رحلة بحرية أسطورية إلى الفضاء الأبيض للقارة القطبية الجنوبية على متن سفينة لو بوريال.
همس القبطان إيتيان غارسيا قائلًا: «صباح الخير! آسف لإيقاظكم، ولكن لا بد لكم من القدوم لرؤية حيتان الأوركا القاتلة! إنها تسبح بمحاذاة المَيْسَرَة عند مقدمة السفينة». فتحت عينيَّ فورًا، وأنا أسأل نفسي: كم الساعة الآن؟ وكيف تأتّى للقبطان الدخول إلى مقصورتي؟ كان بصيص من الضوء ينساب خلسة عبر الستائر الداكنة، متسللاً ليَخُطَّ فوق سريري شعاعًا وضَّاء لا ينبعث في العادة إلا متى سطعت شمس الظهيرة. إذ تحققت من ساعتي، وجدت الوقت يشير إلى الساعة الخامسة والعشرين دقيقة فجرًا. لكن الضوء حتى في ساعات الصباح المُبكرة عند خط العرض - 63 درجة إلى جنوبي خط الاستواء يسطع كما لو كان الوقت ظهرًا. أما نداء القبطان، فكان إعلانًا يُبَثُّ عبر نظام الاتصال الداخلي على متن السفينة وحسب. بدا لي الوقت مبكرًا جدًا حتى لمشاهدة الحيتان القاتلة. لكني لم أكد أغفو مجددًا، حتى عاود القبطان غارسيا نداءه قائلاً: «صباح الخير». لم يكن هذه المرة يهمس، بل يتحدث بصوت ملؤه الحماس، مضيفًا: «تظهر الآن حيتان من فصيلة جمل البحر، ومعها حوت صغير، وها هي حيتان الأوركا القاتلة تقوم بتطويق القطيع. إنه مشهد يصعب تصديقه». ويضيف، وكأنه بذلك يقصدني شخصيًا: «لا تعودوا إلى النوم فيفوتكم هذا المشهد».
سرعان ما وجدتني أنسحب من السرير ثم أسير عبر الرواق باتجاه سطح مقصورة القيادة حيث تبيَّن لي أن معظم الركاب على متن سفينة لو بوريال Le Boreal التي تحتضن 132 جناحًا قد تحلّقوا حول الواجهة الزجاجية السميكة التي تحيط بلوح القيادة العملاق المزدان بالعدادات والمفاتيح. كان بعض الركّاب قد سارعوا يلتمسون الدفء من السترات الحمراء (الخاصة بالبعثات الاستكشافية إلى المناطق القطبية) إذ ارتدوها على عجل فوق مناماتهم واندفعوا وسط الصقيع القارس إلى السطح في مقدمة السفينة لعلّهم يحظون بموقع أفضل لمراقبة المشهد. في المقابل، اكتفى آخرون باقتفاء حركة الحيتان عبر عدسات المناظير الثنائية فيما راح القبطان غارسيا يعلّق على أدق تفاصيل الحدث فيهتف قائلاً: «إنها تـتجه صوب الميمنة. لقد نجح الحوت في اختراق الطوق. لقد باتت إلى يسارنا، هَلُمّوا جميعًا إلى الميسرة». كلما أصدر القبطان توجيهاته المتتالية، رحنا نغيِّر موقعنا من جهة إلى أخرى فيما أصواتنا تعلو بصيحات التعجب وبعضنا ينشغل بالتقاط الصور.
يختصر هذا المشهد طبيعة الحياة التي يختبرها المرء في سياق رحلة بحرية إلى القارة القطبية الجنوبية. لكن خلافًا لرحلات أخرى من الطراز نفسه، لا تنطوي الرحلة التي تنظمها الشركة الفرنسية للرحلات البحرية بونان Ponant (لمدة 11 يومًا في كل مرة وبتكلفة تبدأ من 12٫940 دولارًا للشخص الواحد) على أنشطة نموذجية، وإنما تعد بخوض مغامرات متفردة. بل إن أحدًا لا يستطيع التنبؤ بمسار الرحلة المرن، إذ يبقى الأمر رهنًا بأهواء الطبيعة في أحد المواقع الأشد قسوة والأكثر تقلبًا على سطح الكوكب. فارتفاع الموج حتى علو 30 قدمًا، والرياح فائقة السرعة، وانخفاض درجة الحرارة إلى حد يتجمد معه أي مسار بعد بضع ساعات فقط من مرور السفينة عبره، كلها عوامل تجعل البعثة إلى أقاصي الأرض رحلة جسورة حقًا، وتحمل إلى الركّاب مهمة جديدة كلما بزغ فجر يوم جديد.
مغامرات استكشافية
في سياق رحلات بحرية تستمر من 11 يوما إلى 16 يوما، تشرع لو بوريال، إلى جانب سفن بونان الأخرى المجهزة لخوض غمار
المياه القطبية، الأبواب على فرصة استكشاف العوالم الطبيعية النائية في القارة القطبية الجنوبية.
تسلّقنا ذات يوم أعلى قمة جبل في مرفأ نكو هاربور ثم ارتجّت الأرض بنا حين وقع على مقربة منا انهيار جليدي جارف فاض على ضفاف خليج آندفورد باي. في يوم آخر، تكدّسنا في زوارق الطفو المطاطية القابلة للنفخ ورحنا نشق غمار الممرات الضيقة بين الجبال الجليدية. كانت الكتل الجليدية منخفضة الارتفاع تتمايل كعوّامات تتوهج بضياء أبيض لامع، فيما تلك الكتل العملاقة تتناثر على امتداد مسافة تقارب نصف ميل، ملتحفة أبيض ثلج مرصوص تراكم فوقها على مدى مئات السنين أو ربما آلاف السنين.
استيقظنا ذات صباح لنجد أن القبطان غارسيا قد أبحر بسفينة لو بوريال ملامسًا حافة سطح متجمد هائل. ترجلنا عن متن السفينة لنستكشف الامتداد الثلجي الشاسع وضحكنا لمرأى ثلاثة بَطَارِيق راحت تهيم باتجاهنا. علا هتاف جُل رواد السفينة من ركاب ومرشدين، وطهاة ونُدُل، ابتهاجًا عندما لامست أقدامنا أخيرًا برَّ اليابسة نفسه، وليس المسطحات المتجمدة أو ما يحيط بنا من جزر تحمل أسماء مثل ديسبشن Deception أو سبيرت Spert. ربما كانت الصيحات الأشد حماسة هي تلك الصادرة عن القبطان غارسيا نفسه.
طابع جمالي جريء
تتميز لو بوريال عن السفن النموذجية المخصصة للبعثات الاستكشافية بمساحات داخلية أنيقة
تستلهم تصميم يخت فاخر تثريه تفاصيل من الجلد وقطع أثاث عصرية.
|
|
|
على الرغم من الطابع الجسور لهذه الرحلة، إلا أن سفينة لو بوريال لا تشبه في شيء سفن البعثات الاستكشافية. صحيح أن هيكلها مدعّم بمزايا المتانة التي تقتضيها البعثات إلى القارة القطبية، إلا أن مساحاتها الداخلية تحاكي تصميم يخت فاخر، ومستوى الخدمة المتوافر على متنها رفيع ومتقن، والولائم التي تغلب عليها مذاقات المطبخ الفرنسي تُعد متميزة، لا سيما إذا أخذنا في الحسبان المسافة التي تفصلنا عن أي مورد قد يشابه ولو من بعيد سوقًا أو مزرعة. كانت السفينة صغيرة بما يكفي للشعور بالحميمية، وبما يتيح لقبطانها الإبحار بها برشاقة حتى عبر غمار المسارات المائية الأشد غدرًا. لكنها كانت في الوقت نفسه فسيحة إلى حد كاف للتمدد والاسترخاء بعيدًا عن الركاب الآخرين. أضف إلى ذلك أن سفينة لو بوريال تتسم بالمتانة التي تتيح لها التصدي للرياح العاتية التي تهب بسرعة 200 ميل/ الساعة، ومقارعة الأمواج الشاهقة، شأنها في ذلك شأن السفن الأشد صلابة.
في الأيام التي تردَّت فيها الأحوال الجوية، وهو أمر تكرر بانتظام، لم يصدر عن الركّاب أي تذمر أو شكوى. فقد كنّا في مثل تلك الحالات نغذي روح المغامرة لدينا بالإصغاء إلى محاضرة مثيرة للاهتمام عن طائر القطرس البحري المهيب أو عن بطاريق جنتو الفَطِنَة. كان بعض ما يعزّينا أيضًا يكمن في معرفتنا بأن القبطان غارسيا قد يُقْدِم في أي لحظة على مقاطعة العشاء أو جلسة تناول الشاي في فترة ما بعد الظهر، أو حتى نومنا الهانئ، للإعلان عن مغامرة أخرى تدور أحداثها قبالة مقدمة السفينة.