العالم الفني يلحق أخيرا بركب الفنان تيشان شو الذي أربك الجمهور

في ثمانينيات القرن الفائت بلوحات ومنحوتات تبدد الحد الفاصل بين التقنية وجسم الإنسان.

 

في مطلع ثمانينيات القرن الفائت، وقبل طفرة الحواسيب الشخصية والإنترنت وتقنية واي – فاي والهواتف الذكية، وقبل فيسبوك وغوغل وأوبر ونتفليكس، عندما كانت نماذج عائدات الضرائب والأطروحات الجامعية والدعوات والفواتير توثق كلها على الورق، كان تيشان شو Tishan Hsu يعمل ليلاً في معالجة النصوص عبر الحاسوب لدى شركات المحاماة ليتسنى له ابتكار الأعمال الفنية نهارًا. تخرج شو من معهد ماساتشوستس للتقنية، وتميز بمراقبته المتبصرة للحالة الإنسانية، فلم يتنبه إلى سرعة نظام معالجة النصوص في إنتاج المستندات فحسب، بل إلى تأثيرات تشغيل هذه التقنية حديثة النشأة أيضًا في وضعية جلوس الشخص وشعوره. وقع أمر طريف شيئًا فشيئًا تمثل في تصادم عالميه: الإنساني والتقني.

 

بدأت لوحاته ومنحوتاته تعكس تقييمه للتقنية من حيث كونها شرعت تتحول إلى امتداد للجسم البشري، هذه الحالة التي خلص إلى أنها ستتعاظم حتمًا بمرور الوقت. استحضرت أشكال البلاطات النموذجية في منحوتاته أصداء مفهوم وحدات البيانات الرقمية، فيما أوحت أغراض ثلاثية الأبعاد إلى عجائب ابتكارات لم تكن قد تحققت بعد. أما اللوحات، فلم تكن تستحضر في الذاكرة شاشات الحواسيب فحسب، بل كريات الدم أيضًا، أو الجسد. قرر شو آنذاك أنه ما عاد بالإمكان تصوير الجسم على الحالة نفسها التي اعتُمدت على مر آلاف السنين. كان الفنان يستشرف المستقبل. وفي هذا يقول: «كان الفن في تلك المرحلة يقبع في هذا المعسكر، وأنصار التقنية في المعسكر الآخر، وكانوا سيتحولون إلى «أشرار» إذ يقوضون الطابع الإنساني للعالم الذي نعيش فيه. لكني لم أر الأمر من هذا المنظور.» لم يطلق شو أي حكم قيمي على التقنية الجديدة نفسها، بل كان مهتمًا عوضًا عن ذلك بحتميتها وتأثيراتها.

 

العمل الفني Autopsy من عام 1988، مشغول من قطع السيراميك، والكروم، ومادة مركبة.

 العمل الفني Autopsy من عام 1988، مشغول من قطع السيراميك، والكروم، ومادة مركبة. 

 

كان شو مفكرًا نموذجيًا سبق أوانه وأسيء فهمه، وقد عمل بصمت على مر عقود عدة، ولكن العالم الفني أغفله إلى حد كبير، أو تناساه، إلى أن تغير واقع الحال اليوم. فقد أعاد القيمون على تنسيق المعارض الفنية، الأصغر سنًا من أن يكونوا حاضرين في مشهد ثمانينيات القرن الفائت، استكشاف شو. سيُفتتح في السادس والعشرين من شهر يناير كانون الثاني الحالي معرض لإبداعاته السابقة في متحف هامر Hammer Museum في لوس أنجليس، قبل أن ينتقل المعرض في شهر مايو أيار المقبل إلى متحف SculptureCenter في نيويورك. يقول زهراب محبي، أمين متحف SculptureCenter، في الحديث عن عمل لشو كان قد شاهده في معرض جماعي سنة 2018، فولد لديه الحافز لتنظيم المعرض المرتقب: «أدركت أني لم أقع قط على ابتكار مماثل. يعود العمل إلى سنة 1987، لكن المرء يشعر بأنه معاصر حقيقة. قصدت استوديو شو آنذاك، ووجدتني مأخوذًا بإبداعه.»

 

في مجمع هادئ بحي ويليامسبرغ في بروكلين، يفتح شو، البالغ من العمر ثمانية وستين عامًا، الباب إلى مبنى ينأى عن مظاهر البذخ والتكلف. يبدو المبنى فسيحًا على نحو مخادع، ويميزه استوديو صغير ينفتح على آخر أكبر مساحة. تتزين الجدران هنا، التي تبدو أشبه بكبسولة زمنية، بكثير من لوحاته المكتملة. في إحدى اللوحات أفواه تعترضها شبكة تشوه أشكالها، وفي أخرى يبدو السطح محززًا مثل شاشة حاسوب معطلة. وثمة أعمال أخرى تشكل تجارب لم تكتمل بعد تنبسط فوق الطاولة أو تتكئ على الرفوف. يعيش شو في الطابق العلوي، فيتيح له بقاؤه على مقربة من الاستوديو أن ينزل في الليالي المشوبة بالأرق إلى الأسفل لتزجية الوقت، أو للتفكير فحسب. يتميز شو بقامة طويلة، وظهر منحنٍ بعض الشيء، وشعر لم يخطه الشيب. تعكس أمارات وجهه طابعًا جديًا، إذ إنه لا يكثر من الابتسام.

 

عُلقت على الجدار الخلفي لوحة ضخمة تتزين بصور يبدو أن شو عمد إلى تكبير أحجامها بنسب متفاوتة. يرمز فم السمكة إلى الطبيعة، فيما يشي جرح في أحد الشقوق إلى الجنس البشري، ويجسد قرص لعرض درجة الحرارة التقنية. يقول شو موضحًا: «إنها كلها عناصر مترابطة تجتمع لتشكل كيانًا واحدًا»، ثم يسارع ليضيف أنه هو نفسه أدرك هذه الرمزية بأثر رجعي تحديدًا. فخلال عمله على اللوحة، كان يقول لزواره: «إنه عمل نابع من الحدس، وسيكشف عن نفسه. لا يمكنني أن أقدم لكم أي اقتراح كفيل بأن يكشف عن موضوع اللوحة.»

 

لوحة R.E.M. من عام 1986، مشغولة باستخدام الأكريليك والراتينج الألكيدي ومادة مركبة فوق لوح خشبي.

لوحة R.E.M. من عام 1986، مشغولة باستخدام الأكريليك والراتينج الألكيدي ومادة مركبة فوق لوح خشبي.  

 

ربما كانت التكهنات التي استشرفها شو في ما يتعلق بالعصر الرقمي متوقعة. نشأ الفنان، المولود في بوسطن لأبوين هاجرا من الصين، في كنف والد كان يعمل أستاذًا في الهندسة، ووالدة تمرست على الغناء الأوبرالي وشجعت ميوله الفنية.  وقد ترعرع في الصغر في زيوريخ ثم راح يتنقل في الولايات المتحدة الأمريكية – من ماديسون في ويسكونسن إلى بلاكسبرغ في فرجينيا، ولونغ آيلاند في نيوريورك – حيث تلقى دروسًا خاصة على يد فنانين محليين. حثه أستاذ، وجدته والدته، على الرسم بأسلوب يحاكي الواقعية الجادة لدى إدوارد هوبر، فيما وجهه آخر إلى المدرسة الانطباعية. كان شو لا يزال مراهقًا يعيش في فرجينيا عندما شرع يعرض لوحاته ويبيعها.

 

خلال السنتين الأخيرتين من تحصيله العلمي في المرحلة الثانوية، وكان آنذاك قد انتقل إلى إحدى ضواحي مدينة نيويورك، تردد في التخلي عما يصفه بالمصادقة التي حظي بها إبداعه الفني. لكنه لم يكن منجذبًا إلى النمط الحياتي للفنان، أو على الأقل إلى الصور النمطية الثقافية حول أسلوب عيشه. تفوق شو أكاديميًا، وكان والده وشقيقه قد تابعا علومهما في معهد ماساتشوستس للتقنية، فقرر الالتحاق بالمعهد نفسه لدراسة الهندسة المعمارية، وإن كان لم يتخل عن الرسم بصورة تامة. لم يكن لدى المعهد كثير ليقدمه له في مجال الفنون، لكن شو نجح في العثور على حلقة دراسية في مجال الرسم. وفي نهاية الفصل، قال له أستاذه: «يجدر بك أن تنقطع عن الدراسة وتنتقل إلى نيويورك لتكرس حياتك للرسم.»

 

يستعيد شو تلك الذكرى قائلاً: «انتابني آنذاك شعور طاغ بالدهشة. لم أستطع أن أبدي رد فعل منطقيًا.» لكنه تحلى بالشجاعة وقصد نيويورك لمقابلة عدد من معارف أستاذه وزيارة الصالات الفنية في سوهو. يتذكر شو تفاصيل إحدى تلك الزيارات قائلاً: «تفتح الباب، فإذا بك أمام أعمال كثيرة يزدحم بها الرواق، ثم تصعد إلى أعلى لتجد هذه اللوحة معلقة على الجدار في حجرة تخلو من أي شيء آخر. كانت اللوحة هي المعرض الذي بدا غير مصقول وغير متكلف. كان الأمر مثيرًا للذهول.» ويضيف الفنان رافعًا حاجبيه باستهجان: «كان هذا ما أرادني أستاذي أن أنقطع عن الدراسة لأجله.»

 

اللوحة Cell من عام 1987، مشغولة فوق لوح خشبي باستخدام الأكريليك، ومادة مركبة، والألوان الزيتية، والراتينج الألكيدي، والفينيل، والألمنيوم.

 اللوحة Cell من عام 1987، مشغولة فوق لوح خشبي باستخدام الأكريليك، ومادة مركبة، والألوان الزيتية، والراتينج الألكيدي، والفينيل، والألمنيوم.

 

لم يكن قرار العودة إلى معهد ماساتشوستس للتقنية يستدعي كثيرًا من التفكير. تابع شو دراسته وحاز شهادته، وبقي للحصول على شهادة الماجستير. كان المهندسون المعماريون آنذاك ما زالوا يستخدمون أقلام الرصاص. لكن على مقربة من الاستوديو الخاص به، بدأ العمل على تطوير الموجة الأولى من المخططات الرقمية ثلاثية الأبعاد الخاصة بالهندسة المعمارية. وفي هذا يقول: «كان بمقدوري أن أستشرف تمدد هذه الموجة في النهاية إلى كل مكان، وكان حدسي ينبئني بأنها ستغير كل شيء.»

أحب شو الهندسة المعمارية. لكن إذ أوشكت دراسته الجامعية على بلوغ منتهاها، شرع يفكر في منح الرسم فرصة حقيقية. يقول: «بدأت أدرك أن الرسم ليس خيارًا، بل حالة مرضية تلازمني، أو اضطرابًا ما لا يمكنني تفاديه.»

 

انتقل شو إلى حظيرة في الريف وحدد لنفسه سنة واحدة. يستعيد تلك المرحلة قائلاً: «قررت أني لن أسمح لنفسي بالقيام بأي عمل غير الإبداع الفني.» كان ليجيز لنفسه الذهاب في نزهات سيرًا على القدمين، ولكن القيام بعمل مقابل أجر كان محظورًا. يستطرد شو قائلاً: «بحلول نهاية العام، لم يكن العمل يتبلور على وجه حسن. قلت في نفسي: حسنًا، لقد قمت بالمحاولة.» وإذ سلم الرجل بالفشل، عاد ليلتزم بمسار الهندسة المعمارية والتحق بوظيفة.

 

لكن أمرًا طريفًا طرأ بعد ذلك. فما هي إلا بضعة أشهر حتى بدأت أفكاره حول الفن تتماسك. استقال عندئذ من وظيفته وحط رحاله في استوديو يستفيد من سياسة دعم مالي في بوسطن. وبعد أن نضبت مدخراته، بدأ العمل في مجال معالجة النصوص لتأمين قوته. حدث ذلك في سبعينيات القرن الفائت، عندما كان أمناء المكاتب لا يزالون مسمّرين أمام آلاتهم الطابعة. يقول شو: «بعد أن قضيت ست سنوات في متابعة تحصيلي الجامعي دون أن أتعلم الطباعة، عمدت إلى تعلم أصولها ذاتيًا. قصدت مدرسة محلية لعلوم السكرتارية، وحصلت على كتيباتها الدراسية، ثم وجدت وظيفة مؤقتة في مجال معالجة النصوص لصالح شركات للمحاماة. لا أذكر هذه التفاصيل سوى لأنها تجسد بداية تفاعلي الحقيقي مع التقنية واللغة.»

 

«أقف بجسدي أمام الآلة، لكنها ترتحل بي إلى فضاء ذاك العالم المخادع تماما»    

 

الفنان شو وتبدو في الخلفية لوحته Splits من عام1992 .

الفنان شو وتبدو في الخلفية لوحته Splits من عام1992 .

 

بعد أن اكتسب شو مهارة يمكنه تسويقها، انتقل في عام 1979 إلى نيويورك. عمل لسنوات، ما عاد يذكر إن كانت سنتين أو خمس سنوات، على ابتكار الأعمال الفنية نهارًا في الاستوديو الخاص به، ثم معالجة نصوص المستندات مساء في إحدى شركات المحاماة. يقول شو: «كان ذاك الترتيب مثاليًا لأنه يتيح لي أن أكرس كامل تركيزي للعمل الفني طيلة ساعات النهار، وعندما ينتابني التعب والإرهاق أذهب للبدء بالعمل لدى الشركة. كما أن مكتبي في الشركة كان معزولاً تمامًا. لا أضطر فيه إلى تبادل الأحاديث مع الآخرين. جل ما علي فعله هو الذهاب ثم المغادرة، فيما يتسنى لي الوقت أيضًا للتفكير في أعمالي الفنية.»

 

ما كان العالمان اللذان سكنهما شو، متوليًا طباعة المستندات القانونية في أحدهما دون توظيف أي طاقة ذهنية لذلك، وحالمًا بابتكارات فنية بصرية في الآخر، ليبدوا أكثر تنافرًا مما هما عليه في الواقع. لكن تلاحم العالمان شيئًا فشيئًا. يقول شو مستعيدًا مشاعره في تلك المرحلة: «أقف بجسدي أمام الآلة، لكنها ترتحل بي إلى فضاء ذاك العالم المخادع تمامًا. لم يكن الأمر أشبه بالنظر عبر نافذة ما، بل ببيئة تستلبك للانغماس فيها انغماسًا تامًا.»

على ما كان عليه حال الفنانين الأوروبيين الذين انصرفوا حصريًا على مدى قرون عدة إلى رسم مشاهد تجسد حكاية من الإنجيل، قرر شو ابتكار أعمال فنية تتناول الواقع الرديف المهيمن على ثقافتنا، أي التقنية، وعلى وجه التحديد كيف أن علاقتها بالجسد كانت تصبح «مريحة أكثر فأكثر وسلسة أكثر فأكثر.»

 

عمد شو إلى تدوير زوايا لوحاته بما يستحضر في الأذهان منحنيات شاشة، وقام بطلاء العيون واستخدم تقنيات الرسم النافر في بعض المواقع لمحاكاة أنسجة الجسم البشري. بدت أعماله للمفارقة مصنعة ولكن عضوية. صحيح أنها كانت مخادعة لكنها تمثل أغراضًا قائمة بحد ذاتها. كانت أعماله تستشرف مستقبلاً تستطيع قلةٌ قليلة تخيله، وإذا بنا نختبره اليوم بعد خمسة وثلاثين عامًا في سماعات من طراز AirPod تنحشر في آذاننا، وفي تقنية تتيح لبصمات أصابعنا فك شفرة هواتفنا. أما عالم الفن، فبقي عالقًا في ثمانينيات القرن الفائت.

 

العمل الفني Vertical Ooze من عام 1987، تجمع عناصره بين قطع السيراميك، ومادة اليوريثان، ومادة مركبة، والأكريليك، والألوان الزيتية على الخشب.

العمل الفني Vertical Ooze من عام 1987، تجمع عناصره بين قطع السيراميك،
ومادة اليوريثان، ومادة مركبة، والأكريليك، والألوان الزيتية على الخشب.

 

كانت صالات العرض الفنية تميل إلى بناء شبكاتها من خلال المعارف، أي أن فنانًا يوصي بآخر غالبًا ما يكون صديقًا له من كلية الفنون أو شريكه في الاستوديو. وفي ما يتعلق ببناء شبكة علاقات، شعر شو آنذاك بأنه في موقف سيئ جدًا. لكن في تلك الأيام، كان لا يزال بمقدور أي فنان أن يدخل إحدى الصالات دون أي موعد مسبق ليضع بين أيدي أحد التجار شرائح تصور عينات من أعماله، آملاً أن ينجح في إغرائه بزيارة إلى الاستوديو الخاص به. قام شو بجولات من هذا النوع، وعن أصحاب صالات العرض الفنية في تلك الحقبة يقول: «كانوا جميعهم على تواصل بعضهم ببعض.»

 

يذكر شو أن جاي غورني، الذي كان قد افتتح عام 1985 صالة فنية في حي إيست فيليج الناشئ، أوضح له أن «الثمن الباهظ للمنحوتات يجعل بيعها صعبًا، كما أن شحنها ونقلها ينطويان على صعوبات. ويضيف قائلاً: «كنت، بوصفي مهندسًا معماريًا، قد أنجزت كثيرًا من المنحوتات آنذاك.» أما سوزان برانديج، التي كانت تعمل لصالح ليو كاستيللي (الشخصية المرموقة في مجال فنون ما بعد الحرب، والذي مثَّل عددًا من الفنانين أمثال جاسبر جونز، وروبرت روشينبرغ، وآندي وارهول)، فظلت تشجع شو على العودة إلى الصالة الفنية في سوهو. يقول شو: «كانت تخبرني أن كاستيللي منشغل جدًا في الوقت الحالي، ولكنه قد يقابلني في المرة المقبلة.» حظي الفنان في النهاية بموعد مع كاستيللي الذي قدم له النصيحة التالية: «نظم معرضًا في إيست فيليج ثم ارجع لمقابلتي».

 

في غضون ذلك، ضمته صالة باسكرفيل آند واتسون إلى معرض جماعي نظمته عام 1984 وشمل فنانين شبانًا آخرين. يقول شو: «أظن أن كارول آن كلوناريدس، مديرة الصالة، كانت أول من فهم أعمالي.» لكنها قالت له بعد انتهاء المعرض: «ستكون المهمة صعبة.» ويستطرد شو قائلاً: «كانت أعمالي غريبة حقًا. لم يعرف الآخرون من أين عليهم البدء بالتعامل معها.»

 

كانت تلك الأعمال تفتقر أيضًا إلى السياق. فلا فنان آخر كان يقدم ولو من بعيد إبداعات مشابهة. لكن عوضًا عن أن يحقق له ذلك مكسبًا بسبب التمايز، كانت أعماله تربك من يراها. شمل المعرض الجماعي على سبيل المثال أترابًا له، مثل ريتشارد برينس ولويز لولر، كانوا على وشك أن يحققوا اختراقًا بوصفهم روادًا في التقليد، إذ كانوا يستعيرون على نحو فاضح أعمال فنانين آخرين وينسبونها إلى أنفسهم، وكانت أعمالهم مختلفة كل الاختلاف عن ابتكارات شو. لم تكن إبداعاته أيضًا تشبه في شيء أعمال جوليان شنابيل، وإريك فيشل، أو أعمال الانطباعيين الحديثين الآخرين التي كان الطلب عليها عاليًا آنذاك.

 

«كرهت الاضطرار إلى بيع أعمالي بهدف تسديد قيمة الإيجار وما شابه ذلك.

كان العمل في وظيفة بدوام رسمي من الساعة التاسعة إلى الساعة الخامسة أهون علي من ذلك.

لذا لم أتفاعل على الأرجح مع فكرة كوني فنانا»    

 

لم يكن حس شو الفني العامل الوحيد الذي تسبب في إقصائه. فعالم الفن في ثمانينيات القرن الفائت كان ناصعًا، وشو بدا غريبًا عنه. كان يستحسن مجتمع إيست فيليج، إلا أنه لم يشعر أنه حقيقة جزء منه. لكن بات هيرن، الشهير بتجاوز حدود المألوف، وصاحب إحدى الصالات الفنية، قرر المجازفة مع شو الذي يتذكر ما حدث قائلاً: «كانت المراجعات النقدية إيجابية بصورة عامة، لكن أحدًا لم يفهم أعمالي. كانوا يحاولون تخمين إذا ما كانت تشكل آلات موسيقية، أو منحوتات من الخشب الصناعي، أو إبداعات تندرج ضمن المذهب السوريالي أو غير ذلك.» بالرغم من ذلك، بيع عدد من تلك الأعمال.

 

عمد شو إلى تبسيط أعماله، ما أتاح لهيرن، ولاحقًا لكاستيللي، بيع مزيد منها. اقتنى البريطاني تشارلز ساتشي، جامع الأعمال الفنية النافذ، عددًا من هذه الإبداعات. يقول شو: «شرعت أعمالي بعد ذلك تزداد صعوبة فيتعذر على الناس فهمها، ما جعلهم يبتعدون عنها. أدركت أنه لا يمكنني العمل مع فكرة تطوير سوق لأعمالي إن أردت تحقيق الرؤية التي أنشدها.» كانت النتيجة أن انتقل شو إلى أوروبا.

 

نأى شو بنفسه، خلافًا لما هو عليه حال كل فنان على وجه الأرض تقريبًا، عن تلك المقدرة التي اكتشفها حديثًا والتي تتيح له أن يقتات من فنه في كولونيا بألمانيا. يستعيد شو ذكرى تلك المرحلة قائلاً: «كرهت الاضطرار إلى بيع أعمالي بهدف تسديد قيمة الإيجار وما شابه ذلك. كان العمل في وظيفة بدوام رسمي من الساعة التاسعة إلى الساعة الخامسة أهون علي من ذلك. لذا لم أتفاعل على الأرجح مع فكرة كوني فنانًا. لم يكن الأمر رائعًا من منظوري.»

 

عاد شو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وانتقل بعائلته إلى شمالي نيويورك حيث التحق بوظيفة أستاذ مدرس في كلية سارة لورانس. على مدى أكثر من عشرين عامًا، وقبل أن يتقاعد في عام 2018، واظب شو على ابتكار الأعمال الفنية في أوقات الفراغ، لكنه نادرًا ما كان يعرضها، وكان راضيًا بذاك الوضع. يقول شو: «لم يخطر لي أن أتوقف عن ذلك.» أفضت الطباعة الحريرية إلى تقنيات تعديل الصور، وفي هذا يقول: «لكني كنت أعلم أن اعتماد الأسلوب الرقمي وحده كان يبدو منفصلاً إلى حد بالغ.» في سياق السعي إلى تحقيق ما يسميه «تأثير الرسم دون الرسم»، بدأ يقوم بتجارب على السيليكون، الوسيط الأكثر شيوعًا في مجال الأعمال النحتية.

 

تشبه أنجيلا فيراولو، العضو في كلية الفنون السمعية والبصرية التابعة لكلية سارة لورانس، شو «بالغشاء شديد الاستجابة للمحفزات» وتصفه بالمجرِّب «الصارم» الذي يكرس سنوات لمحاولات الارتقاء بالمواد والمسارات التي يستخدمها إلى مستوى يقارب الكمال. وفي هذا تقول: «إنه يؤمن بالفن بشكله الأنقى. وما حققته له وظيفته النهارية هو أنها جعلت ممارسته الفنية شكلاً صرفًا من أشكال البحث والتطوير.»

 

ربما اختبر شو في عام 2006 ذروة التلاحم بين الجسد والتقنية في العالم الحديث. خضع آنذاك لعملية زرع كلية، الأمر الذي شكل مفارقة في ضوء ابتكاره عام 1987 عملاً فنيًا بعنوان Transplant (أو «زراعة أعضاء») استحوذ عليه متحف ميتروبوليتان للفنون. يقول شو ضاحكًا: «كانت غرفة الجراحة عملاً فنيًا تركيبيًا بحق. كان الأمر مدهشًا»، ثم يضيف قائلاً، ليس على سبيل المزاح بشكل مطلق: «أرى نفسي اليوم كائنًا بشريًا وآليًا في آن. فمحرك البحث غوغل هو ذاكرتي.»

 

طرحت كلية سارة لورانس في إحدى السنوات برنامج محاضرات عن الأدب الأمريكي الآسيوي الذي لم تتسنَ قط لشو فرصة دراسته. وإذ حضر هذا الصف، تكوّن لديه حس رفيع بهويته. وعن هذا يقول: «الواقع هو أني رحت أتساءل عن الأسباب التي حالت دون تضميني أعمالي الفنية روابط جلية إلى الهوية. هل كنت في حالة إنكار؟» لكن ما أدركه شو هو ألا وجود لتجربة أمريكية آسيوية وحيدة، وأنه كان يبتكر حقيقة أعمالاً عن هويته، بما في ذلك تمرسه في الهندسة المعمارية وعمله معالجًا للنصوص، فضلاً عن كونه في غالب الأحيان الطفل الوحيد في صفه المتحدر من أصول صينية. وفي هذا يقول: «كان علي أن أبتكر نوعًا ما جسدًا مختلفًا في العالم. يبدو هذا الأمر بسيطًا للغاية. وربما جل ما كنت أفعله هو إسقاط هذه التفاصيل كلها على عالم التقنية الحديثة. سيكون لنا جسد مختلف. ربما كان فني يجسد حقيقة وضعي في العالم.»

 

   لوحة Liquid Circuit من عام 1987، مشغولة من الأكريليك، ومادة مركبة، والراتينج الألكيدي، والزيت، والألمنيوم فوق لوح خشبي، وفراشي شو.

 

 لوحة Liquid Circuit من عام 1987، مشغولة من الأكريليك، ومادة مركبة، والراتينج الألكيدي، والزيت، والألمنيوم فوق لوح خشبي، وفراشي شو.

 لوحة Liquid Circuit من عام 1987، مشغولة من الأكريليك، ومادة مركبة، والراتينج الألكيدي، والزيت، والألمنيوم فوق لوح خشبي، وفراشي شو.

 

بعد أن أمضى شو عقودًا يتأمل في مستقبل البشرية، وجد الإلهام خلال السنوات الأخيرة في النظر في ماضي عائلته. فعلى مدى مرحلة الاندماج في المجتمع الأمريكي في طفولته، التي بدأت في خمسينيات القرن الفائت في أعقاب صعود نجم ماو تسي تونغ، والمكارثية، ثم اصطدام هذه المرحلة بالثورة الثقافية في سني المراهقة، حثته والدته، التي كانت تتخوف من نبذ العائلة في الولايات المتحدة الأمريكية واضطهاد الأقارب في الصين، على الادعاء بأن جذور العائلة كانت تمتد في هونغ كونغ وليس في بر الصين الرئيس. كانت والدته لا تسهب في الحديث عن حياتها هناك قبل الهجرة، لكن وفاتها عام 2011 دفع بشو إلى إعادة التواصل مع عائلته الصينية الكبرى.

 

في عام 2013، غادر شو نيويورك قاصدًا هذه المرة شانغهاي. وفي هذا يقول: «تساءلت عن جدوى الانتقال إن كان لا أحد يرغب في عرض الأعمال التي أبتكرها هنا، ورأيت أن ثمة جدوى في ذلك.» كان يسير كل صباح مجتازًا خمسة مجمعات سكنية في الطريق إلى الاستوديو الخاص به - «وخمسة مجمعات تشكل كونًا بأكمله في الصين حيث لا يتقن المرء لغة البلاد» على ما يقول – ثم ينغمس في صور قديمة للعائلة تشاركها معه أقرباؤه الصينيون. عمد شو بدهيًا إلى دمج هذه الصور القديمة، التي تشكل بدورها نتاج تقنية بدت ثورية ذات زمن، مع لغته البصرية. وإذ تلاعب رقميًا بالصور مرارًا وتكرارًا – مصورًا مثلاً قاربًا مزدحمًا بالأفراد لا يلبث أن يصير فجأة خاليًا - ثم عمد إلى طباعتها على ألواح من الألمنيوم، يقول إنه خلص إلى القبول بواقع أن هذا العمل الفني لا يتناول حقيقة تاريخه، بل إدراكه غياب تاريخ عائلته عن نشأته في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

في عصر التصوير الرقمي واسع الانتشار الذي نعيشه اليوم، ترى فيراولو امتداد أعمال شو الأولى في مجموعته الإبداعية المستمرة التي تحمل اسم Shanghai Project (أو «مشروع شنغهاي»). وفي هذا تقول: «إنه عمل يجسد تأثير التقنية على الذاكرة، وكيفية إعادة بناء الذاكرة واستحضار الذكريات إلى زمن حاضر.»

بالرغم من أن هذا العمل الفني شخصي إلى حد كبير، إلا أن شو يرى أن فكرة الغياب تزداد انتشارًا على مستوى العالم في ظل تحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى الشغل الشاغل للجميع. ويسأل الفنان الذي لم يمتلك يومًا حسابًا على موقع فيسبوك: «هل يمكن للمرء أن يكون غائبًا اليوم؟ هل يمكنه أن يمحو وجوده؟ وهل بوسعه أن يتمتع حقيقة بالخصوصية؟»

 

خلال إقامة شو في شنغهاي، تلقى رسالة إلكترونية من أحد القيمين على تنسيق المعارض الفنية يُبدي اهتمامه بتنظم معرض لأعماله. ومنذ ذلك الحين، أتيحت له الفرصة لعرض إبداعاته التي حظيت بمراجعات نقدية إيجابية في هونغ كونغ، فضلاً عن المشاركة في معارض جماعية في متحف هيرشبورن، وفي مركز Center for Curatorial Studies التابع لكلية بارد كوليج في شمالي نيويورك. يضحك شو من شكوك أصدقائه الذين يرون أن السنوات التي أمضاها بعيدًا عن الأضواء كانت جزءًا من مخطط كبير، ويقول: «كانوا غالبًا ما يقولون لي: ما الذي يجري يا تيشان؟ إنك لا تحقق شيئًا.» لكن شو كان يعلم أن الآخرين سيرون أعماله من منظور مختلف يومًا ما. جل ما كان عليه فعله هو أن ينتظر بفارغ الصبر تحقق المستقبل. وفي هذا يقول: «كان يكفيني أني قادر على ابتكار أعمالي الفنية والبقاء وفيًا لرؤيتي.»