لا تكاد تسمع اسم المصمم العالمي هوبرت دو چيفنشي حتى يتبادر إلى ذهنك ذلك الفستان الأسود الأيقوني الذي ارتدته أودري هيبورن في الفيلم الكلاسيكي الشهير "Breakfast at Tiffany’s"، تلك القطعة الفريدة التي أحدثت ثورة في عالم الموضة.
إنه هوبرت جيمس مارسيل تافين دو چيفنشي المولود في 21 فبراير عام 1927 لعائلة نبيلة وأرستقراطية تعود جذورها إلى البندقية بإيطاليا عام 1713. انتقلت لهوبرت موهبته وحبه للجمال من جده وجده الأكبر اللذين عملا مصممين وفنانين وقاما بأعمال فنية في قصر الإليزيه وأوبرا باريس.
ولد في بلدة بوفيس الصغيرة شمال فرنسا لأم وجدة مولعتين بالأقمشة والخياطة فيما اشتهر جده الأكبر- لأمه - بيير أدولف بادن بموهبته الفريدة في الرسم. هذا الخليط أنتج لنا في النهاية موهبة فنية. أما والده ماركيز لوسيان تافين دو چيفنشي، فقد عمل طياراً وتوفي فجأة وهوبرت في الثانية من عمره.
موهبة هوبرت چيفنشي الاستثنائية
بدأت موهبة چيفنشي الفذة وهو في سن العاشرة عندما زار معرض باريس، حيث قدمت 30 عارضة أرقى تصميمات بيوت الأزياء الفرنسية وأشهرها، وما رآه الصبي في تلك الليلة ألهمه كثيرا حتى قرر أن يصبح ذات يوم مصمم أزياء، وهو ما كان.
كان على چيفنشي بعد ذلك تخطي صعوبات الحرب العالمية الثانية مع أسرته، وقرر الشاب الدراسة بكلية الفنون الجميلة عام ١٩٤٤وتتلمذ على يد المصمم چاك فيث. كما تعاون في عام ١٩٤٦ مع المصمم العالمي روبرت بيچيه ولوسيان ليلونج، بالإضافة إلى إلسا شياباريللي وغيرهم.
هوبرت جيمس مارسيل تافين دو چيفنشي / GIVENCHY
بزوغ فجر دار چيفنشي ونجاحات ثورية
بعدما اكتسب الخبرة اللازمة، قرر چيفنشي – وهو في الخامسة والعشرين من عمره - تأسيس دار الأزياء الخاصة به معتمدًا على تمويل العائلة.
في عام ١٩٥٢ افتتح هوبرت دو چيفنشي وجافاني روبرت دورفي دار الأزياء الكلاسيكية الفاخرة وأطلق مجموعته الأولى Les Séparables ليصبح چيفنشي أصغر مصمم أزياء في باريس يحصل على إشادة النقاد وتشجيعهم في مجلة "فوج" الشهيرة على مجموعته المدهشة، وبخاصة بلوزة بيتينا Bettina Blouse التي تعد حتى اليوم أبرز تصميمات چيفنشي، فيما جرى اختيار عارضة الأزياء بيتينا جراتسياني وجهًا لعلامته التجارية.
كان المميز في تصاميم چيفنشي هو استخدامه الفريد لأقمشة جديدة بالإضافة إلى طريقته المبتكرة والراقية في التصميم وانسيابية القطع التي مثلت اتجاها ثوريا كلاسيكياً وأنيقاً في الوقت ذاته، وهو ما جعله "نسخة بيكاسو في التصميم".
إحدى القطع النادرة من مجموعة چيفنشي للتحف / GIVENCHY
ذاعت شهرة چيفنشي في الآفاق وأخذ بنصيحة صديقه بالنسياجا وطور تراخيص لحماية مجموعته الراقية، كما أطلق عام ١٩٦٩ خط أزياء للرجال "جنتلمان چيفنشي". وفي أوائل السبعينيات، تنوعت أنشطة الدار العريقة لتشمل تصنيع الأحذية، والجواهر، ورابطات العنق، وأدوات المائدة، والمفروشات، حتى استعانت به سلسلة فنادق هيلتون لتصميم الديكورات الداخلية لفنادقها حول العالم.
العلامة التجارية لـ GIVENCHY
البحث عن الهوية وانطلاقة من باب السينما
تأثر هوبرت في بداياته بمصمم الأزياء الإسباني الشهير "كريستوبال بالنسياجا"، كيف لا وهو الذي وصفه المصمم العالمي "كريستيان ديور" بأنه " سيدنا جميعا " ليكون في نهاية المطاف معلماً لچيفنشي وصديقه المقرب لسنوات عديدة.
لم يكن هوبرت يدري أن اجتماعاً مع فتاة شابة لاختيار ملابس فيلمها الجديد سيكون هو اللقاء المصيري الذي سيؤثر في التسعة وثلاثين عاما القادمة في حياته؛ ففي إحدى الليالي الباريسية الهادئة من عام ١٩٥٣ احتضنت دار چيفنشي اجتماعاً بين المصمم الشاب والممثلة الجميلة أودري هيبورن لاختيار أزياء فيلم "سابرينا". وعقب عرض الفيلم، أصبحت تصاميم دار چيفنشي العلامة المميزة للفخامة والأناقة حيث تسابقت الشخصيات الرفيعة على اقتنائها.
عقب النجاح المدوي لفيلم سابرينا وفي صبيحة الرابع من فبراير ١٩٥٥، حصل چيفنشي على أول جائزة أوسكار له. وفي عام ١٩٥٧، حصل على ثاني جائزة أوسكار له مناصفة مع اديث هيد عن فيلم " Funny face" مع هيبورن أيضا. أما أزياء فيلم Breakfast at Tiffany’s، فكان أبرزها على الإطلاق الفستان الأسود الذي يعد أحد أروع أيقونات چيفنشي حتى يومنا هذا، والذي بيع في أحد المزادات عام ٢٠٠٦ بما يقارب مليون دولار.
GIVENCHY
نجمات تزينّ بتصاميم چيفنشي
طالت قائمة النجمات اللواتي وقعن في أسر چيفنشي وقصاته المبتكرة والثورية، فكانت أبرز سفيرات الدار العريقة سيدة أمريكا الأولى چاكلين كينيدي وأميرة موناكو جريس كيلي والإمبراطورة فرح بهلوي وإليزابيث تايلور وأليس سيمبسون، وحديثاً كيت بلانشيت وإيما ستون وليدي جاجا وجوليان مور وجوليا روبرتس وغيرهن.
إخفاقات دار چيفنشي
الفشل في الوجود داخل الأسواق الصينية
رغم النجاحات الهائلة التي حققتها دار چيفنشي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ورغم المتاجر المتناثرة التي لا تخلو منها العواصم العالمية، فإن هناك إخفاقات متأخرة طالت الدار التي ظلت مقصداً للنبلاء لنحو ٧٠ عاما، وأصبح انتشارها داخل السوق الصيني المهمة المستحيلة التي لم تنفذ حتى الآن، إذ لم تتوافق منتجات چيفنشي الفاخرة مع ذوق المستهلك الصيني.
هوبرت چيفنشي الأرستقراطي النبيل الحائز أوسكار الأناقة
استحواذ مجموعة LVMH على الدار
شبح استحواذ مجموعة LVMH على دار چيفنشي في ١٩٨٠، ولكن هوبرت ترك الشركة في عام ١٩٩٥ بعدما شعر "بالانحراف" الكبير في صناعة الأزياء وتمرد الموضة التي لم تعد تعبر عن الخطوط الكلاسيكية المميزة له.
أما الاستحواذ، فقد شمل دار چيفنشي ومقرها باريس وتصميماتها وورش عملها التي شهدت إبداعات الموضة العالمية، بالإضافة إلى شركة عطور چيفنشيParfums Givenchy.
بعد الاستقالة، استقر هوبرت في Château du Jonchet قرب باريس، وبدأ العمل في دار مزادات وتحف، وبدأ في ابتكار طوابع البريد وتصميم المناظر الطبيعية. ففي عام ٢٠٠٧، أصدرت دائرة البريد الفرنسية طابعين لعيد الحب من تصميم چيفنشي.
هوبرت چيفنشي الأرستقراطي النبيل الحائز أوسكار الأناقة / GIVENCHY
شعار كلاسيكي معاصر
مع أن لوغو چيفنشي صُمم بعد تأسيس الدار بنحو ٥١ عاما، فإنه عبّر عن كلاسيكية وبساطة واحدة من أعرق دور الأزياء الفرنسية بشكل معاصر. ففي ٢٠٠٣ قام بول بارنر بتصميم لوغو يتألف من أربعة أحرف "G" تتداخل معا لتشكل في النهاية مربعا جذابا يشهد على فخامة منتجات چيفنشي وأصالتها.
هوبرت جيمس مارسيل تافين دو چيفنشي / GIVENCHY
حياته الشخصية ووفاته
نجح چيفنشي ببراعة في إخفاء حياته الشخصية وتفاصيلها بعيداً عن العلن، ولكن الفضول الصحفي نقل عن بعض العاملين معه أن المرأة الوحيدة التي أحبها - بخلاف ملهمته الأولى أودري هيبورن - كانت فتاة صغيرة ومتواضعة، أحبها وقرر أخذها إلى دار چيفنشي للعمل سكرتيرة. ومنذ ذلك الحين ظلت صديقته وحبيبته دون أن يتزوجها أو يكشف عن اسمها، وحتى بعد وفاته ظل اسمها سراً، ولكن الثابت أن چيفنشي لم يكن لديه زوجة أو أطفال معلنون.
في سنواته الأخيرة، عاش چيفنشي في ملكية ريفية تسمى Le Jonchet بالريف الفرنسي فيما عُرضت أعماله في معارض في معهد الأزياء للتكنولوجيا في نيويورك ومتحف جاليري في باريس. حصل أيضًا المصمم المبدع على جائزة الإنجاز مدى الحياة من مجلس مصممي الأزياء في أمريكا في عام 1996.
هوبرت جيمس مارسيل تافين دو چيفنشي / GIVENCHY
وفي العاشر من مارس ٢٠١٨، بعد ١٧ يوما فقط من عيد ميلاده الحادي والتسعين، نام هوبرت بهدوء دون أن يزعج أحدا؛ ليرحل بابتسامة على شفتيه متذكراً سنوات سعيدة وأقمشة جميلة وأناسا مذهلين وذكريات رائعة.