نخبة من الصناع أمثال روجر سميث وفرودشام وبريمونت
يعيدون إحياء الإرث العريق لصناعة الساعات البريطانية.
إذا كان من شيء قد علق في الذاكرة من حفل جوائز الأوسكار لعام 1982، فإنه خطاب قبول الجائزة الذي أدلى به كولن ويلاند. كان ويلاند قد كتب سيناريو فيلم Chariots of Fire أو «عربات النار» الذي تحددت به حقبة كانت الغلبة فيها لتسريحات الشعر المتدلي وتقنية تصوير الجري بالحركة البطيئة، وذلك على إيقاع الموسيقا التصويرية الإلكترونية للفنان اليوناني فانجيليس. لدى الإعلان عن اسم ويلاند، قام الممثل والكاتب ممتلئ الجسم المولود في ليفربول، ثم أصلح سرواله وزرر سترته الرسمية المخصصة للأمسيات وارتقى المنصة. كانت عبارات الشكر التي أدلى بها بلكنة سكان لانكاستر منضبطة وصائبة وغير متكلفة إلى أن بلغ نهاية خطابه عندما صرح بما عدَّه «كلمة تحذيرية،» مقتبسًا عبارة بول ريفير الشهيرة «البريطانيون قادمون.»
صانع الساعات جورج دانيلز منهمكا في عمله في عام 1995.
الواقع هو أن كلمات ويلاند ثبتت صحتها. فباستخدام جسر العبور الذي أرسى بنيانه ويلاند وفريق من الرياضيين ذوي القوام الممشوق، تدفقت المواهب البريطانية عبر الأطلسي ممثلة بكايت وينسليت، وكولن فيرث، وهيلين ميرين، وكينيث براناه، وفيبي والر-بريدج، وستيف ماكوين، وكيرا نايتلي، وداني بويل، وغيرهم.
بقيت تلك العبارة عالقة في ذهني منذ ذلك الحين، واختبرت هذا الصيف موقفًا يذكر بكولن ويلاند.
في شهر يوليو تموز الفائت، باعت دار المزادات سوذبيز ساعة مقابل 3.6 مليون جنيه إسترليني، أو ما يعادل نحو 4.5 مليون دولار. لم يكن هذا المبلغ كافيًا لكسر الأرقام القياسية العشرة الأولى للمبيعات في المزاد، إلا أنه يُعد مع ذلك مبلغًا باهظًا يتوقع المرء أن تحققه ساعة حصرية من طراز رولكس دايتونا، أو أخرى متفردة من طراز Patek 2499. لعل السبب في تعزيز سعر الساعة يُعزى إلى مصدرها الهوليوودي الذي دعم قيمتها، أو ربما إلى أن واحدًا من عمالقة عالم اللصوصية في ما عُرف بعصر أمريكا المذهب قد تزين بها ذات زمن.
" لكن نهاية صناعة الساعات الميكانيكية على نطاق واسع لم تكن تعني هلاك صناعة الساعات البريطانية.
جل ما في الأمر أنها باتت رفيعة المستوى."
لكن السبب الحقيقي لم يكن أيًا من المذكور أعلاه. لم تبصر الساعة النور في واحدة من الدور السويسرية الشهيرة، بل صُنعت عوضًا عن ذلك في محترف ملحق بأحد المنازل في جزيرة آيل أوف مان الصغيرة الواقعة بين إيرلندا وإنكلترا، والشهيرة خصوصًا بنظامها الضريبي الخيِّر وباحتضانها سباقًا فتاكًا للدراجات النارية. تشكل أي ساعة تُصنع في ما يضاهي كوخًا في حديقة وتشق طريقها إلى الصفوف الأمامية لعالم صناعة الساعات الراقية قصة تستحق مقاربتها على طريقة ويلاند الذي قال إن كتاباته كانت تنزع نحو «نصرة الفرد في مواجهة النظام.»
أشعر بأن علاقة صداقة وثيقة ومميزة كانت لتربط بين ويلاند وجورج دانيلز، الرجل صاحب «الكوخ». كان دانيلز، الذي يقود سيارة بنتلي ويرتدي سترة من نسيج التويد، يشكل قبل وفاته عام 2011 خير مثال على الرجل البريطاني المناصر للمذهب الفردي. أما الساعة التي صنعها وبيعت مقابل هذا السعر الباهظ، فتعود إلى عام 1982 وكانت تحمل اسم Space Traveller I. لكن على الرغم من دقتها المتقنة، إلا أنها كانت تبدو أقرب إلى زمن عربات الخيل منه إلى عصر الفضاء، إذ إنها ساعة جيب كبيرة الحجم تعرض أطوار القمر، والوقت النجمي، ومعادلة الوقت، والوقت الشمسي، وغير ذلك. كانت «من طراز تلك الساعة التي تحتاج إليها في رحلة منظمة إلى المريخ» على ما قال دانيلز.
رسومات وأدوات في محترف دانيلز في جزيرة آيل أوف مان.
تُعد هذه الساعة مهمة على المستويات كافة. إنها تشكل مأثرة حرفية، كما أنها متفردة، وطوُرت من قبل رجل ينظر إليه كثير من الناس بوصفه صانع الساعات الأشد مهارة في القرن الفائت. يُضاف إلى ذلك أنها بُنيت على نحو رائع في وقت كانت ساعة المعصم الميكانيكية تبدو ابتكارًا تجاوزه الزمن، فما بالك بساعة جيب مجهزة بوظائف فلكية مبهمة؟ حتى شخصية جيمس بوند تطورت بمرور الأزمنة. فخلال سبعينيات القرن الفائت ومطلع ثمانينياته، كان العميل السري الأشهر في خدمة صاحبة الجلالة يزين معصمه بساعات كوارتز فاخرة من اليابان تُستخدم فيها تقنية العرض بالبلور السائل.
لكن دانيلز حقق الازدهار من خلال خصوصيته الفردية. تجلى هذا الرجل، الذي بدأ حياته المهنية في مجال إصلاح الساعات واستعادتها، بوصفه العالم بساعات بريغيه الرائد بين أبناء جيله، إذ كان يبذل جهدًا بالغًا للإبقاء على الاهتمام الذي يحظى به صانع الساعات الفرنسي العظيم. أعاد دانيلز من خلال عمله صناعة الساعات مئتي عام إلى الوراء، إلى زمن صانع الساعات الكلي، عندما كان رجل واحد يتولى صناعة الساعة بأكملها، أي المعيار الحركي، والميناء، والعلبة، ومختلف التفاصيل الأخرى. «نشير على سبيل توخي الدقة إلى أن دانيلز كان يتقن اثنتين وثلاثين مهارة من أصل المهارات الأربع والثلاثين المطلوبة، فيما كان يوكل مهمة تصنيع النوابض والعناصر الزجاجية إلى آخرين.» هكذا نبذ دانيلز قرنين من حكمة القبول بحتمية التحول الصناعي والتوجه إلى الإنتاج التسلسلي، أي تجزئة صناعة الساعات إلى سلسلة من المهام المتمايزة واعتماد أساليب تصنيع دقيقة تتيح استخدام العناصر على نحو تبادلي.
روجر و. سميث.
ربما بدا الأمر آنذاك أشبه بموقف الملك كانوت، لكن دانيلز عاش عمرًا مديدًا بما يكفي ليرى قطاع صناعة الساعات يغدق عليه الثناء ويرفعه إلى مصاف العظماء في هذا المجال لينضم إلى أسلافه من الجزر البريطانية، الذين قادوا العالم ذات زمن في مجال صناعة آلات ضبط الوقت الميكانيكية.
الواقع أن الرجل الذي أرسى مكانة بريطانيا الريادية في هذا المجال كان يتمتع بشخصية قوية. ارتقى ريتشارد أوف والينغتون إلى منصب الرئيس الديني الأعلى لدير سانت ألبانز في العشرينيات من القرن الرابع عشر، واستخدم أموال الدير لبناء ساعة عملاقة توحدت فيها وظائف الآلات الفلكية والساعة الميكانيكية حديثة الابتكار. بالإضافة إلى عرض التوقيت بالساعة، كان ابتكار والينغتون يُظهر مواقع الأجرام السماوية في الوقت الحقيقي، ويستشرف أوقات خسوف القمر، ويبين أوقات حدوث المد والجزر.
اشتكى رفاقه من رجال الدين بعضهم إلى بعض من تكلفة ما رأى فيه بعضهم على ما يبدو مشروعًا عقيمًا في وقت كانت الكنيسة فيه تحتاج إلى أعمال إصلاح. بل إن الملك إدوارد الثالث أيضًا تساءل مشككًا عن النفقات عندما قصد الدير. لكن ريتشارد كان يمتلك إجابة جاهزة يرد بها على الاعتراض الملكي. أجاب ريتشارد بكل احترام، قائلاً بوصفه مؤرخ عمليات إعادة إحصاء الأصوات في الدير الذي يرأسه: «إن عددًا كافيًا من رؤساء الدير الذين سيخلفونه سيجدون ما يكفي من العمال لإصلاح البنية التحتية للدير، لكن لا خلف له بعد موته سيكون قادرًا على إتمام العمل الذي بدأه.» لكن ما حدث هو أن بناء الساعة اكتمل أخيرًا بعد انقضاء عقود على وفاته، وظلت الساعة تشكل رائعة تحظى بالإعجاب إلى أن حل هنري الثامن الأديرة كافة.
" يعد سميث البالغ من العمر تسعة وأربعين عاما الرئيس الأعلى
لصناعة الساعات البريطانية الراقية التي تكسب كل يوم أتباعا جددا. "
في تلك الحقبة العظيمة التي شهدت التفاف العظماء من أصحاب العقول حول بلاط الملك تشارلز الثاني، كان روبرت هوك ليشكل فيلسوف عصره الطبيعي الأكثر شهرة لو أن إسحاق نيوتن لم يولد قط. فعلى ما حدث آنذاك، يبدو أن هوك سريع الغضب أمضى جزءًا كبيرًا من حياته في الدفاع عن سمعته. فقد آمن بأنه توصل إلى مفهوم الجاذبية قبل نيوتن، وإلى نابض ميزان الساعة قبل الهولندي كريستيان هوغنس. في ستينيات القرن السابع عشر، قدم مجموعة من الساعات إلى الجمعية الملكية حديثة الإنشاء التي كان يشغل فيها منصب القيّم على التجارب والتي كان هوغنس زميلاً له فيها. لكن يبدو أنه لما يكن يمتلك بعد نموذجًا اختباريًا صالحًا عندما كشف هوغنس عن ساعته بحلول عام 1675.
بغض النظر عمن كان السبَّاق إلى تطوير نابض الميزان، فإن هذا الابتكار ساهم في تحسين دقة الساعة المحمولة من فارق ساعة واحدة زيادة أو نقصانًا إلى أربع دقائق أو خمس دقائق فقط. جسّّد نابض الميزان، الذي لا ينفك يُستخدم اليوم في الساعات الميكانيكية الحديثة، قفزة هائلة إلى الأمام تضاهي القفزة من الحواسيب المركزية الأولى إلى الهاتف الذكي. بحلول أواخر القرن، كان نابض الميزان يُستخدم على نطاق واسع ويحظى باستحسان بالغ إلى الحد الذي دفع بصانع الساعات البريطاني الآخر دانيل كوير لإضافة التحسين غير الضروري حتى ذلك الحين والمتمثل بمؤشرات الدقائق في الساعة.
ساعة Series 4 من سميث.
تمثل التطوير العظيم التالي في الساعات دقيقة الأداء بساعة كرونوميتر بحري ابتكرها جون هاريسون، وأحسنت دافا سوبيل سرد قصتها في كتابها Longitude، ما وضع هاريسون، الرجل ذا النزعة الفردية الذي تعلم ذاتيًا، في مواجهة النخبة العلمية بسبب استخدامه ساعات فائقة الدقة لدعم الملاحة ضمنت الهيمنة الكاملة للقوات البحرية البريطانية على البحار. وفي القرن التاسع عشر، تحولت بيغ بن، التي تشتهر باسمها الساعة العظيمة لمباني البرلمان البريطاني، إلى الرمز في عالم الساعات لأعظم إمبراطورية في العالم، وإلى مأثرة صناعية وتقنية تنبعث دقاتها بدقة ثانية واحدة في كل ساعة.
لا شك في أن التغاضي عن التطورات العظيمة التي تحققت في عالم صناعة الساعات في فرنسا وسويسرا قد يعكس شعورًا وطنيًا إلى حد الغباء. لكن بحلول مطلع القرن العشرين، بقيت بريطانيا تشكل مركزًا لعالم صناعة الساعات بالقدر الكافي لحث شاب ألماني يُدعى هانز ويلسدورف على أن يؤسس في لندن شركته الناشئة لساعات المعصم. وفيما كان يتنقل على متن واحدة من حافلات لندن، ابتدع الاسم رولكس. على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كان ج. ب. مورغان، نابليون وول ستريت الشهير بنزعته إلى الاستحواذ، يؤثر الساعات ذات التعقيدات التي يبتكرها الصانع الإنكليزي فرودشام. عندما طلب مورغان ثلاث سيارات متماثلة من رولز – رويس بُنيت له بين عامي 1911 و1912، كانت كل واحدة من المركبات تزهو بساعة من فرودشام. وكان بمقدور الشركاء الجدد في مصرفه أن يتوقعوا إهداءهم نماذج من ساعة توربيون هيكلية بديعة من فرودشام معززة بوظيفتي معيد الدقائق وكرونوغراف أجزاء الثانية.
ساعة الجيب كارتر من ستروثيرز، وتحتضن معيارا حركيا إنكليزيا عتيق الطراز من ثمانينيات القرن التاسع عشر أعيد طلبه خصيصا لهذه الساعة.
لكن بحلول مطلع سبعينيات القرن الفائت، عندما بدأ جورج دانيلز بتصنيع أولى ساعاته، كانت صناعة الساعات البريطانية قد اندثرت نوعًا ما، حتى أن شركة Smiths العظيمة، المصنعة للساعات ولآلات لوحات التحكم في السيارات، أوقفت أيضًا إنتاجها المحلي بحلول عام 1979. لكن نهاية صناعة الساعات الميكانيكية على نطاق واسع لم تكن تعني هلاك صناعة الساعات البريطانية. جل ما في الأمر أنها باتت رفيعة المستوى. على سبيل المثال، في تلك الحقبة تقريبًا برز أنثوني راندال، صانع الساعات الحقيقي الذي شكل محط ثقة صناع الساعات الآخرين، بوصفه عالمًا رياديًا في مجال صناعة الساعات. كان راندال صانع ساعات وعالم فيزياء في الوقت نفسه، واشتهر بأبحاثه حول مضبط الانفلات ثابت القوة، وفهرسته لأهم ساعات الكرونوميتر البحري في المتحف البريطاني.
كان دانيلز أيضًا، شأنه في ذلك شان راندال، أكثر من حرفي متمرس وصانع لمجموعة صغيرة من الساعات المتميزة، إذ كان مبتكرًا قادرًا على إعادة صياغة أسس صناعة الساعات من خلال مضبط الانفلات ثنائي المحاور الذي ابتدعه، والذي نظر إليه الصناع في هذا القطاع مشككين، على ما هو متوقع، في النهج البريطاني المتمرد، إلى أن قرر الرجل المتبصر نيكولا حايك، مؤسس مجموعة سواتش، دعمه. اليوم يشكل هذا الابتكار مجازيًا وفي عالم الساعات القلب النابض لعلامة أوميغا التي أعيد بعثها حديثًا.
" «إن الساعات كافة التي ننتجها تبتكر بحسب الطلب.
بدأنا بهذه الخطوة بداعي الضرورة، لأننا لم نكن قادرين على تمويل عملنا.» "
بحلول مطلع القرن الحالي، كان دانيلز قد تحول إلى شخصية مرموقة، فيما بات «كوخه» في جزيرة آيل أوف مان يشكل «محجة» يزورها أولئك الراغبون في تبجيل صناعة الساعات البريطانية رفيعة الطراز. وقد تجاوز التأثير الذي حققه دانيلز في عمله حدود المملكة المتحدة، فألهم جيلاً جديدًا من صناع الساعات الذين مثَّل لهم دانيلز بديلاً عن قطاع تتزايد هيمنة الشركات عليه. وضمت قائمة أبرز تلامذته ف. ب. جورن الذي سُميت تيمنًا به علامة الساعات الحصرية المرموقة في جنيف والتي تمتلك دار شانيل اليوم جزءًا منها. في عام 2010، أي في السنة التي سبقت وفاة دانيلز، ترأس جورن حفل عشاء أقيم في لندن تكريمًا لشيخ صناعة الساعات البريطانية.
حظي دانيلز أيضًا بتابع بريطاني تمثل بصانع الساعات الشاب والموهوب روجر و. سميث الذي انتقل عام 1998 ليعيش في جزيرة آيل أوف مان بغية العمل مع دانيلز على سلسلة ساعات ملينيوم Millennium. بالرغم من أن هذه السلسلة لا تقارب بأي شكل من الأشكال مستوى التعقيد في الساعات التي ابتكرها دانيلز منفردًا، إلا أنها كانت أكثر أهمية على ما يُزعم، أولاً لأن دانيلز، الشهير بسقف توقعاته العالي، عثر على شخص شعر بأنه يستطيع التعاون معه، وثانيًا لأن هذا الإنجاز شكل ساعة معصم طُورت في طرز تسلسلية أكثر منه ابتكارًا يليق بمتحف أو بهواة جمع الساعات. ومنذ ذلك الحين، تحول هذا الابتكار إلى جائزة للتمييز بين جامعي الساعات. فقد بيعت إحدى هذه الساعات المتسلسلة في مزاد عقدته دار سوذبيز في شهر سبتمبر أيلول الفائت مقابل 200 ألف جنيه إسترليني، أو ما يعادل نحو 250 ألف دولار.
بعد انقضاء عقدين من الزمن، بات روجر سميث، حامل وسام الإمبراطورية البريطانية، صانع ساعات راقية يغلب عليها طابع جمالي متقدم يُعزى الفضل فيه إلى دانيلز. كما أنه يُعد اليوم سفيرًا رائعًا لنهضة صناعة الساعات التي تشهدها الجزر البريطانية. كان لي شرف الخدمة معه في لجنة تحكيم الجائزة الكبرى للساعات في جنيف، حيث ملاحظاته المرحة والمتبصرة تحظى دومًا بآذان صاغية وتلقى الاحترام والاهتمام.
ريبيكا ستروثيرز تصنع موانئ للساعات بوساطة مكبس كان صناع الجواهر يستخدمونه في القرن التاسع عشر.
في حين كان دانيلز أقرب إلى ناسك ينشر تعاليمه في ما بدا على الأرجح آنذاك صحراء عالم صناعة الساعات، فإن سميث البالغ من العمر تسعة وأربعين عامًا يُعد الرئيس الأعلى لصناعة الساعات البريطانية الراقية التي تكسب كل يوم أتباعًا جددًا.
انضمت اليوم إلى ساعات المعصم من دانيلز وسميث ساعة معصم من تشارلز فرودشام، العلامة البريطانية التي كان ج. ب. مورغان يخصها، قبل ما يزيد على قرن من الزمن، بأعلى أمارات التقدير. مثَّلت علامة فرودشام، التي تحمل اسم مؤسسها في عام 1834، واحدًا من الصناع البريطانيين القلائل الذين قُدر لهم الاستمرار في نشاطهم. باتت هذه العلامة تخضع الآن لملكية ريتشارد ستينينغ وفيليب وايت، وقد وجدت لها موطئ قدم في سوق ساعات المعصم التي تلقى استحسان الخبراء بهذه الصناعة، وذلك من خلال ساعة Double Impulse Chronometer التي تشكل ابتكارًا بريطانيًا بامتياز، متحفظًا بخطوطه الخارجية بقدر ما هو جسور بآليته. نجحت هذه الساعة في تقديم نموذج مصغر عن مضبط الانفلات الأسطوري ثنائي العجلة الذي كان قد ابتكره دانيلز، فبات حجمه يتيح تثبيته داخل ساعة معصم. تكمن فائدة مضبط الانفلات في كونه يؤدي مهمته دون تزييت، ومن ثم بمعزل عن التأثيرات الضارة على أداء الكرونوميتر التي تنشأ بمرور الوقت بسبب تحلل مواد التشحيم. لا يزيد عدد الساعات التي تُنتج سنويًا من هذا الطراز على اثني عشر نموذجًا. وفي الوقت المتبقي، يركز محترف فرودشام على أعمال الاستعادة، وساعات المكتب المحمولة، فضلاً عن بناء نسخ من الساعات المحددة لخطوط الطول في البحر التي طورها هاريسون.
شكلت أعمال الاستعادة أيضًا الدرب الذي أفضى بالزوجين كريغ وريبيكا ستروثيرز إلى وضع توقيعهما على ساعات تبصر النور في محترفهما. توضح ريبيكا قائلة: «لم تكن لدينا خطة عظيمة ما لبناء اسم لصانع ساعات مستقل. قررنا إنشاء محترف لاستعادة الساعات التي تُباع في المتاجر، وكان جزء كبير من عملنا يتركز على ساعات حملها أصحابها إلى صناع للساعات رأوا أن استعادتها مستحيلة.»
ساعة Kingsley MKII القابلة للتصنيع بحسب الطلب.
لم يجد الزوجان ستروثيرز نفسيهما يطوران ساعة إلا عندما وقعا على مسابقة للتصاميم، فتقدما بتصميم لساعة وحققا الفوز في المنافسة. تقول ريبيكا: «اضطررنا إلى بناء الساعة في غضون عشرة أسابيع.» انطلق الزوجان، متسلحين بما تعلماه من هذه التجربة، في مشروع تعاوني مع علامة مورغان المتخصصة في السيارات الرياضية لتطوير ساعات استُلهمت من حقبة الحرب العالمية الأولى وبُنيت باستخدام معايير حركية من أوميغا أعيد طلبها لهذه الغاية. وسَّع الزوجان لاحقًا نطاق هذه المقاربة لتشمل برنامجًا للساعات المبتكرة بحسب الطلب يركز على التصاميم الرئيسة ويتبنى الخطوط نفسها التي ميزت نظام الاشتراك لدى بريغيه. وفي هذا تقول ريبيكا: «إن الساعات كافة التي ننتجها تُبتكر بحسب الطلب. بدأنا بهذه الخطوة بداعي الضرورة، لأننا لم نكن قادرين على تمويل عملنا. كما أنها تُبقي العمل مثيرًا للاهتمام وحديثًا، لأن المرء يمل عندما يكرر العمل اليدوي نفسه.»
وإذ راح نشاط آل ستروثيرز يزدهر، بدآ العمل على معيار حركي تعود ملكيته إليهما. تقول ريبيكا: «لم نتزود من المصادر الخارجية سوى بالأحجار الكريمة، والنابض الشعري، والنابض الرئيس. إننا نقوم بهندسة عكسية لمعيار حركي يعود إلى تسعينيات القرن التاسع عشر التي تشكل الحقبة المفضلة لدينا في مجال صناعة الساعات. وقد استعرنا لقاعدتنا أول معيار حركي صُنع بأكمله آليًا في المملكة المتحدة، واستخدمنا مضبط انفلات إنكليزيًا مجهزًا بذراع ابتكره توماس هيل، صانع الساعات في مدينة كوفنتري.»
الجميل في انبعاث صناعة الساعات البريطانية هو أنها تتحلى على ما يبدو بقوة تضمن لها الاستمرار.
تجسّد دار بريمونت قصة النجاح الرائعة لصناعة الساعات البريطانية في القرن الحادي والعشرين. أطلقت الدار ساعتها الأولى في عام 2007، واليوم تدير منشأة في منطقة تيمز فالي ذات المناظر الطبيعية الآسرة يعمل فيها 150 موظفًا. تشكل بريمونت، التي أسسها نك وجيل إنغليش، اسمًا رائدًا في الطرف الصناعي من السوق وليس الحصري. في حين يمكن لمحترف عالي التخصص أن يبني نحو اثنتي عشرة ساعة في السنة الواحدة، تصنع بريمونت 12 ألف ساعة، وتمتلك الإمكانات لبناء عدد أكبر من ذلك بكثير. اشتهرت الدار بساعاتها المبتكرة، على غرار تلك التي تحتضن أجزاء صغيرة من سفن ومركبات وطائرات (مثل طائرتي رايت فلاير وكونكورد). لكن هذه الساعات باتت اليوم تشكل أقلية ضمن إصدارات الدار التي افتتحت متاجر خاصة بها في لندن، وهونغ كونغ، وميلبورن، ونيويورك.
المقر الرئيس لدار بريمونت في هينلي – أون - تيمز.
كانت بريمونت ضحية لسوء فهم نشأ قبل خمس سنوات عندما أعلنت بحماس مفرط عن معيار حركي «من ابتكارها» في حين كان استخدام لغة أقل طموحًا ليبدو ملائمًا أكثر. فالواقع أن المعيار الحركي كان نتيجة تعاون الدار مع شركة لا جو-بيريه، المورد المتخصص الذي يزود كثيرًا من العلامات بالمعايير الحركية. لكن بالرغم من ذلك، تبقى بريمونت عازمة على الإتيان بمعيار حركي خاص بها تطوره اليوم في المملكة المتحدة، مستعينة في سبيل ذلك بخدمات مصمم المعايير الحركية والمدرس السابق في مجال صناعة الساعات ستيفن ماك دونل، مجتذبة إياه بعيدًا عن سويسرا.
يقول نِك إنغليش: «إننا جميعًا شغوفون بإعادة إحياء صناعة الساعات هنا. وإلا ما كنا لنبني هذا المصنع ونطور هذا المعيار الحركي. إذا استطعت مع جيل أن ننظر بعد عشرين عامًا من الآن إلى الوراء ونقول إن بريمونت اضطلعت بدور في إعادة تقديم صناعة الساعات، فإني سأشعر بأننا حققنا إنجازًا ما.» وفي الحديث عن خطط الدار النهائية الهادفة إلى تصنيع أربعين ألف معيار حركي في العام الواحد، يقول نِك إن عمليات بهذا الحجم «لم تتحقق منذ عهد مجموعة Smiths» التي أُقفلت منذ نحو نصف قرن. من يدري؟ ربما ستتمكن بريمونت من بيع معاييرها الحركية لعلامات أخرى، وربما تبيعها يومًا لعلامة سويسرية أيضًا.
تعمل شركة بريطانية أخرى مع عدد من أشهر العلامات المركزية في سويسرا. ففي عام 2003، صنع جورج بامفورد، سليل الإمبراطورية المتخصصة في تطوير مركبات JCB المستخدمة في مشاريع البناء، ساعته سوداء اللون الأولى عبر طلاء ساعة من طراز Rolex GMT-Master باستخدام مادة DLC الكربونية. وسرعان ما انتقل بامفورد إلى علامات أخرى، لتتحول هذه الساعات المصقولة باللون الأسود إلى توجه شائع حققت من خلالها شركة Bamford Watch Department شهرة عالمية. منذ ذلك الحين، تحولت تلك النماذج المعدلة الأولى في سوق الساعات المستعملة إلى مطلب هواة جمع الساعات الرياضية الحديثة والمعاصرة.
ساعة H-4 Hercules Limited Edition من بريمونت.
الواقع أن هذه الساعات حققت نجاحًا بالغًا إلى الحد الذي جعل اسم بامفورد يجتذب انتباه دور الساعات التي تبنت في معظمها وجهة نظر قاتمة تجاه ما رأت فيه «بهرجة» لساعاتها. لكن قائدًا صناعيًا نافذًا واحدًا تبنى في المقابل موقفًا مغايرًا. فجان-كلود بيفر، الرجل المتمرد ونافذ البصيرة الذي سجل نجاحات ملحوظة من خلال إعادة إطلاق دار بلانبان وإحداث تغيير جذري في دار هوبلو، آمن بأنه يستطيع العمل مع بامفورد لوضع خبرته في مجال إضفاء طابع شخصي على الساعات في متناول الزبائن الرسميين لعلامتي تاغ – هوير وزينيث اللتين بات يدير دفتيهما. وقد نص اتفاق نبيل جمع بين الاثنين على ألا يتولى بامفورد بعد ذلك أي مشاريع غير رسمية لتعديل الساعات. اقتنص بامفورد هذا الطرح واغتنم الفرصة بعد سنتين لإنتاج ساعات تحمل اسم علامته الخاصة، مطلقًا سنة 2018 ساعة Bamford GMT التي تزهو بطابع متمايز.
لكن مصادقة بيفر هي ما وضع اسم بامفورد حقيقة على الخارطة الرسمية لصناعة الساعات. وإذ يعود بامفورد بالذاكرة إلى الوراء، يقول: «التقينا للمرة الأولى عام 2015. حضر بيفر إلى المكتب وقال إن علينا التعاون معًا. صعقني الأمر آنذاك. فقد حضر عرّاب قطاع الساعات السويسرية إلى مكتبي. كانت تلك لحظة يصعب تصديقها. وبعد انقضاء عام واحد، أعلنا عن أن شركة BWD باتت الشريك الرسمي لزينيث ثم لتاغ هوير في ما يخص إنتاج ساعات تُصنع بحسب الطلب. في معرض بازل لعام 2018، قدمنا أول إصدار محدود تعاونا على ابتكاره، وتمثل بساعة من طراز موناكو مشغولة في علبة من الكربون طُرحت في إصدار من 500 نموذج، وبيع عدد كبير منها قبل نهاية المعرض.»
البريطانيون قادمون، على ما قال كولن ويلاند.
الكتاب الأخير لنيكولاس فاولكس، Time Tamed: Remarkable Story of Humanity’s Quest to Measure Time
«أو ترويض الوقت: القصة الرائعة لسعي الإنسان إلى قياس الوقت»، من دار النشر سايمون آند شوستر في المملكة المتحدة.