الزمان هو 14 مايو عام 1988، والمكان هو حلبة مونتي كارلو. أما الحدث، فيتعلق بسيارة حمراء وبيضاء تدور حول الحلبة بسرعة مبهرة فيما المحرّك يُظهر إشارات تُفيد بأنّ سرعة دورانه لا تنخفض كثيرًا حتى عند أضيق المنعطفات.
وما هي إلا ثوان معدودة حتى يظهر اسم آيرتون سينا على شاشات التغطية التلفزيونية وتوقيت يتوقف عند الرقم -1,427، أي ثانية ونصف تقريبًا أسرع من توقيت زميله في فريق ماكلارين ألان بروست بطل العالم مرتين (حتى موعد السباق المذكور وقبل أن يسجّل بروست لقبيه الثالث والرابع في موسمي 1989 و1993).
فما الذي حصل وكيف تمكّن سينا من تحقيق هذا الفارق الكبير على متن سيارة مطابقة تمامًا لسيارة زميله الذي يُعد من أنجح سائقي الفورمولا 1؟

الإجابة أتت على لسانه في ما بعد عندما أوضح أنه دخل خلال تلك اللفة بحالة ذهنية لم يعرفها من قبل، وأنه كان يقود بالغريزة وليس بالإدراك، وبشكلٍ جعله يرى الحلبة نفقًا طويلاً يسمح له بالتقدم أكثر فأكثر. هذا التفسير على غرابته هو التفسير المنطقي الوحيد لتمكّن سيارة Mclaren MP4/4 من الإتيان بهذه السرعة الإضافية في بطولة تُنفق فيها الملايين من أجل تحقيق بعض الأجزاء الضئيلة من الثانية في اللفة الواحدة، بالمقارنة مع السيارات المنافسة التي قد تخصّ أحيانًا فرقًا متواضعة الإمكانيات، وليس سيارة للفريق نفسه يقودها سائق من عيار بروست.

أسطورة الفورمولا 1 آيرتون سينا

آيرتون سينا على حلبة هونغارورينغ في بودابست خلال التدريبات الخاصة بسباق جائزة هنغاريا الكبرى لعام 1989.

Pascal Rondeau\Staff\Getty Images

آيرتون سينا على حلبة هونغارورينغ في بودابست خلال التدريبات الخاصة بسباق جائزة هنغاريا الكبرى لعام 1989.

هل هي موهبة فحسب؟

لم تبدأ عبقرية سينا في القيادة من تلك اللحظة، بل من شعور كان يرافقه دائمًا بأنه يملك الحق بالفوز، وهو ما دفعه إلى المثابرة على تعلم فنون القيادة منذ الصغر. فعلى سبيل المثال، وبعد أن اكتشف البطل البرازيلي خلال مشاركاته الأولى ضمن سباقات الكارتينغ وهو طفل بأنه يصعب عليه السيطرة على السيارة تحت الأمطار، ظل مثابرًا على التدريبات التي تسمح له بالتفوق على هذه العقبة في كل مرة تهطل فيها الأمطار حتى أصبح متمّرسًا بفن التحكم بالسيارة والشعور بمستوى تماسك إطاراتها مع الأسفلت، ليكسب في ما بعد لقب "سيد الأمطار" القادر على حسم نتيجة أي سباق من المتوقع أن تهطل الأمطار خلاله حتى قبل أن يبدأ. 

هل هو أعظم سائق في التاريخ؟

اليوم، وبعد مرور ثلاثين عامًا على رحيل سينا، لا يزال ذكره في أي مجلس يترافق مع أمرين، الأول هو شعور عال بالحزن على بطل ليس كغيره من الأبطال، بطل كان يُتوقع له تحقيق المزيد من الإنجازات في عالم الفورمولا 1 الساحر. أما الأمر الثاني، فهو السؤال الكبير الذي تصعب الإجابة عنه: هل هو حقًا أعظم سائق فورمولا 1 في التاريخ؟

إذا ما أخذنا في الحسبان أنه فاز بثلاث بطولات عالم فقط بالمقارنة مع أربع بطولات لكل من بروست وفيتيل، وخمس لخوان مانويل فانجيو وسبع لكل من شوماخر ولويس هاملتون، فإن الأرقام قد لا تسمح للبطل البرازيلي بأن يُتوّج بلقب أعظم سائق في التاريخ.

طابع بريدي إفريقي من عام 2020 يحمل صورة البطل تكريمًا لذكراه.

Formula 1

طابع بريدي إفريقي من عام 2020 يحمل صورة البطل تكريمًا لذكراه.

ولكن الأرقام على أهميتها لا تكشف الحقيقة دائمًا، وذلك لأن سينا حقق بطولاته العالمية الثلاث ضمن منافسة عالية، خصوصًا خلال موسم 1988 عندما نافس ألان بروست على السيارة نفسها وفي ظل الدعم التقني نفسه من الفريق، فضلاً عن أنّ عدد السباقات خلال الموسم الواحد والقوانين التي كانت تُنظم السباقات تحت رايتها أيام سينا، كانت مختلفة تمامًا عما حدث أخيرًا عندما حمت قوانين حصر النفقات بشكلٍ أو بآخر، سيطرة فريق مرسيدس الذي مكّن لويس هاملتون من تحقيق بطولاته الست الأخيرة بكل سهولة، بعد أن كان قد نافس حقًا على اللقب مع سائق فريق فيراري فيليبي ماسا خلال موسم 2008 عندما حقق لقبه الأول.

والأمر نفسه ينطبق على الطريقة التي حقق بها الأبطال الآخرون بطولاتهم باستثناء شوماخر في بعض المواسم التي تمكّن فيها من تحقيق اللقب وهو يسابق فيها بسيارة أقل تطورًا وسرعة من سيارات منافسيه المباشرين على ما كان عليه الحال في موسمي 1994 و2000.

أما في غيرهما من المواسم التي كانت السيطرة التقنية فيها للسيارة التي يقودها شوماخر، فكان الفريق لا يكتفي بمنع زميله من منافسته فحسب، بل يطلب من هذا الزميل مساعدته أيضًا، على ما حصل خلال سباق جائزة النمسا الكبرى في عام 2002 عندما طلب الفريق الإيطالي من روبنز باريكللو أن يضحي بفوز كان محققًا والسماح لشوماخر بالتجاوز في اللفة الأخيرة من السباق ليحصد المركز الأول ونقاطه الإضافية، الأمر الذي لم يتوفر يومًا لسينا.

آيرتون سينا في أحد سباقات الفورمولا 1 على حلبة شارع فينيكس في أريزونا بأمريكا.

Formula 1

آيرتون سينا في أحد سباقات الفورمولا 1 على حلبة شارع فينيكس في أريزونا بأمريكا.

أيام آيرتون سينا الأخيرة

بعد تحقيق سينا اللقب الثالث إثر منافسة ضارية مع نايجل مانسل، سائق فريق وليامس - رينو الذي كان يملك سيارة متطورة في موسم 1991، عزّزت وليامس سيارتها لعام 1992 لتهب نايجل مانسل بطولة العالم بعد سباقات كان يحتل فيها البطل الإنكليزي الصدارة من البداية إلى النهاية وكأنه يتنزّه، باستثناء بعض المناسبات التي كانت تتجلى فيها قدرات سينا على إزعاجه على ما حصل في سباق موناكو، ومن ثم قام ألان بروست بالأمر نفسه بعد عودته إلى الفورمولا 1 مع فريق وليامس خلال موسم 1993.

في موسم 1994، انتقل سينا إلى صفوف فريق وليامس ممنيًا النفس بتحقيق لقب سهل مع الفريق الأفضل آنذاك، إلا أنّ هذه الأمنية لم تتحقق بسبب الحادث الأليم على حلبة إيمولا ضمن اللفات الأولى لجائزة الإمارة الإيطالية الكبرى. آنذاك، اصطدم سينا بحائط منعطف تومبوريللو وهو يقود متصدرًا السباق، ليفارق الحياة على الفور، وسط صدمة العالم أجمع وحزنه. وكأن قدر الأبطال العظماء هو الرحيل وهم في القمة، وكأن قدره هو شخصيًا ألا يحقق أي فوز أو أي لقب سوى بشق النفس وبعد منافسة ضارية.