في ملحمة كُتبت قبل آلاف السنين على لوح طيني، يذهب جلجامش في رحلة بحثًا عن الخلود بعد صدمة وفاة صديقه المقرب إنكيدو. وفي طريقه يقابل الحكيمة سيدوري التي تقدم له نصيحة تُعد أقدم ما اجترحه الإنسان عن مفهوم السعادة والحياة الفانية.

تقول له: "إلى أين تسعى يا جلجامش؟ فالحياة التي تبحث عنها لن تجدها. لقد قدّر الآلهة الموت على البشر" ثم تحثّه على الاستمتاع بالحياة البسيطة: "لتكن معدتك مليئة، وكن مرحًا ليل نهار. 

ارقص وابتهج، اغتسل بالماء، دلّل الطفل الذي يمسك بيدك، وأسعد الزوجة التي بين أحضانك، فهذا هو نصيب البشرية". إنها دعوة بسيطة ولكنها تعبّر عن نظرة ثاقبة كي نحتفل بالحياة ونقبلها على ما هي عليه. 

اليوم، ونحن نعيش في عالم يعج بوسائل التكنولوجيا والضغوط الاجتماعية، نجد أنفسنا في سعي دائم خلف تحقيق السعادة بطريقة مثالية، أحيانًا على حساب الحاضر. 

لكن إذا تأملنا في هذه النصيحة القديمة من ملحمة جلجامش، فإننا نجد أن السعادة كانت وما زالت تُعرَّف بوصفها لحظات بسيطة من الفرح اليومي. هذه الفكرة تتساوق مع فلسفة نيتشه عن السعادة التي يرى أنها ليست هدفًا ينبغي الوصول إليه، بل هي حالة مستمرة من القبول الكامل للحياة. فنيتشه يدعو إلى "حب القدر" (Amor Fati)، ويرى في قبول الحياة بمختلف تقلباتها — من الفرح إلى الألم — مفتاحًا للسعادة الحقيقية​.

فلسفة نيتشه تتحدى فكرة أن السعادة تكمن في الملذات فحسب. إنها ترتبط بدلاً من ذلك بقدرتنا على مواجهة الصعوبات وتقدير اللحظات الجميلة التي تنشأ من التحديات. 

في السياق المعاصر، يمكننا أن نأخذ هذه الحكمة القديمة ونطبقها على حياتنا: بدلاً من ملاحقة سعادة مثالية بعيدة المنال، يمكننا أن نجد الفرح في اللحظات البسيطة، سواء كان ذلك في العناية بأنفسنا، أو قضاء وقت مع أحبائنا، أو حتى في الإبداع والفن،​ واجتراح اللحظات الجميلة التي تجلب لنا الفرح.

إحدى الطرق العملية لاستعادة مشاعر الفرح تكمن في تغيير منظورنا للحياة اليومية. قد يكون من السهل الوقوع في فخ الروتين والضغوط، لكن السعادة تكمن في إيجاد الجمال في اللحظات البسيطة. 

يمكن أن تكون السعادة في جلسة هادئة تحت شمس الخريف المخاتلة، أو في لحظة ضحك مع الأصدقاء، أو حتى في تحقيق إنجاز صغير في يوم مزدحم. هذه اللحظات قد تبدو عابرة، لكنها تُشكِّل أساس السعادة الحقيقية التي نبحث عنها.

على ما قال نيتشه، السعادة ليست في اللحظات الممتعة فحسب، بل في مواجهة الصعاب والقدرة على الاستمتاع بالتحديات التي تساعدنا على النمو أيضًا​.

لذا، علينا أن نتعلم كيف نحتفل بالحياة بمختلف جوانبها، سواء كانت مبهجة أو مؤلمة. السعادة ليست هروبًا من التحديات، بل هي القدرة على رؤية القيمة في كل ما يقدمه لنا القدر.

السعادة، على ما فهمها السومريون قبل آلاف السنين، وعلى ما نراها اليوم من خلال فلسفة نيتشه، ليست غاية نهائية، بل حالة نعيشها يوميًا. في عالم مليء بالتغيرات والتحديات، يمكننا أن نتعلم كيف نحتفل بالحياة بأفراحها وأحزانها. 

سواء من خلال تذوق الطعام الجيد، أو قضاء الوقت مع الأحباء، أو حتى الإبداع في لحظة فنية، يمكننا أن نجد الفرح في كل ما يحيط بنا. تذكر قول نيتشه: "حب القدر" هو المفتاح؛ تقبل الحياة كما هي، واحتفل بكل لحظة​.

من هذا المنظور، لا يعود البحث عن الفرح الدافق رحلة مستحيلة، بل يصبح واقعًا نعيشه إذا اخترنا أن نراه في أبسط الأشياء وأن نحتفل به.