توثق دار جاكيه درو استمرار إرث مؤسسها
الأول بمجموعة من التماثيل آلية الحركة التي تخطف الأبصار والأنفاس.
يمتهن مصنع جاكيه درو إنتاج الساعات الميكانيكية على نطاق صغير، متخذًا من منطقة جبال جورا في سويسرا مقرًا لنشاطاته. أما اسم الدار، فمستمد من اسم واحد من الصنّاع الذين خلَّفوا في هذا القطاع إرثًا تاريخيًا بالغ التطور من الناحية التقنية وإن كان لا يحظى بقدر كاف من الاهتمام. يسترجع كريستيان لاتمان، الرئيس التنفيذي للدار، مآثر المؤسس بيار جاكيه - درو وابنه هنري، اللذين أفلحا حقًا في استثارة الشعور بالانبهار لدى الطبقة الأرستقراطية في أوروبا في أواسط القرن الثامن عشر من خلال تطويرهما مجموعة معقدة من التماثيل الميكانيكية آلية الحركة التي جعلاها قادرة على الرسم والكتابة، بل والعزف على آلة موسيقية. يقول لاتمان: «كانت الفكرة التي تكمن وراء مسعى الصانعين تتمثل في إثارة انفعال يطيب لي أن أسميه الشعور بالانبهار».
لكن توصيف لاتمان قد ينطبق بسهولة أيضًا على نشاطات جاكيه درو اليوم. فالدار التي عادت إلى مزاولة نشاطها عام 2000 تحت مظلة مجموعة سواتش للساعات، ابتكرت منذ ذلك الحين، إضافة إلى الساعات، عجائب ميكانيكية ضخمة. وإذ تعيد الدار اليوم تأكيد التزامها المستمر في تطوير التماثيل آلية الحركة، تكشف عن ابتكارين جديدين مثيرين للإعجاب هما آلة الصفير The Whistling Machine وآلة التوقيع The Signing Machine.
«يمكن النظر إلى آلة التوقيع The Signing Machine بوصفها أداة مكتب
ملائمة لشخص يحتاج باستمرار إلى تذييل أوراق كثيرة بتوقيعه».
يقول لاتمان: «إننا نلاحظ الطلب المرتفع على هذه الابتكارات المتفردة. لكن ابتكارها لا يتعلق باستراتيجية ما فحسب، وإنما بروح نريد أن نعكسها. قلة من الأفراد فقط يعرفون علامتنا. لذا، فإن كل ابتكار مذهل نأتي به، على غرار آلة التوقيع، يقوم مقام سفير»، أي إنه يعبِّر عما يميز إبداعات الدار من مقدرة على إثارة الدهشة والإبهار.
في العهد الحديث لجاكيه درو، أُنتجت هذه العجائب الميكانيكية، التي كانت كفيلة بأن تشكِّل مدخلاً إلى المحادثات والحوارات، في أحجام مختلفة. لم يكد يمر بعض الوقت على إعادة هيكلة الدار، حتى شرع المهندسون لديها في العمل على آلة تسجيل الوقت بالكتابة The Time Writing Machine. كانت تلك آلة معقدة صُنعت بارتفاع قدمين تقريبًا وتراكبت فيها كامات ونوابض وأذرع رافعة تئز وتدور عند تشغيل الآلة، موجهة ذراعًا ميكانيكية إلى تسجيل الوقت على قصاصة من الورق. استغرق إنجاز هذا المشروع سنوات عدة، وكُشف النقاب عن الآلة في حلتها النهائية في عام 2009.
على الرغم من أن آلة التوقيع صغيرة الحجم بما يكفي لنقلها من مكان إلى آخر، إلا أن فيها من
الوزن ومن اللمسات الحديثة المصقولة ما يوحي بقيمتها ومستوى تعقيدها.
عمدت الدار لاحقًا إلى إحياء ذكرى التماثيل الميكانيكية الأصلية التي أبدعها المؤسس جاكيه - درو في ابتكاراتها من ساعات المعصم، في مجموعة متسلسلة من ساعات معيد الدقائق التي أثرت موانئها تماثيل ميكانيكية تتحرك كلما انطلق معيد الدقائق معلنًا الوقت. تمثّل الابتكار الأكثر إثارة للانبهار في ساعة Charming Bird التي كُشف عنها عبر مراحل تدريجية بين عام 2013 وعام 2015. تتزين هذه الساعة بطائر ينبض بالحياة، زُخرفت تفاصيله بكثير من الدقة والتأني، وضمنت له آلية خاصة القدرة على أن يصفر ويصفّق بجناحيه عند الطلب. تشكّل الساعة من الناحيتين الجمالية والميكانيكية نسخة تقريبية من صندوق الطيور المغردة الذي طوَّره بيار جاكيه - درو وابنه، والذي قلّده كثير من صنّاع الساعات المعاصرين لهما.
أما آلة الصفير (سعرها 157٫500 دولار) التي تطرحها الدار هذا العام، فتجسّد مشروع إعادة بناء المعيار الحركي لساعة Charming Bird في نسخة أكبر حجمًا. تعتمد آلة الصفير، شأنها في ذلك شأن نماذج سابقاتها التاريخية، على استخدام أسطوانة هوائية ومكبس لإنتاج الصوت. عند جامعي الساعات الحديثة ممن سئموا رؤية الآلات الميكانيكية التقليدية نفسها المستخدمة في الساعات النموذجية، تُعد الآلات الميكانيكية التي ينبض بها قلب آلة الصفير ابتكارًا حديثًا وآسرًا. أضف إلى ذلك أن آلة الصفير، التي يقتصر إنتاجها العالمي على ثمانية نماذج، تحمل ميزة إضافية، شأنها في ذلك شأن العجائب الميكانيكية الأخرى التي تزداد شعبيتها. فمزيجها الساحر من المزايا المتفردة يشتمل أيضًا على عنصري العرض والمشاركة.
حملت الآلات الميكانيكية التي اشتملت عليها يد تمثال
The Musician «الموسيقار» في القرن الثامن عشر بشائر أنظمة التحكم الحديثة بالرجال الآليين.
لكن الشعور بالانبهار الذي تستثيره هذه الابتكارات الحديثة يخمد إذا ما قارناها بثلاثية التماثيل الميكانيكية الأقرب إلى الواقعية التي ابتكرها الأب وابنه في القرن الثامن عشر، وتحديدًا في مدة قصيرة نسبيًا امتدت بين عام 1759 وعام 1774، بالتعاون مع جان-فريدريك ليشو. فالتماثيل الثلاثة، أي الكاتب The Writer، والرسام The Draughtsman، والموسيقار The Musician، رسَّخت شهرة جاكيه درو على مستوى التفوق في الصناعة الميكانيكية، إذ إنها كانت تؤدي مهام من واقع الحياة على غرار تدوين الملاحظات، ورسم صور واضحة التفاصيل، والعزف على آلة بيان مصغرة.
يشكل التمثال الميكانيكي The Magician «الساحر» الذي طرح عام 2002 ثمرة
تعاون بين فرانسو جونو ودار جاكيه درو، وهو يستخدم نظاما من الكامات للتحكم في حركة التمثال.
كان نطاق الإنجازات الميكانيكية التي بعثت الحيوية في التماثيل الثلاثة، آنذاك، يُعد ثوريًا. فالشركاء الثلاثة الذين أبدعوا هذه التماثيل عكفوا على تحليل الحركات الواقعية للكاتب والرسام والموسيقار، ونجحوا في استنساخها باستخدام أنظمة تتسع لها أجسام أولئك الرجال الآليين الأوائل. أما الدماغ الميكانيكي الذي يتحكم في الحركة، فكان مجموعة من الكامات الفولاذية الدوارة التي يحفّز كل منها جزءًا من النظام الحركي ويقيِّده. كان بالإمكان تعديل هذه الكامات واستبدالها على نحو يتيح في كل مرة تغيير الملاحظة المكتوبة أو اللوحة المرسومة، أو المعزوفة. وبينما كان الغرض، آنذاك، من تلك التماثيل ترفيهيًا، إلا أن خيطًا رفيعًا، إنما واضح المعالم، يربطها بمستوى فهمنا اليوم لعلوم صناعة الرجال الآليين وأنظمة الحاسوب.
كان تمثال الكاتب The Writer الابتكار الأكثر تعقيدا الذي أبدعه بيار جاكيه-درو،
وقد اشتمل على أكثر من 3٫500 مكون.
تزهو العجائب الحديثة التي تبتكرها اليوم دار جاكيه درو بالروح الميكانيكية نفسها التي ميَّزت سابقاتها، إذ تستخدم فيها بنى وتقنيات تقليدية. كما أن كثيرًا منها يتشارك ميزة مهمة أخرى تتمثل في بصمة الصانع المستقل فرانسوا جونو الذي يعود بدء تعاونه مع الدار إلى تاريخ إعادة تأسيسها سنة 2000. يختص جونو، المقيم في سان كراو بسويسرا، في تصنيع التماثيل الميكانيكية آلية الحركة، مجسدًا في هذا المجال الموهبة الحية الأقرب إلى بيار وهنري-لويس جاكيه - درو. لا شك في أن الأعمال التاريخية للثنائي قد خلَّفت بطبيعة الحال تأثيرًا عميقًا في نفس جونو وفي بعض آلاته الخاصة، ومن بينها التمثال الميكانيكي آلي الحركة الذي يتكون من 3٫548 جزءًا، والذي يجسّد الشاعر ألكسندر بوشكين (يمكن للتمثال تدوين ما مجموعه 1٫458 قطعة شعرية مختلفة). تُعد موهبة جونو، كما ابتكاراته، نسخًا تقريبية مطورة من إنجازات الأب جاكيه - درو وابنه. لكن فرانسو جونو يُعد أيضًا فنانًا حقًا. بل إن كثيرًا من أعماله ينحو بعيدًا عن المسارات التقليدية التي وُضعت أسسها في القرن الثامن عشر. فجونو يثمِّن الحواسيب والرجال الآليين، ويعتقد أنها ستشرع أمامه دروبًا جديدة للمضي قدمًا بحرفته.
تشكل المساعي الحديثة خلفية لبرنامج الأعمال الفنية المكثف الذي أطلقته دار جاكيه درو.
تشكّل آلة التوقيع (يبدأ سعرها من 367٫500 دولار) مشروع تعاون آخر بين جونو ودار جاكيه درو، وقد يصح النظر إليها بوصفها رابطًا بين عالمين يقعان على طرفي نقيض، أي الإبداع الفني التاريخي والتقنية المستقبلية. تُعد الآلة عصرية في الشكل والأداء الوظيفي، ويمكن جعلها أداة مكتب ملائمة لشخص يحتاج باستمرار إلى تذييل أوراق كثيرة بتوقيعه. على الرغم من أنها صغيرة الحجم بما يكفي لنقلها من مكان إلى آخر، إلا أن فيها من الوزن ومن اللمسات الحديثة المصقولة ما يوحي بقيمتها ومستوى تعقيدها.
في المقابل، ثمة أوجه شبه كثيرة بين الآلات الميكانيكية التي تستوطن الجزء الداخلي من هذه الآلة والتماثيل الحركية التقليدية التي ابتكرتها دار جاكيه درو قديمًا. فالحركة الانسيابية التي تميز الذراع المسؤولة عن كتابة التوقيع تحتكم إلى كامات، شأنها في ذلك شأن التماثيل التاريخية. وكما هو متوقع من آلة للتوقيع، لا بد من تعديل كل نموذج منها جماليًا وميكانيكيًا. سيتولى جونو تصميم الكامات لاستنساخ توقيع كل زبون، وستقوم دار جاكيه درو بحفظ مخططات التصميم في مكان آمن نظرًا لحساسية هذه المهمة.
في ظل الاهتمام البالغ بهذه الابتكارات الخاصة، يبدو أن جاكيه درو قد وجدت مساحة للازدهار دون التنكر لإرث مؤسسيها. يقول لاتمان: «منذ أكثر من 250 عامًا، حاولت دار جاكيه درو أن تتخذ من الإبداع وسيلة للتميز عن الصنّاع الآخرين. وها نحن اليوم نتمسك بهذه الروح المتفردة نفسها والقائمة على الإبهار. إنها روح ابتكار التماثيل الميكانيكية آلية الحركة».