وألوانه ومفرداته الغنية التي تحوز إعجاب المتلقي العربي والغربي، لأنه يقوم على مخزون تراثي عريق ينتمي لتجربة فنية طويلة. لافتًا أن الفنان العراقي في الخارج يستلهم تراثه، ويمزج بين الأدبي والثقافي والبصري من خلال الذاكرة، وما توفره التجمعات التي يلتقي فيها الأدباء والفنانون لتقديم صورة بلدهم بعمقه الحضاري والثقافي. ويقول الفنان الذي اقتنيت أعماله في متاحف مقر المنظمة العربية للثقافة والعلوم بتونس، ومتحف مدينة نهلريا بالمكسيك، ومتحف بكين بالصين: «أتعامل مع اللون حسب إحساسي، فالفنان له رؤية تقوم على فهم مغاير عن الآخرين، لأن نفسيته تخضع لبيئة لونية مجردة تتجاوز الأشكال والأحداث إلى المعنى والدلالة، وهو القادر على تأويلها حسب رؤيته».
في تجربة الفنان وتنقلاتها من الواقعية إلى الزخرفة والرمزية التجريدية قلق وجودي، لا يتوقف عند اشتراطات التجربة وعواملها التقنية والأسلوبية، بل تذهب إلى الشرط الموضوعي الذي تحتمه الأحداث التي تدفع الفنان للبحث عن الحرية والسكينة في مساحة اللوحة وبياضها.