تشكل الساعات المبتكرة على قياس الذائقة الشخصية المطلب الأقصى والأمثل لهواة ما عادوا يكتفون بالنوادر. يحكي جامع الساعات مارك تشو عن الرحلة الطويلة من تاريخ طلب ساعته الشخصية إلى لحظة اكتمالها والكشف عنها.
ما تشاهدونه في هذه الصور يجسّد على الأرجح واحدة من آخر الساعات التي سيبتكرها كريستيان كلينغز. لكن ما يصعب تصديقه هو أن ملكيتها تعود لي شخصيًا.
كريستيان، المتحدر في الأصل من ألمانيا الشرقية، على ما كانت تُعرف أيام شبابه، صانع ساعات.
إنه لا يمثّل علامة، أو شركة، أو فريقًا من الحرفيين. بل إن العمل على هذه الساعة اقتصر عليه شخصيًا، أو بمعنى أدق على يديه، وبعض الأدوات، وحجارة من الياقوت الصناعي، وكتل من الفولاذ المقاوم للصدأ. تشاركنا تصميم الساعة ولم نخترها من طُرز سابقة.
منذ ذلك الحين، بات كريستيان شبه متقاعد. في مساره المهني الممتد على 50 سنة تقريبًا، ابتكر ما مجموعه 33 ساعة فقط، وساعتي تشكل ابتكاره الثلاثين. لكنها لم تتحقق مصادفة، بل كانت ثمرة مزيج من الذائقة الهاوية للساعات والعلاقات.
في عام 2018، نظمت دار فيليبس للمزادات عرضًا استباقيًا في هونغ كونغ شمل معرضًا لابتكارات صنّاع الساعات المستقلين نسّقه كلوديو بروييتي من غاليري ماكسيما. كانت الساعات المعروضة رائعة، وتكشف عن مستوى رفيع من البعد الجمالي والحس العبقري. آنذاك، استأثرت ساعة محددة باهتمامي: كانت ساعة بسيطة التصميم بثلاثة عقارب من ابتكار كريستيان كلينغز. طلبت الإذن لأحملها بين يديّ، وانتابني للمفاجأة شعور بأني عرفت هذه الساعة من قبل.
بوصفي مؤسس مشارك في علامة آرموري Armoury للأزياء الرجالية في هونغ كونغ ونيويورك، يقتضي جزء من مهامي تمثيل حرفيين من مختلف أنحاء العالم - تحديدًا من فلورنسة وميلانو، ونابولي، وطوكيو، وكوبي، وأوساكا – يبتكرون منتجات بحسب الطلب، فأقوم بتكليفهم ببعض المشاريع لصالح زبائني.
يتخصص كل من هؤلاء الحرفيين في مجال محدد، من حياكة الأزياء في فلورنسة ونابولي، إلى صناعة الحقائب والنظارات في اليابان. لكن القاسم المشترك بينهم جميعًا هو العمل اليدوي، والعيوب الدقيقة التي تشوب المنتجات المصنّعة حقيقة يدويًا.
أعتقد ألا شيء يعلو فوق اقتناء منتج تأنت الأنامل في ابتكاره. ذاك اليوم في المعرض الاستباقي لمزاد دار فيليبس، منحتني ساعة كريستيان ذاك الشعور نفسه بالانبهار الذي اختبرته مرات عدة من قبل فيما كنت أعمل مع أفضل الحرفيين لابتكار منتجات تخصني أو تخص زبائني.
أدركت أني أحمل بين يديّ ابتكارًا مميزًا. صحيح أني أجمع الساعات منذ 16 عامًا، وفكرت مرارًا في غضون ذلك في التفويض إلى صانع مهمة ابتكار ساعة شخصية لي، إلا أني لم أشعر بالدافع الحقيقي للإقدام على هذه الخطوة إلا عندما قابلت كريستيان.
مسيرة شغف
وُلد كريستيان سنة 1957 في دريسدن، التي كانت تابعة آنذاك للجانب الشيوعي من ألمانيا. وما كاد يبلغ الخامسة من العمر، حتى بدأ يكشف عن بدايات موهبة خام أحسن تنميتها لاحقًا. كان كريستيان يسلّي نفسه بتفكيك الساعات المنبّهة وساعات الجيب وإعادة جمعها. آنذاك، كان له جار ودود يعمل في مصنع مجاور لتشكيل المعادن، فزوّده بالأدوات وببعض الإرشادات. وسرعان ما شرع، بالتعاون مع صديق له، في تفكيك الدراجات النارية وإعادة بنائها وصيانتها (إنها مصادفة لافتة أن تكون الدراجات النارية محط اهتمام مشترك بين العديد من العظماء في قطاع صناعة الساعات مثل جورج دانيلز وديريك برات).
بعد إتمام الدراسة الثانوية، أصبح كريستيان متدربًا عند أحد صناع الساعات في دريسدن حيث راح يصلح ويستعيد الكثير من ساعات الحائط المعقدة، وساعات الجيب والمعصم التي أُدخلت إلى ألمانيا الشرقية في مرحلة ما قبل تأسيس الدولة الشيوعية.
كان كريستيان توّاقًا للغاية إلى استكشاف العالم الخارجي، وانتقل في نهاية المطاف إلى ألمانيا الغربية ثم إلى كاليفورنيا حيث أقام عشر سنوات وبدأ يبتكر الساعات بموازاة الاستمرار في مشاريع استعادة كثيرة كانت محط استحسان واسع النطاق. وفي عام 2000، بعد مرور عقد كامل على توحيد ألمانيا، وجد نفسه مجددًا في وطنه الأم، حيث عمل بداية على نحو يكاد يكون حصريًا مع جامع ساعات موسر واحد فوّض إليه ابتكار عدد من الساعات المعقّدة والمتفرّدة.
وعلى ما هو عليه الحال دومًا، صنّع كريستيان تلك الساعات يدويًا. يشكّل مضبط الانفلات، الجزء الذي يضبط أي ساعة، واحدًا من مواطن شغف كريستيان بعالم الساعات، وقد عمل وحده على اختراع تصاميم عدة غير مسبوقة لهذا المكوّن المهم وتنفيذها. استقر كريستيان في بلدة سالفيلد الوادعة، التي تبعد نحو 30 ميلاً عن فايمار، وراح يصنّع الساعات بعيدًا عن الأضواء ويوقعها باسم C. Klings.
علاقة تفاعلية وميناء مبتكر
لا يكون التعامل مع الحرفيين مباشرًا على الدوام، الأمر الذي يعكس تعارضًا صارخًا مع سهولة البيع في عصر الإنترنت. فالتفويض مشروع يتحقق بالمشاركة، وينطوي على بناء علاقة تثمر عن منتج. تصل مع الحرفي إلى تفاهم حول ما يمكن تحقيقه، لكن غالبًا ما يصعب استشراف التحديات التي قد تطرأ في سياق صنع المنتج.
تواصلت بداية مع كريستيان عبر رسالة إلكترونية عندما عرّفني به صديقي جياكسيان سو الذي يدير موقع watchesbysjx.com، فناقشنا بعمق الأفكار التي كانت تراودني في ما يخص الساعة التي أنشدها. كنت قد تابعت بعض الصفوف في مجال صناعة الساعات في جمعية نيويورك للساعات Horlogical Society of New York، الأمر الذي أفادني في مسار ابتكار الساعة.
كان تواصلي مع كريستيان يكاد يقتصر حصريًا على الرسائل الإلكترونية. وبالرغم من أنه يتحدث الإنكليزية بطلاقة، إلا أن كلانا كان يواجه في بعض الأحيان صعوبة في التعبير عن أفكاره على نحو يفهمه الآخر. لكن كريستيان رسم الكثير من المخططات، وأنا وضعت تعليقاتي على عدد لا بأس به من الصور. كان من المفيد أيضًا الاحتفاظ بسجل مكتوب، وإلا كنت لأنسى بعض المواصفات التي ناقشناها سابقًا.
في ما يتعلق بالميناء، أردته أن يكون مشابهًا لذاك الذي تزيّنت به الساعة الأصلية التي شاهدتها في هونغ كونغ، ولكن طلبت إحاطته بحلقات زخرفية متدرجة تحت مؤشرات الساعات والدقائق والثواني ومتباعدة قليلاً. غالبًا ما تتميّز ساعات الجيب بمثل هذا الترتيب، لكنه نادرًا ما يُعتمد في ساعات المعصم لأن قراءة المؤشرات على الحلقات قد تصبح أصعب.
في ميناء ساعتي، تغور حلقة الثواني الفرعية قليلاً تحت حلقة الساعات وتتداخل مع حلقة الدقائق عند مؤشر الساعة 6. كان يحدث في بعض الأحيان أن يضطر كريستيان إلى بناء الجزء نفسه مرتين، محدثًا تعديلاً طفيفًا في كل مرة ليسهّل عليّ تصوّر ما سيبدو عليه الميناء عند اكتماله. قدّم لي على سبيل المثال حلقتين للثواني الفرعية، كل منهما بعرض مختلف. اخترت الحلقة الأقل عرضًا.
اخترت أيضًا عقارب بريغيه. لكن الموازنة الجمالية لهذا التصميم، الذي يحمل اسمه مخترعه، صانع الساعات العظيم أبراهام – لويس بريغيه، ليست بالمهمة السهلة. فالأمر يتطلب بناء شكل متعرّج جذّاب للجزء الرئيس الطويل من العقرب، تعقبه حلقة تبرق قليلاً حافتها الداخلية للفت الأنظار، ثم أخيرًا رأس مستدق للإشارة إلى الوقت بدقة.
كانت العقارب التي ابتكرها كريستيان بداية ضخمة بعض الشيء، فعمل بتأن على جعلها أكثر رقة لتتناغم على نحو أفضل مع الأرقام الرومانية الدقيقة. أما النمط الزخرفي المتماثل الذي يتدثر به الميناء، والمعروف باسم زخارف غيوشيه، فنُحت يدويًا باستخدام مخرطة تشبه مخططًا معقد البناء. إنه عمل مضن ودقيق ويستغرق وقتًا. استحسنت ما رأيته في الساعة الأصلية، وطلبت تزيين ساعتي بالزخارف نفسها: نمط زخرفي يستلهم حبات الشعير للجزء الأعظم من الميناء، وزخارف شعاع الشمس للثواني الفرعية.
يزهو الميناء بلون زهري مميز يحاكي لون سمك السلمون. والواقع هو أننا اخترنا هذا اللون في اللحظة الأخيرة. فيما كانت الساعة قيد البناء سنة 2020، تواصلنا مرارًا كريستيان وأنا لاتخاذ قرارات صغيرة بشأن التصميم. آنذاك، لم يكن للميناء أي لون حدد.
فالمؤشرات لمّا تُملأ بالحبر بعد، والعقارب لم تُعالج بأي لون. أردت استكشاف اللون السلموني للميناء، فابتكرت نموذجًا عنه باستخدام تطبيق فوتشوب، وأضفت الظلال اللونية إلى الأجزاء الرئيسة من الميناء للحصول على تأثير ثنائي الألوان.
أثار النموذج حماسة كريستيان الذي راسلني بأسلوبه الساحر قائلاً: "أشكرك على التصميم. يبدو رائعًا. فالميناء بحلقاته الرفيعة والجزء الخارجي المصقول بالذهب الوردي بالغ الجاذبية. إنه يعكس ذائقتي بالضبط. ابتكرت ميناء مماثلاً لساعتي السادسة Nr.6 المجهزة بوظيفة عرض احتياط الطاقة، وأرغب في الإبقاء على هذه الفكرة.
يسرني ذلك". ابتُكر لون الميناء عن طريق صقله بمادة طلاء غلفانية (نوع من الطلاء يُطبق بالكهرباء)، وكان تطبيق اللون واحدًا من المهام القليلة التي لا يمكن لكريستيان أن يحققها بنفسه. تخيّلوا مقدار القلق الذي انتابه على الأرجح عندما أرسل الميناء الذي اكتملت زخارفه إلى جهة ثالثة آملاً أن يجده سليمًا عند استعادته.
تركت لكريستيان حرية اختيار الظل المطلوب من اللون السلموني وسرتني النتيجة إلى حد المفاجأة عندما رأيت تطبيق اللون على المعدن، بذراته ذات اللون الأصفر والزهري الزاهي في زخارف غيوشيه، مقابل الظلال الأغمق التي يبدو لونها زهريًا ضاربًا إلى الأحمر في التجاويف. يسعدني أني وثقت به.
Tsz Fung Chan
عمل شاق
تولى كريستيان بنفسه تصميم علبة الساعة التي تثريها منحنيات دقيقة. تتميز الساعة أيضًا بقرص عريض يستدير بأناقة وتكمّله وصلات قصيرة تلتف نحو الأسفل وتتباعد على نحو ملحوظ. أثمرت هذه التفاصيل كلها عن علبة رقيقة تشبه الحصاة وتذكر بساعة جيب من حقبة غابرة. شكّل كريستيان العلبة بأنامله، الأمر الذي أتاح له التنويع على نحو تلقائي بقطر كل منحنى.
ربما ليس مفاجئًا أن آلية الحركة شكلت التحدي الأعظم. وفي هذا يقول كريستيان: "كان بناء آلية الحركة صعبًا بقدر تطوير آلية توربيون". كنت دومًا حريصًا على أن تُجهز ساعتي بآلية حركة هيكلية. في العادة، تتكوّن آليات الحركة من صفائح وجسور تثبّت العجلات معًا.
صحيح أن الصفائح أكثر ثباتًا، لكنها تُخفي أيضًا الكثير من التفاصيل التقنية. أما في آلية الحركة الهيكلية، التي تبدو ظاهرة عبر ميناء الساعة النهائية، فتغيب معظم الصفائح ويجري الاعتماد بشكل رئيس على الجسور: أذرع صغيرة مثبّتة ببراغٍ لتثبيت العجلات كلها.
من الصعب جدًا تشكيل الجسور إذا ما أردنا إضفاء شكل جمالي جذاب عليها، وشطف زواياها وصقلها لتكتسب بريقًا جميلاً، ثم تثبيتها في وضع مواز على نحو مثالي للصفيحة الرئيسة. وعلى ما هو معروف، لا بد للعجلات في آلية الحركة أن تتسق بدقة: إذا ما انحرفت الجسور وإن بقدر ضئيل عن مواضعها، فإن الساعة لن تؤدي وظيفتها. ثمة سبب يجعل علامات الساعات بمعظمها تؤثر عدم بناء معاييرها الحركية بهذه الطريقة.
Tsz Fung Chan
إن ما ضاعف مقدار الصعوبة في بناء ساعتي هو حجمها. فأنا أؤثر الساعات صغيرة الحجم، وخصوصًا تلك التي يراوح عادة قطر علبها بين 34 ملليمترًا و37 ملليمترًا. يعجبني أنها تبدو غير متكلفة وأستحسن ملمسها فوق معصمي. في العالم المعاصر، لا نجد سوى عدد ضئيل جدًا من الساعات الحديثة التي تُصاغ علبها بقطر أقل من 38 ملليمترًا. بل إن رولكس هي الوحيدة بين كبرى الدور التي تصنّع أعدادًا كبيرة من الساعات في علب بقطر 36 ملليمترًا. لذا كان من دواعي سروري أن أكون قادرًا على طلب ساعة "صغيرة" من كريستيان. لكني أردت أيضًا آلية حركة هيكلية، لذا لم يكن بالإمكان تقليص قطر العلبة إلى ما دون 36.5 ملليمتر لأنه من المستحيل ببساطة تصغير أجزاء آلية الحركة أكثر من ذلك. عمل كريستيان بأقصى ما تتيح له حدود قدراته البصرية والعضلية.
Tsz Fung Chan
صبر ومثابرة
سألني صديق لي عما إذا كان مشروع تكليف لتطوير ساعة يشبه حياكة بذلة حسب الطلب. والحقيقة أن ثمة أوجه شبه بين الطلبين. فالمسار يبدأ من فكرة بدائية عما تنشده، ثم ينطلق النقاش حول سبل تنفيذ الفكرة، فيجري الإبقاء على بعض الخطط فيما تُستثنى أخرى.
تمكّنت بمرور الوقت من تثمين ذائقة الآخرين وخبراتهم، ويسرّني أن أدفع المال للاستفادة من ذلك. فالحرفيون البارعون يحفّزون زبائنهم عندما تخرج فكرة ما عن حدود التقليدي والمألوف. ومن المريح أن أعلم أني أستطيع اللجوء إليهم لطلب نصيحة متبصرة عندما يساورني أي شك بشأن خيار ما يتعلق بطلبي.
لقد خبرت مراراً وتكراراً، من خلال المنتجات التي أطلبها لنفسي أو لزبائني، أن مشاريع التكليف التي تؤتي أفضل النتائج هي تلك التي ترتكز إلى علاقة وثيقة مع الحرفي وإلى الرغبة في الإصغاء.
Tsz Fung Chan
سرّني أني وكريستيان نتشارك ذائقة مشابهة نوعًا ما. كتب لي مرة يقول: "أود مناقشتك في مسألة. أجدني مترددًا في ملء الأرقام الرومانية باللون الداكن نفسه المستخدم للعقارب. أظن أن الأمر سينحو إلى المبالغة.
لا أرغب في خسارة الطابع الراقي والبعيد عن التكلف الذي أريده للميناء". أسعدني أنه لفت انتباهي إلى هذه المسألة. استشرفت في الأصل استخدام مؤشرات سوداء اللون، لكن كريستيان اقترح لون الفحم الذي بدا خافتًا ولكن أضفى تحسينًا إيجابيًا على مظهر الميناء.
لا شك في أن أمثال كريستيان، الذين يبتكرون بأنفسهم ومن لا شيء كل جزء في الساعة بحسب الطلب، نادرو الوجود إلى حد بالغ. بل إن كريستيان يبقى واحدًا من أواخر قلة من الصنّاع الذين ما فتئوا يحاولون تحقيق هذا الفن البديع. ثمة عدة صنّاع ساعات بارزين يبتكرون مفهومًا عبقريًا ثم ينفذونه في سلسلة صغيرة ومحدودة من دون أي تغيير في التصميم، وغالبًا بمشاركة فريق من الحرفيين.
وثمة أيضًا صنّاع متفوقون يبنون ساعات مصممة حسب الطلب، لكن العناصر المتفردة في ساعاتهم تبقى محصورة بمعايير محددة مثل تغيير اللون في جزء من الميناء، أو لون العقارب فحسب. لا شك في أن الصنّاع الذين يختارون هذه المقاربة يتّسمون بالحكمة.
فالخيارات غير المتناهية قد تؤدي إلى تصميم ومسار إنتاجي مربكين جدًا، ومن ثم إلى ساعة نهائية غير ناجحة. فضلاً عن ذلك، قد يكون عمل الصانع وحده مصدرًا للشعور بالوحشة والتوتر، وصناعة الساعات ليست بالمهمة السهلة التي تحتمل الخطأ.
فوضع رأس مفك البراغي في موقع خاطئ أو الزيادة في سماكة مكوّن يساوي حجمه جزءًا من مئة جزء من الملليمتر، قد تقضي على أسابيع من التقدم في مسار بناء الساعة. فلمَ يقدم أي شخص على مهمة شاقة كهذه وحده؟
طرحت هذا السؤال نفسه مرة على كريستيان في سياق اتصال هاتفي، فأجابني قائلاً: "إنها موهبة أمتلكها. هذا ما أقوم به منذ أن كنت فتى صغيرًا. أمتلك لمسة دقيقة. لطالما أدركت هذه الحقيقة.
ربتني سيدة هادئة ورقيقة، وعلمتني الانضباط والصبر. كما أني أمضيت الكثير من الوقت وحدي، والعمل يدويًا على آلات ميكانيكية كان السبيل الذي اخترته لأشغل نفسي. لا يمكن لأي شخص آخر أن يقوم بما أفعله لوقت طويل. فالأمر جنوني للغاية". وعندما سألته إن كانت هذه المثابرة تفيده في مجالات أخرى من حياته، ردّ بالقول: "سأتقاعد لأنني قررت أن أمضي مزيدًا من الوقت في العمل الاجتماعي، والتحلي بالصبر والانضباط ضروري جدًا لهذه المهمة".
ما أقدره في شخصية كريستيان هو اعتماده على ذاته. إن عمله منفردًا يذكرني بالمتنافسين في الألعاب الأولمبية الذين يجاهدون لسنوات تحضيرًا للحظة حاسمة قد تحدد إرثهم، والأمر كله يعتمد على مجهودهم الشخصي فحسب. إن العالم مليء بأمور رائعة تحققت من خلال المساهمات المشتركة لأشخاص عدة.
لكن ابتكار منتج واحد من قبل فرد واحد ينطوي على طاقة من نوع مختلف. فلا يمكن لشخص واحد أن ينفّذ كل تفصيل على نحو مثالي يخلو من أي أخطاء، لكن رؤيته يحاول ذلك أمر مثير، والنتيجة الأفضل ستقارب حد الكمال. إذا ما تأملتم عن كثب في هذه الصور، فإنكم ستلاحظون بعض الشوائب في الساعة. وكيف لها أن تخلو من الشوائب؟ فهي صُنعت يدويًا، على ما هو عليه حال الكثير من الفرائد.