لا بد لي من الاعتراف أولاً بالآتي: حتى عهد قريب، وكلما دار الحديث عن القصور في أشباه الموصلات، كان يُهيّأ لي أن معظم السيارات لا تعمل إلا بعدد قليل منها.
أقول عددًا قليلاً فيما كان يبدو لي أن واحدًا فقط سيكفي: سيارة واحدة، بمحرك واحد، وشبه موصل واحد ضخم. كان تقديري بعيدًا عن الحقيقة بعض الشيء، ذلك أن بعض السيارات تكون مزودة بنحو 3000 شبه موصل. وربما تعلم أن قطاع أشباه الموصلات، المعروفة أيضًا باسم الرقائق الدقيقة، يعد من القطاعات الصناعية الكبرى.
وعلى ما جاء في تقرير للمنظمة العالمية لإحصاءات تجارة أشباه الموصلات، فقد صُنع منها أكثر من 932 مليارًا في عام 2020، وهو رقم من الضخامة بحيث يتعذر عليّ مقارنته بأي رقم آخر أعلمه.
بدلاً من ذلك، لنجر بعض الحسابات. من بين هذه المليارات العديدة، يذهب النصف إلى قطاع صناعة الإلكترونيات، في حين تستفيد صناعة السيارات من نحو 15% منها، أي ما يعادل 140 مليار رقاقة إلكترونية. أنتج العالم 78 مليون سيارة جديدة في عام 2020، أي أن متوسط عدد الرقائق الإلكترونية في كل سيارة جديدة يبلغ نحو 1800 رقاقة، وهذا عدد هائل بمختلف المقاييس.
ولكن حتى في ظل هذه الأرقام، يبدو أن عدد أشباه الموصلات لا يكفي. فالطلب على السيارات الجديدة أعلى من العرض على الرقائق الدقيقة، ما يؤدي إلى خلخلة مواعيد التسليم. في شهر سبتمبر الماضي، تسلّم أحد أصدقائي سيارة كان قد طلبها في شهر يناير، ولما وصلته أخيرًا، كان قد نسي اللون الذي اختاره لها.
لو أنه طلب سيارة لاند روفر ديفندر، لكان انتظر على الأرجح 12 شهرًا. ولو طلب سيارة بورشه تايكان، لكان انتظر مدة أطول. وأما لو طلب سيارة من طراز Model X ثنائي المحرك من تيسلا، فربما كان طلبه ليظل معلقًا قرابة عامين.
إذا كان ما ذكرته محبطًا، فإن النصيحة المتداولة لتقليص مدة الانتظار أسوأ بكثير. فثمة إجماع على أن المساومة على التصميم الداخلي هي الحل، ما يعني شراء سيارة لا تروقك بأي وجه من الأوجه، وهذه ليست بنصيحة مقبولة.
بيد أن المحبط أكثر هو أن صناع السيارات يعتقدون بأن علينا قبول هذه النصيحة لأن هذا هو التوجه الرائج اليوم. على سبيل المثال، جرى الإعلان عن سيارة بولستار 3 الكهربائية، الأرخص من منافستها بورشه كايان، في أكتوبر.
إنها تبدو مركبة ممتازة، لكن أحدًا لا يستطيع الجزم بهذه الحقيقة حتى يتسلّمها، فيما أشارت بولستار إلى أن عمليات التسليم الأولى لن تنطلق إلا في الربع الرابع من عام 2023، وربما يتأخر الإنتاج في منشأتها بالولايات المتحدة إلى عام 2024.
هل سننتظرها؟ هذا جائز. فمختلف العلامات على دراية بهوس عموم الناس بالأشياء الجديدة والبراقة، ومن غير المرجح أن يفقد الميل إلى المساواة دومًا بين المنتجات الأحدث والألمع (والأكبر والأغلى) والمنتجات الأفضل زخمه في القريب العاجل.
لكن إذا كانت المحادثات التي غالبًا ما أخوضها توحي بما سيكون عليه الحال، فإني أنبئكم بأن ثمة تيارًا بديلاً يكتسب اليوم زخمًا متزايدًا بالتوازي مع التوجه السباق، ويرتكز إلى الآتي: إن قيادة هذه المركبات الجديدة المُرتقبة لن تكون ممتعة. إنها بديعة الصنع ولكن إتخامها بالرقائق الإلكترونية يجعلها حادة الذكاء، إلى درجة أن قدرتها على التفكير بسرعة وحذر تفوق ما نستطيع بلوغه إلى حد كبير، وهي بذلك تُحوّلنا تدريجيًا إلى ركاب في سياراتنا، بدلاً عن أن نكون سائقيها.
في مطلع فصل الخريف، اختبرتُ سيارة i4 الجديدة من بي إم دبليو، وهي سيارة كوبيه للتجوال الفاخر كهربائية بالكامل. إنها آلة رائعة من نواحٍ عدة، وتقترب هندسيًا من الكمال. غير أنها أرعبتني أكثر من مرة، إذ استعملت مكابح السيارة بغتة باستعجال مخيف، كأنها مقتنعة بأنني أوشك أن أدهس قطة لا وجود لها.
خلّفت هذه التجربة في نفسي أثرًا بفقدان زمام التحكم، وهذا ليس شعورًا مريحًا ولا هو شعور يروق لي الاعتراف به.
ليس هذا الشعور حكرًا على سيارة بي إم دبليو، بل إنه شعور عام. فقد اختبرت أيضًا خلال الأشهر القليلة الماضية سيارة DBX707 الشرسة من أستون مارتن، وسيارة Cayman GT4 العدائية من بورشه، وسيارة Continental GT V8 المهيبة من بنتلي. كلها سيارات رائعة، ولكنها جميعًا أشعرتني بأنني لست متحكمًا بمصيري. فقد كان ثمة دُخلاء دومًا: تلك الآلاف المؤلفة من الرقائق البئيسة.
أخبرت أخيرًا صديقًا يملك مجلة للسيارات عن قيادتي لهذه المركبات، وكان كل ما فعله أن نظر إليّ بهدوء وقال باستخفاف: "لم أقُد أي سيارة جديدة منذ سنوات". بل إنه أعلمني أن آخر سيارة صوّرها كانت من طراز مازيراتي جيبلي من عام 1971.
كما أخبرني صديق آخر يدير شركة تنتج أفلامًا وثائقية بطابع واقعي أن آخر سيارة استمتع بقيادتها كانت سيارة مرسيدس من طراز Mercedes SL كان يمتلكها عندما تزوج قبل 20 عامًا. إنه يبحث اليوم عن سيارة جديدة، وأنا أحاول إقناعه بشراء سيارة بورشه 911 من جيل 997، المُصنعة بين عامي 2004 و2013.
ولو كنت مكانه، لشَرعت في البحث عن نموذج من نسخة GT3 التي صدرت في عام 2006. كانت مجلة "موتور تريند" Motortrend قد وصفتها بأفضل سيارة للقيادة في أمريكا. فهي تُحقق تسارعًا من صفر إلى 60 ميلاً/الساعة في غضون أربع ثوانٍ، فيما سرعتها القصوى تقترب من 200 ميل/الساعة. على أن أفضل ما في هذه المركبة هو علبة التروس اليدوية التي تتحكم فيها حصريًا يد الإنسان.
لكن قد يكون من الحكمة ألا يطيل هذا الصديق البحث في تفاصيل كل سيارة. فقد أنتجت بورشه نحو 213 ألف نموذج من طراز 997. على أن إيجاد سيارة من هذا الطراز، بأميال محدودة وفي حالة ممتازة، أمر عسير، ولذلك فإن أسعارها آخذة في الارتفاع. في مارس 2021، كان متوسط أسعار بيع سيارة GT3 يقارب 87,000 دولار، بحسب نظام التتبع في موقع Classic.com. وبحلول نهاية أكتوبر من عام 2022، ارتفع هذا السعر إلى 114,000 دولار.
ويبدو أن هذا المنحى التصاعدي آخذ في الارتفاع. فعلى سبيل المثال، شهد طراز F430 Spider من فيراري، الصادر قبل نهاية العقد الأول من هذه الألفية، والمجهز بعلبة تروس يدوية، ارتفاعًا في سعره أيضًا، إذ زادت كلفة نموذج من هذه السيارة من 194,000 دولار في شهر مارس المنقضي إلى 270,000 دولار بحلول شهر مايو (وقت توقف نظام التتبع في الموقع).
كذلك الحال في الطرف الأدنى من سوق جامعي السيارات. فقد شهد سعر سيارة E46 من طراز M3 من بي إم دبليو، التي تفتن الجامعين، والصادرة في منتصف العقد الأول من هذه الألفية، ارتفاعًا ملحوظًا، إذ انتقل سعرها من نحو 25,000 دولار إلى 30,000 دولار خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية.
ما الذي يفسر هذا النمط؟ هل سببه توقُ جيل جديد من المشترين الكُهول إلى شراء السيارات التي كانت بعيدة المنال في شبابهم؟ هذا جائز، ولكنه جواب مغرق في التبسيط، والأصحّ هو أن هذه الطرز تعود إلى الحقبة الأخيرة التي سادت فيها سيارات حقيقية للقيادة تفعل بها ما تشاء من دون أن تتدخل تلك الرقاقات وتمنعك. في تلك الحقبة، كان التعويل على دماغ السائق، لا على دماغ السيارة. والأمر الحسن في دماغ السائق هو أنك تحتاج إلى واحد فقط لا غير.