في مشهد مغاير للمدن الصغيرة في إيطاليا التي يهجرها الآلاف من الشباب كل عام إلى المدن الكبرى بحثًا عن فرص العمل، تشهد مدينة سولوميو ازدهارًا كبيرًا بفضل جهود رجل غير عادي.
إنه المصمم الإيطالي الشهير برونيللو كوتشينيللي Brunello Cucinelli، المُلقب بـالفيلسوف، وصاحب العلامة التجارية الرائدة في مجال الأزياء الفاخرة، التي تحمل اسمه، ويفضلها الكثير من مشاهير العالم. فالممثل الكندي الشهير رايان رينولدز ظهر على السجادة الحمراء مرتديًا أزياء من تصميم كوتشينيللي، وكذلك فعل الممثل الأمريكي ليوناردو دي كابريو، والممثلة الأمريكية جينيفر لورانس.
كما تعد هذه العلامة الفاخرة، التي يبلغ عمرها 45 عامًا، والتي جرى طرحها للاكتتاب العام سنة 2012، خيارًا مفضلاً في أوساط الأثرياء وكبار المديرين بوادي سيليكون. تلك القمصان السوداء ذات الياقة الدائرية التي لم يتخل عنها قط مؤسس أبل الراحل ستيف جوبز، كانت تُصنع خصيصًا له من قبل الدار الإيطالية. والأمر نفسه ينطبق على القمصان الرمادية المميزة التي يرتديها دائمًا مارك زوكربيرغ، مؤسس موقع فيسبوك والرئيس التنفيذي لشركة ميتا.
هذه السمعة والشهرة الواسعة التي اكتسبتها دار برونيللو كوتشينيللي بدأت برجل واحد قرر أن يحلم، وليس أكثر من ذلك.
نشأة فقيرة وذكريات جميلة
ولد برونيللو كوتشينيللي في 3 سبتمبر من عام 1953 في ريف مدينة إيطالية صغيرة تدعى كاستل ريغوني لعائلة من المزارعين، ونشأ في منزل بلا كهرباء أو مياه جارية. كان المنزل مزدحمًا للغاية وتقاسمه مع 12 من أفراد العائلة. لكنه، يتذكره بكل حنين، ويعده منزلاً جميلاً، قضى فيه أوقاتًا رائعة في اللعب مع إخوته وأبناء عمومته.
ويؤكد كوتشينيللي، الذي كان شديد التعلق بجده، أن السنوات التي قضاها في هذا المنزل القروي البسيط، غرست فيه قيمًا عدة مثل: حب الأسرة، والقناعة، وتقدير العمل الجاد، والإيمان بمفهوم التوازن في الربح والعطاء، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فضلاً عن احترام الطبيعة بمختلف أشكالها، وأهمية التكيف مع أصعب الظروف. إنها القيم التي لا يزال يعتز بها، والتي أثرت كثيرًا في حياته وأسلوب عمله لاحقًا.
Brunello Cucinelli
من الهندسة إلى الموضة
عندما بلغ كوتشينيللي الخامسة عشرة من عمره، اتخذ والداه، مثل العديد من أصدقائهما المزارعين، القرار الصعب بالانتقال إلى مدينة كاستل ريغوني للعمل في مصنع للأسمنت.
وهناك، كما يقول، انقلبت حياته رأسًا على عقب: توفرت له العديد من وسائل الراحة كالكهرباء ومياه الصنابير والسخانات والتلفاز والهاتف، لكنه فقد السماء غير المحدودة، والحقول مترامية الأطراف، ورائحة الغابة والحيوانات، وتلك الليالي الساحرة التي قضاها في التفكير والتحديق في السماء المرصعة بالنجوم غير المتناهية.
وفي كاستل ريغوني، التحق كوتشينيللي بثانوية مسح الأراضي قبل أن يبدأ لاحقًا في دراسة برنامج الهندسة في جامعة بيروجيا. إلا أنه لم يكمل الدراسة، واتجه إلى عالم الموضة والأزياء. وكانت زوجته فيديريكا بيندا سببًا في التحول الدراماتيكي الذي طرأ على مساره المهني إذ إنها ألهمته بتلك الخطوة. وحول ذلك، يقول كوتشينيللي إنه لقي بيندا لأول مرة عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وكانا يتشاركان الحافلة نفسها في أثناء ذهاب كل منهما إلى مدرسته الثانوية.
ولفت إلى أنه بعد خطوبتهما اعتاد الذهاب إلى سولوميو، المدينة التي وُلدت ونشأت فيها بيندا، فكان يتجول معها في أثناء تسوقها لمتجر ملابس صغير كانت تؤسسه. وهكذا بدأ ينجذب لعالم الموضة ليتغير اتجاه مؤشر حياته بلا عودة.
فعندما كان في الرابعة والعشرين من عمره، عمل كوتشينيللي عارض أزياء لدى شركة ملابس رياضية تقع قرب منزله. كما بدأ، في ذلك الوقت، يقرأ في مجلات الموضة، وأصبح حريصًا على الاطلاع على أحدث اتجاهاتها.
Brunello Cucinelli
زمن البدايات
في عام 1978، وكان كوتشينيللي وقتها في الخامسة والعشرين من عمره، اتخذ قراره بإطلاق علامة تجارية خاصة به وافتتاح مصنع صغير بضواحي مدينة بيروجيا. لكن في ذلك الوقت لم يكن المال اللازم لبدء مشروعه متوفرًا. وعن ضيق الحال الذي كان يعيشه آنذاك، يقول: كنا مزارعين، لذلك لم يكن في جيبي حتى دولار واحد".
لكن ذلك لم يثنه عن السعي لتحقيق حلمه، الذي بدأ بقرض قدره 550 دولارًا، صنع به مجموعة من السترات الكشميرية. والآن، تبلغ قيمة ثروته 3.1 مليار دولار، بحسب موقع فوربس.
Brunello Cucinelli
ثورة في عالم الكشمير
في بداية مشواره في عالم الموضة، اعتمد كوتشينيللي على الملابس النسائية المصنوعة من أجود أنواع صوف الكشمير المصبوغ بألوان مشرقة وعصرية بعكس السائد حينها. فقد شاهد الشاب الإيطالي الحاذق النجاح الكبير الذي حققته السترات ذات الألوان الزاهية التي كانت تنتجها العلامة التجارية الإيطالية الشهيرة بينيتون غروب Benetton Group، كما لاحظ أن الكشمير كان حبيسًا في الألوان الكلاسيكية الرسمية: الأسود، والرمادي، والبيج.
فطن كوتشينيللي إلى أن الجمع بين الألوان المشرقة والكشمير الفاخر، بموازاة الحفاظ على أعلى مستويات الجودة، سيسمح له بابتكار منتج حصري يرسم لمستقبله في عالم الأزياء طريقًا لا تغيب عنه الشمس.
ولم يكن هذا التحول في ألوان الكشمير مقنعًا آنذاك لكثيرين في عالم الموضة. يتذكر كوتشينيللي ما حدث له في بداية حياته المهنية عندما ذهب لصبغ ست سترات نسائية من الكشمير بستة ألوان مختلفة. فما كان من صاحب المصبغة إلا أن خاطبه بحدة قائلاً: "أنت مجنون لصبغ الكشمير بهذه الألوان". لكن لاحقًا، صدق حدس كوتشينيللي.
منذ الظهور الأول، اجتذبت كل قطعة من برونيللو كوتشينيللي الجمهور المتأنق صاحب الذوق الرفيع، الأمر الذي سمح بازدهار مجموعته، التي انتقل مقرها إلى مدينة سولوميو عام 1985. وحدث ذلك بعد 3 من سنوات من إقامة كوتشينيللي في تلك المدينة إثر زواجه من بيندا عام 1982.
ووسط هذا الاهتمام والتقدير، وقعت دار برونيللو كوتشينيللي تحت التأثير الساحر للكشمير المستخرج من أصواف الماعز من سلالة هيركس Hyrcus ، والتي تتميز بنعومتها الفائقة. بات كوتشينيللي يسافر سنويًا إلى مرتفعات منغوليا لشراء أفضل الأنواع مباشرة من المنتجين، فذاع صيت دار الأزياء الإيطالية التي أصبحت مملكة الكشمير بلا منازع.
وعلى مدار 20 عامًا، ظلت الدار تركز على إنتاج السترات النسائية، ثم أدخلت ملابس الرجال إلى خطوط إنتاجها في تسعينيات القرن العشرين. ورغم امتلاك العلامة لمتجر واحد صغير حينها، إلا أنها باعت في أحد الأعوام ما يقرب من 200 ألف سترة.
ومع ازدياد الإقبال على أزياء كوتشينيللي التي اشتهرت بوصفها ملابس عملية أنيقة مصممة بحرفية، فكرت الدار بشكل جاد في توسيع نطاقها وأطلقت ما بين أربعة متاجر إلى خمسة سنويًا، حتى باتت تمتلك حاليًا أكثر من مئة فرع داخل أهم المراكز التجارية وفي أشهر شوارع التسوق في ما يزيد على 30 مدينة حول العالم. كما أصبح لديها خط ملابس للأطفال وآخر للإكسسوارات بالإضافة إلى الديكور المنزلي.
Brunello Cucinelli
برونيللو كوتشينيللي.. نصير البيئة
عادة ما توصف متاجر برونيللو كوتشينيللي بأنها أقرب للمتاحف الحية التي تضم قطعًا فنية متفردة ومحدودة وعابرة للأزمنة، لا سيّما أنها تكشف سر الجمع بين الابتكار والعمل الحرفي المتقن.
يؤمن كوتشينيللي بالعديد من المفاهيم والأفكار الفلسفية، التي تنعكس بقوة على تصاميمه وأسلوب عمله. فهو يرى أن الأولوية المطلقة يجب أن تكون للجودة العالية والإبداع. كما أنه لا غنى عن التكنولوجيا من حيث كونها أداة لخدمة الحرف اليدوية وليست هدفا في حد ذاتها. كما يمكن اعتبار كوتشينيللي مدافعًا عن الاستدامة البيئية التي تلتزم بها علامته من خلال حرصها على توفير للمواد الخام المستخدمة في تصاميمها من مصادر مستدامة، مع احترام رفاهية الحيوان.
وعند النظر إلى الأزياء الممهورة بتوقيع كوتشينيللي، سنلاحظ دومًا أنها صنعت لتبقى ولتتوارثها الأجيال.
فالجودة الفائقة للكشمير ونعومته الاستثنائية تقفان وراء قدرته على الصمود عبر الزمن وتضفيان عليه قيمة ثمينة. والفضل في ذلك يعود إلى الدار الإيطالية التي نجحت في استدعاء روح القرن الثامن عشر، الذي كانت أزياء الملكات فيه مصنوعة بالدرجة الأولى من الكشمير.
يُضاف إلى ذلك ما يتمتع به مؤسس الدار، المعروف بلقب ملك الكشمير، من حس ابتكار يهز قواعد المألوف في عالم الأزياء. فقد اضطلع بدور ريادي في تحرير الأناقة من القواعد الصارمة ليصوغ معانيها في تصاميم تمزج بين قطع رسمية وأخرى عملية، وتزاوج بين الفخامة والنأي عن التكلف والبهرجة، وهو التوجه الذي يتبناه اليوم كبار المصممين في مجموعاتهم.
Brunello Cucinelli
فيلسوف يحتفي بالإنسانية
يطلق بعض الناس على كوتشينيللي لقب عرّاب التوازن؛ فهو يؤمن بأن العمل لساعات طويلة يسرق الروح، ويدعو إلى الموازنة بين تخصيص وقت للعمل وآخر للتأمل الذاتي والأسرة والترفيه. ويطبق هذا المبدأ على حياته الخاصة، مع زوجته وابنتيه ويشجع موظفيه على أن يفعلوا الشيء نفسه.
وبمفهوم أوسع، تقوم منظومة عمل كوتشينيللي على فلسفة تحتفي بالإنسان وتضعه في مركز كل شيء. يؤمن المصمم بأهمية تحقيق المجموعة للأرباح من أجل مواصلة مسيرتها، لكن من دون المساس بحقوق القوى العاملة التي منحته وقتها وطاقاتها الإبداعية.
فالعاملون في دار برونيللو كوتشينيللي محظوظون؛ إذ يحصلون على رواتب تزيد بنسبة 20% على متوسط ما يحصل عليه أقرانهم في مؤسسات مماثلة. كما يتضمن يوم عملهم استراحة غداء إلزامية ومدعومة لمدة 90 دقيقة.
وينبغي لهم أيضًا مغادرة المؤسسة بحلول الساعة الخامسة والنصف مساءً، وقطع صلتهم بمختلف الأمور المتعلقة بالعمل في أوقات الراحة وعطلة نهاية الأسبوع؛ ليتمكنوا من شحن حسهم الفني والإبداعي ومواصلة عملهم بشغف.
Brunello Cucinelli
وكان لتجارب كوتشينيللي الشخصية دور كبير في تلك الفلسفة التي يتبعها مع العاملين بمؤسسته. وحول ذلك، يقول: "كان عمري 15 أو 16 عامًا، وأتذكر قدر الألم الذي انتابني عند سماعي عن الإهانات التي كان يتحملها والدي في المصنع الذي كان يعمل به، ورؤية عينيه الدامعتين". ويضيف: "من هنا جاء مشروعي الكبير في الحياة القائم على: الكرامة الخُلقية والاقتصادية للإنسان".
وعزز هذا التوجه لدى كوتشينيللي إيمانه بمقولة سقراط: لا يشعر بالسعادة سوى الرجل العادل. كما عززه والده الذي كان دومًا ينصحه قائلا له: كن شخصًا جيدًا تحظَ باحترام الناس، واجعل احترام كرامتك وكرامة الآخرين مبدأ أساسيًا لحياتك.
باختصار، يتبّنى كوتشينيللي نهجًا فلسفيًا يركز على القيم الأساسية مثل الوقت، والبيئة، والعائلة، والكرامة الإنسانية، وأن الإنسانية غاية وليست وسيلة. ويختزل هذه الفلسفة في فكرته المتمايزة عن الرأسمالية الإنسانية التي يبني عليها إبداعه والمنظومة الخُلقية التي يحتكم إليها في داره، وهي الفلسفة التي تعلّمها خلال نشأته القروية في بداية حياته.
كما أنها ترسخت جراء اهتمامه بالفلسفة في وقت مبكر من حياته، والتعمق في أفكار الكثير من الفلاسفة، مثل شوبنهاور وهيغل، وكيركيغارد، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم. والجدير بالذكر هو أن كوتشينيللي يحمل تقديرًا خاصًا للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وخاصة مفهومه للكرامة وقيمة كل فرد. بل إن كل قطعة من الملابس التي يصممها كوتشينيللي تأتي مرفقة ببطاقة تحمل اقتباسًا من أحد أقوال كانط. ولكل ما سبق، منحته جامعة ميسينا درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة عام 2018؛ نظرًا لكونه مفكرًا مؤثرًا.
رد الجميل
كوتشينيللي لا يحترم القيمة الإنسانية في مصانعه فحسب، بل يعطي وزنًا كبيرًا لخدمة المجتمع من حوله، حتى بات مساهمًا في حياة كثيرين، وليست حياته فقط. وبصفة خاصة، حرص المبدع الإيطالي على رد الجميل لمدينة سولوميو، التي احتضنت علامته التجارية، وانطلقت بها للعالمية. فنحو 10% تقريبًا من سكان هذه المدينة يعملون لصالح علامته التجارية.
Brunello Cucinelli
كما ترك كوتشينيللي بصمته على الهندسة المعمارية للمدينة أيضًا. فعند انتقاله إلى هناك، جدد قلعة سولوميو الحجرية التاريخية التي تعود إلى القرن الرابع عشر، والتي احتضنت لبعض الوقت المكاتب الرئيسة لعلامته التجارية.
كما قدم خدمات عدة لتلك المدينة تشمل: إعادة رصف الطرق، وإحياء مزارع الكروم، وإنشاء صالات رياضية، وتأسيس مكتبة ومدرسة لتعليم الفنون والحرف. كما أنشأ منطقة صناعية لعلامته التجارية في الوادي أسفل المدينة.
وفي عام 2008، قام ببناء مسرح في قلب المدينة يتسع لما مجموعه 240 مقعدًا.
إضافة إلى ذلك، ينفذ الرجل مبادرات خيرية مدروسة، في الداخل والخارج. وهو يتبرع كل عام بنسبة 20% من أرباحه لصالح تمويل مشاريع ثقافية واجتماعية، مثل ترميم المسارح وتعزيز تعليم الشباب. وحين سئل عن شعور والده عندما وضع في قائمة فوربس لأغنى مليارديرات العالم، أجاب كوتشينيللي: "قال والدي لي: الشيء الوحيد الذي يهمني هو أن تكون رجلاً صالحًا".