في عام 1882 تولى بيتر كارل فابرجيه إدارة شركة الجواهر التي أنشأها والده غوستاف في مدينة سانت بطرسبرغ عام 1842، وبمعونة شقيقه أغاثون نجحا سريعًا في ترسيخ اسمها في المحافل الدولية. وكان لهذا النجاح انعكاس جلي على ابتكارات الشركة. فبعد أن كانت قطعها تستضيء بالألماس حصرًا، لأنه كان آنذاك ركيزة الأسلوب العصري، جاء استخدام الألوان الزاهية والأحجار الكريمة وفن الطلاء بالمينا ليقلب صفحة الماضي لصالح صفحة حديثة قوامها البريق والألق والبهاء.
أما القطع الفاخرة التي جسدت هذا التوجه التصميمي العصري، فلم تكن غير بيض فابرجيه الإمبراطوري، التي صارت الآن تحفًا فنية يتخطفها هواة الجمع والمتاحف في كل مكان. لقد كانت البراعة التي سُكبت في هذه القطع على درجة عالية من التميّز، ما دفع بعض المتخصصين إلى تقدير أنها تمثّل التجسيد الأرقى لفن الصياغة، كونها تتعالى بالتصميم كما تتعالى بالتفاصيل الحرفية. بيد أن سلسلة بيض فابرجيه الإمبراطوري لم تستأثر بأفئدة جامعي القطع الفنية النادرة بحكم الدقة الحرفية التي تمثلت فيها فحسب، بل لأنها توثق التاريخ المضطرب لعائلة رومانوف الحاكمة مثلما توثق تاريخ عائلة فابرجيه الحافل بالتقلبات.
بيتر كارل فابرجيه: صانع المجد ومبتكر بيض فابرجيه
ولد بيتر كارل عام 1846 للزوجين غوستاف فابرجيه وشارلوت يونغستيد في سانت بطرسبرغ، وهي المدينة التي تلقى فيها تعليمه، قبل الانتقال إلى دريسدن رفقة عائلته. بعد الاستقرار في المدينة الألمانية، شارك بيتر كارل في دورة تدريبية في مدرسة دريسدن للفنون والحرف، كما واظب على زيارة متحف القبو الأخضر الذي كان يشتمل وقتها على أكبر مجموعة من الكنوز في أوروبا.
كان للأب غوستاف فكرة واضحة عن مستقبل فابرجيه، إذ أراد لها أن تكون شركة عائلية متوارثة، ولذلك حرص على أن يتلقى بيتر كارل فابرجيه التدريب المناسب الذي يعده لإدارة شؤون الشركة بما أنه الابن البكر. ومن هنا جاءت فكرة إرساله في جولة كبرى عبر أوروبا، حيث استفاد من إرشادات الحرفيين الذين قابلهم في مختلف محافل صناعة الجواهر التي زارها. كان لهذه الجولة أثر كبير في توجيه بيتر كارل نحو ابتكار قطع مستلهمة مما رآه من إبداعات، ولهذا وصفه معاصروه بأنه صانع جواهر ضليع تستند تصاميمه إلى منهج علمي رصين.
في عام 1866، عاد بيتر كارل فابرجيه إلى سانت بطرسبرغ، حيث عمل في فهرسة وترميم التحف الفنية في متحف الأرميتاج، وهو ما أتاح له دراسة مستفيضة للتقنيات المنسية التي كان يوظفها صاغة الجواهر في العصور القديمة. وفي هذه الفترة خصوصًا، تلقّف البذور الإبداعية التي ستظهر لاحقًا في بيض فابرجيه الإمبراطوري.
شارك بيتر كارل فابرجيه بحيوية في مختلف أعمال الشركة تحت إشراف أستاذه هيسكياس بيندين، ولكنه لم يتولَّ تسيير شؤونها بالكامل إلا في عام 1882. وبعدها بثلاث سنوات، قُدِّر له أن يطّلع القيصر ألكسندر رومانوف الثالث على أعمال فابرجيه في معرض أقيم في موسكو. ولأنها حظيت بإعجابه الشديد، أمر بعرضها في متحف الأرميتاج بصفتها التجسيد الأمثل للتقاليد الحرفية الروسية.
منذ ذلك التاريخ الفارق، أصبح اسم فابرجيه مقترنًا باسم عائلة رومانوف الحاكمة. فبعد أن كلّف القيصر ألكسندر الثالث الشركة بتصميم بيضة عيد الفصح هديةً لزوجته، توالت الطلبات عامًا بعد عام كما توالت الجوائز والألقاب التي سطع بفضلها نجم بيتر كارل فابرجيه في سماء صناعة الجواهر الفاخرة.
بعد البيضات العشر التي صممتها الشركة بتكليف من القيصر ألكسندر الثالث، جاءت فترة حكم ابنه نيقولا الثاني التي ابتدأت في عام 1894 لتواصل هذا التقليد القيصري الراقي. وفي أثنائها ابتكرت فابرجيه 40 بيضة إمبراطورية، بمعدل بيضتين سنويًا، إحداهما مخصصة لأم القيصر والثانية لزوجته.
بلغ اتساع شركة فابرجيه ذروته في مطلع القرن العشرين، إذ كانت متاجرها ومحترفاتها مجتمعة توظف نحو 500 شخص. بل إن هذه المتاجر تحولت إلى قبلة العائلات الملكية الأوروبية ووجهة الباحثين عن الندرة، سواء من السياسيين أو رجال الأعمال أو الفنانين. بيد أن اندلاع الحرب العالمية الأولى قلب الأوضاع رأسًا على عقب، إذ جرى تجنيد العديد من كبار الحرفيين الذين كانت توظفهم فابرجيه، فيما حسمت الثورة البلشفية أمور الشركة في روسيا، فاضطر بيتر كارل إلى الفرار من البلاد. وبعدها بعامين وافته المنية في مدينة لوزان السويسرية.
Fabergé Museum
أشهر بيض فابرجيه الإمبراطوري
تتكثف مفاهيم الحرفية العالية في بيض فابرجيه الإمبراطوري، والسبب في ذلك يعود إلى الهيئات المختلفة التي ستتخذها هذه القطع الفنية البديعة، لدرجة أن القيصر بنفسه لم يكن على دراية بالتصميم النهائي الذي ينتظره وقت استلامه ابتكارات بيتر كارل فابرجيه.
تمايزت كل بيضة بتفاصيل ملهمة وجريئة، بعضها كان للاحتفال بمناسبات محددة فيما بعضها الآخر كان توثيقًا لأواصر عائلة رومانوف الحاكمة. ومع أن سبعًا من هذه البيوض اختفت بلا أثر في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، غير أن البيوض الثلاث والأربعين المتبقية معروفة الموقع وتتألق وسط بعض أكبر المجموعات الفنية الخاصة والعامة في العالم.
Fabergé Museum
أشهر بيض فابرجيه
نستعرض هنا بعض أشهر بيض فابرجيه:
بيضة الدجاجة Hen Egg
كانت بيضة الدجاجة منطلق الابتكارات التي تفتقت عنها قريحة الصانع بيتر كارل فابرجيه، وقد استوحى تصميمها من بيضة أصلية تعود إلى أوائل القرن الثامن عشر في ملكية العائلة الملكية الدنماركية. تتمايز هذه البيضة بقشرة خارجية مصقولة بطلاء المينا الأبيض، تنفتح عند إدارتها كاشفة عن المفاجأة الأولى: صفار من الذهب الأصفر غير اللامع. ويحتضن هذا الصفار بدوره مفاجأة ثانية، وهي دجاجة ذهبية مطلية بالمينا كانت، قبل ضياعها، تتباهى بنسخة مطابقة للتاج القيصري تتدلى منه ياقوتة ثمينة تصل قيمتها إلى نصف قيمة البيضة كاملة.
Fabergé Museum
بيضة النهضة Renaissance Egg
أهدى القيصر ألكسندر الثالث هذه البيضة إلى زوجته ماريا فيودوروفنا بمناسبة عيد الفصح عام 1894، وقد استلهم بيتر كارل فابرجيه تصميمها من علبة الجواهر البيضاوية المعروضة في متحف القبو الأخضر الذي أسسه الأمير أغسطس الثاني القوي في عام 1723.
بالبراعة نفسها التي أبان عنها بيتر كارل في ابتكاراته السابقة، استطاع صياغة هذه البيضة بحرفية فائقة من العقيق، مع طبقة مزدانة بالذهب المشغول على هيئة تعريشة دقيقة التفاصيل ومصقولة بطلاء المينا الأبيض ومرصعة بفصوص الألماس والياقوت المتألق عند كل تقاطع.
يقسم شريط مصقول بطلاء المينا الأحمر هذه البيضة إلى قسمين، ويزيّن نصفها العلوي ألماس بقطع الورد يتلألأ على الرقم 1894.
Fabergé Museum
بيضة برعم الوردة Rosebud Egg
كانت بيضة برعم الوردة أول بيضة يهديها القيصر نيقولا الثاني لزوجته بعد أشهر قليلة من زواجهما، وقد تألقت بأسهم مرصعة بالألماس تحاكي أسهم كيوبيد الشهيرة، في إشارة معبرة عن مقدار الحب الذي يكنه الامبراطور لزوجته.
صيغت بيضة فابرجيه هذه من الذهب متعدد الألوان، وازدانت بشرائط مرصعة بالألماس بقطع الوردة، كما تغطّت بطبقة من طلاء المينا الأحمر الشفاف وزخارف غيوشيه الأنيقة. بالإضافة إلى التفاصيل التصميمية المستلهمة من الأسلوب الكلاسيكي الجديد الذي شاع إبان حكم لويس السادس عشر، تحتوي هذه البيضة على مفاجأة تتخذ هيئة برعم مصقول بطلاء المينا الأصفر والأخضر، في داخله تاج مصغر يتلألأ بالألماس ضاع مع الياقوتة المتمايزة بقطع القطرة.
Fabergé Museum
بيضة التتويج Coronation Egg
تعد هذه التحفة الفنية المتفردة أشهر بيضة تخرج من محترفات فابرجيه، وقد يعود السبب في ذلك إلى أنها تقترن بحدث تتويج القيصر نيقولا الثاني وزوجته في كاتدرائية أوسبنسكي. خلال طقوس التتويج، كان الزوجان يرتديان عباءات مطرزة بالذهب، ولأن بيتر كارل فابرجيه كان حاضرًا في أثناء هذا الحدث، فقد أوحى إليه المشهد بالتصميم الذي تكشّف لاحقًا بمناسبة عيد الفصح عام 1897.
صيغت القشرة الخارجية لهذه البيضة من الذهب متعدد الألوان، وتألقت بزخارف غيوشيه الأنيقة المقترنة بطلاء المينا الأصفر، وطلاء المينا الأسود الذي عزز صورة النسر ذي الرأسين المرصع بالألماس. غير أن التفصيل الأبرز في هذه البيضة احتجب في الداخل، حيث العربة المصغرة المشغولة من الذهب والمصقولة بطلاء المينا الأحمر والمرصعة بالألماس، والتي جاءت نسخة طبق الأصل عن عربة القرن الثامن عشر التي صممها الفنان يوهان كونراد باكندال لتقل الإمبراطورة كاترين الثانية. يُذكر أن إكمال العربة وحدها استغرق 13 شهرًا.
Fabergé Museum
بيضة زنبق الوادي Lilies of the Valley Egg
في عام 1898، تلقت الإمبراطورة ألكسندرا فيودوروفنا بيضة فابرجيه على طراز الآرت نوفو، أسلوب التصميم المفضل عندها. كان بيتر كارل فابرجيه على دراية بعشق الإمبراطورة لهذا الأسلوب المتمايز كما كان يعرف أن زهرتها المفضلة هي زنبقة الوادي، ولذلك صاغ البيضة بحيث تتباهى بمختلف هذه الرموز، مع إضافة زخارف غيوشيه البديعة وطلاء المينا الوردي وشرائط عمودية مرصعة بالألماس بقطع الوردة وبتلات ألماسية وضاءة.
انتصبت هذه البيضة على أربع قوائم بهيئة أوراق الشجر، وقد كانت المفاجأة المحتجبة في داخلها ثلاث منمنمات مشغولة بالألوان المائية، إحداها للقيصر نيقولا الثاني والأخريان لابنتيه أولغا وتاتيانا. تظهر الصور جميعًا عند تدوير إحدى اللآلئ التي ترصع هذه التحفة الفنية.
Fabergé Museum
بيضة الذكرى الخامسة عشر 15th Anniversary Egg
تصوّر هذه البيضة الآسرة الضاجة بالألوان مختلف الأحداث المهمة في حياة العائلة الملكية، ولذلك تطلبت محاكاتها مستويات من الحرفية جديرة باسم فابرجيه. وهذا ما يتبين بوضوح على قشرتها الذهبية الزاهية بطلاء المينا الأبيض الشفاف وزخارف غيوشيه، والتي تقسمها سلسلة من الأكاليل المصقولة بطلاء المينا الأخضر إلى ثمانية عشر قسمًا.
يزهو كل قسم بصورة متقنة مرسومة بالألوان المائية على طبقة من العاج، بعضها لأفراد عائلة رومانوف وبعضها الآخر لأحداث بارزة مثل حفل التتويج. حملت هذه المنمنمات كلها توقيع الفنان الروسي الشهير فاسيلي سويف، الذي كان وراء الرسومات المهيبة التي زينت قصر ميخائيلوفسكي في سانت بطرسبرغ.
Fabergé Museum
الانبعاث الجديد
بعد إسقاط حكم عائلة رومانوف، توقف بيض فابرجيه عن الصدور، ثم خفت صيت الشركة بالتدريج بفرار أفراد العائلة من روسيا. وقد ظل ذكرها خاملاً زمنًا على الرغم من استمرار بعض أفراد العائلة في ترميم الجواهر الفاخرة والقطع الفنية. بمرور السنوات، دخلت شخصيات أخرى على خط فابرجيه، مثل صامويل روبين والممثل جورج باري وشركات يونيليفر وفيكتور ماير، قبل أن يعود اسم العلامة ليلتحم باسم عائلة فابرجيه في عام 2007 ويسطع ثانية في سماء قطاع المنتجات الفاخرة في عام 2009 بإطلاق مجموعة الجواهر الراقية Les Fabuleuses.
جدير بالذكر أن الفضل في إحياء بيض فابرجيه الإمبراطوري خلال الألفية الثالثة يعود إلى رجل الأعمال القطري حسين إبراهيم الفردان، الذي تعاون مع علامة فابرجيه لإطلاق بيضة اللؤلؤة Pearl Egg في عام 2015.