في مطعم لو بيرناردان Le Bernardin، الحائز ثلاث نجوم ميشلان في نيويورك، قد يبدو أن الكركند الذي يتربّع فوق الصلصة الباردة المنكهة بالليمون الأخضر، والمقدّمة في طبق خزفي، يجسّد جوهر البساطة. لكنك تعرف أن الحقيقة مغايرة، لأن من يقف وراء إعداد هذا الصنف هو الطاهي إريك ريبيرت. فخلف الأسلوب المبسّط لتقديم هذا الطبق تحتجب التعقيدات التي انطوى عليها مسار ابتكاره.
لا غرابة إذًا في أن يطبّق الطاهي المرموق الفلسفة الجمالية نفسها التي ترتكز إلى الاكتفاء بالأساسيات على مسار تجديد مطبخه الشخصي. كانت الكفاءة هي ما يتوق إليه ريبيرت الذي يقول: "لا تشبه هذه الواحة أي مكان آخر. كأن لا شيء فيها سوى طاولة وجدار". لكن الغاية من إقصاء الزوائد هي خدمة الأداء. وفي هذا يقول ريبيرت: "إن هذا المكان يجسّد الفورمولا 1 في عالم المطابخ. يمكنني هنا أن أطهو الطعام وحدي لعشرين شخصًا".
يستحسن ريبيرت المظهر النقي لجدار من الخزائن التي تُخفي في جوفها الأطباق، والتوابل، وأدوات المائدة، ولكن التي تتميّز في الوقت نفسه بما يكفي من المساحة لحفظ هذه الأغراض كلها.
استعان الطاهي بشركة سيماتيك Siematic الألمانية لابتكار خزائن مطبخه، وعمل مع الخبراء في الشركة للإتيان بتصميم يقتصر على الأساسيات. عندما ينهمك ريبيرت بطهو الطعام فوق المنضدة المستقلة الممتدة بطول 12 قدمًا، لا يحتاج سوى إلى أن يمدّ ذراعه ليبلغ الثلاجة ويحضر منها قالب الزبدة من دون أن يحيد بناظريه عن قطع المحار التي يقوم بتقليبها في مقلاة فوق النار.
لكن هذه السهولة في بلوغ الثلاجة ليست محض مصادفة: جرى قياس المسافة بما يتناسب مع طول ذراعه. يقول ريبيرت: "تقع الثلاجة على بعد قدمين إلى الخلف من مكان وقوفي. لا أتحرك من مكاني، وهذه ميزة تحقق أعلى درجات الكفاءة".
Conor Harriga
يستعرض ريبيرت الأمان الذي يوفره سطح موقد يعمل بتقنية الحث العالي التردد.
جرى أيضًا تخصيص المطبخ بما يتناسق مع طول قامته، وطول قامة أفراد أسرته. يزيد طول قامة ريبيرت وابنه المراهق على ست أقدام، وزوجته أيضًا طويلة القامة، لذا بُنيت أسطح المناضد من طراز Ceasarstone على ارتفاع أعلى من المعتاد.
كانت هذه الميزة إحدى حسنات خيار بناء المطبخ من الصفر بدلاً من إعادة تجهيز مطبخ قديم. أما اختيار هذا الطراز من الأسطح، المشغول من معادن الكوارتز الخام، بدلاً من الرخام أو الغرانيت، فسببه أنه أكثر مقاومة للخدوش والبقع. كما أن تنظيف هذه الأسطح سهل للغاية. يقول ريبيرت: "من المهم بناء مطبخ يسهل تنظيفه عندما لا يتوافر من يقوم بهذه المهمة عنك بعد أن تفرغ من الطهو".
لهذا السبب أيضًا، طلب ريبيرت تجهيز المبطخ بآلتين لغسل الأطباق لأنه في العادة يقدم لضيوفه وليمة متعددة الأطباق. يقول الطاهي ضاحكًا: "عندما يغادر ضيوفي، أستخدم إحدى الآلتين للأطباق والأخرى للأكواب. أضغط الزر وأذهب لنيل قسط من النوم". كانت الكفاءة في التنظيف بعد الوجبة عاملاً رئيسًا أيضًا في اختيار سطح الطهي: موقد بسطح زجاجي ذي خمس شعلات يعمل بتقنية الحث العالي التردد (Induction)، فضلاً عن شعلة جانبية أكبر لقدور المرق. يقول ريبيرت: "جل ما يقتضيه تنظيفه هو استخدام رذاذ منظف ومسحه بإسفنجة".
لكن المسح السريع ليس السبب الرئيس في اختيار هذا الموقد من غاغينو. فريبيرت يستخدم أيضًا نموذجًا من هذا الطراز في مطعم لو بيرناردان وفي شقته بمانهاتن. يقول الطاهي موضحًا: "ما يعجبني في المواقد التي تعمل بتقنية الحث العالي التردد هو بداية أنها تحقق كفاءة اقتصادية عالية من حيث استهلاك الطاقة. فمواقد الغاز تستخدم مقدارًا كبيرًا من الطاقة الحرارية، ما يعني أنها لا تُعد خيارًا منطقيًا على هذا المستوى.
Conor Harriga
جُهز المطبخ بفرن تقليدي وفرن مزدوج من فئة Combi.
كما أنها تتسبب في ارتفاع درجة الحرارة في المطبخ إلى حد بالغ". في المقابل، لا تتسبب المواقد التي تعمل بتقنية الحث العالي التردد في إنتاج هذا النوع من الطاقة الحرارية. إنها تعمل مغناطيسيًا لتسخين المعدن الذي يوضع فوقها فحسب. يقول ريبيرت: "يمكنني وأنا أغلي الماء أن أضع يدي في موقع ما إلى جانب الشعلة وسيكون باردًا". فضلاً عن ذلك، تتميز المواقد التي تعمل بتقنية الحث العالي التردد بأدائها الأقوى. تكفي دقيقة واحدة لغلي قدر به ماء.
لا تتفرّد الأجهزة التي يستخدمها هذا الطاهي بكفاءة أدائها فحسب، ولكن بدقتها أيضًا. تشتمل المنضدة المستقلة في مطبخه على سطح آخر للطهو هو مشواة تبنياكي مستطيلة الشكل. يقول ريبيرت: "تتوزع الحرارة عبر المشواة بالتساوي من زاوية إلى أخرى وفي الوسط. إذا كنت أستضيف مجموعة كبيرة من الأشخاص وأردت شواء 50 قطعة من المحار، فإن درجة الحرارة ستكون نفسها في أي موقع فوق هذه المشواة".
أما العنصر التصميمي الآخر الذي تشتمل عليه المنضدة المميزة، والذي استقاه ريبيرت من مسيرته المهنية، فهو السطح الممتد بطول 10 بوصات بين حافة المنضدة والموقدين والمشواة. وفي هذا يقول: "يمكنني أن أضع الأطباق أمامي وأرتب الطعام فوقها بالطريقة نفسها التي نعتمدها في المطعم. فهكذا نصوغ أطباقنا".
Conor Harriga
فواصل خشبية لحماية مجموعة سكاكين الطاهي.
اختار ريبيرت علامة غاغينو لمختلف أجهزته الشخصية بالرغم من ألا علاقة مهنية تربطه بالشركة. لكنه يرى أن ابتكاراتها هي الأكثر تطورًا على ما يبدو من الناحية التقنية. وقد شملت اختياراته نظام تهوية جديدًا يرتفع من المنضدة ونظامًا آخر يسحب الهواء إلى القبو ويوجهه إلى الخارج بما يتيح إبقاء الضيوف والطاهي بمنأى عن الروائح والأبخرة ولكن من دون أن يعترض ذلك مجال رؤيته لرفاقه وأفراد عائلته.
أراد ريبيرت أيضًا تجهيز مطبخه بأكثر من فرن واحد: فرن مزدوج من فئة Combi وفرن تقليدي. يجمع الفرن المزدوج بين خاصية الطهي بالبخار والتوزيع الحراري. وفي هذا يقول: "يمكنني أن أضع فيه سمك الهلبوت على 220 درجة مئوية فيصبح ناضجًا في غضون 12 دقيقة.
كما يمكنني أن أضع رأس قرنبيط كاملًا وأطهوه بداخله على البخار ثم أقوم بسفعه على النار. إنها طريقة سريعة جدًا للطهي وتوفّر المستوى المطلوب من القوام المقرمش".
داخل الخزائن، صُممت المساحات بحسب استخدام ريبيرت وعائلته للأجهزة. وفي هذا يقول الطاهي: "سألنا الخبراء في Siematic عن أسلوبنا المتبع في الترفيه عن ضيوفنا، واستنبطوا الأفكار من ذلك". شملت أفكارهم ألواحًا للتقطيع تُجر إلى الخارج كأنها امتداد للخزائن، وسلة مهملات أسفل المشواة يمكن لريبيرت أن يفتحها بحركة من ركبته، وأدراجًا بعلو متفاوت لاستيعاب القدور الأكبر حجمًا.
Conor Harriga
يعمل نظام التهوية أنيق التصميم وعالي التقنية على طرد الأبخرة والروائح، ثم يعود لينزلق إلى جوف المنضدة المستقلة.
كان المطبخ القديم في هذه المساحة منفصلاً تمامًا عن حجرة الطعام وفسحة الترفيه في المنزل، وكان ريبيرت تواقًا إلى التخلص من هذا الترتيب.
يمكنه الآن أن يرى ما يحدث عبر امتداد بطول 25 قدمًا وصولاً إلى المدفأة في الجانب المقابل من غرفة الجلوس، فيما يستطيع أصدقاؤه الجلوس إلى المنضدة المستقلة لمراقبته وهو يطهو. يقول ريبيرت: "عندما أرى منازل بُني فيها الموقد بمحاذاة الجدار، وأدرك أن الشخص الذي يتولى إعداد الطعام سيكون مضطرًا إلى أن يدير ظهره للغرفة، أشعر باستياء بالغ".
في المقابل، جرى تصميم المساحة في مطبخه بأسلوب مدروس بإتقان. يقول ريبيرت إن بعض المعماريين ينشغلون بالتصميم فحسب، ولا يفكرون في عملية الطهو والحركة الانسيابية في المطبخ. يميل بعضهم إلى تعليق القدور والمقالي بحيث تتدلى من السقف وتعيق الرؤية. أما السر في تفادي هذه الأخطاء عند بناء مطبخ الأحلام، فيختزله بقوله: "استعن بخبير متخصص وأوضح له كيف ستستخدم مطبخك. لا تدعه يقوم بما يريده هو".
فيما جرى الاهتمام باحتياجات ريبيرت الاجتماعية، أخذ المصممون أيضًا على عاتقهم مهمة تلبية طلب آخر لهم: أن يبقى على تواصل مع الطبيعة التي تفصله عنها واجهة زجاجية كبيرة. يقول ريبيرت: "من مكاني في المطبخ، أشعر بأني في وسط غابة. في فصل الصيف، عندما نفتح الأبواب، يمكننا أن نسمع زقزقة العصافير ونستنشق رائحة الخشب.
في الشتاء المنصرم، عندما هبّت ذات يوم عاصفة ثلجية، كنت أعد الحساء واليخنة فيما أراقب الثلج المتساقط ووحدات إطعام الطيور المعلقة عند النافذة. كان المشهد مسليًا ويستثير الإحساس بالسكينة في الوقت نفسه".
يشعر هذا الطاهي، المعروف بميله إلى مقاربة الكمال، بالرضا عن مطبخه على نحو يثير الدهشة. يقول: "ما كنت لأنفذ أي تفصيل بطريقة مختلفة. يسرّني أن أدخل هذا المنزل وأجتمع بمطبخي. إنه حلمي".