غالبًا ما يُنظر إلى السيارات الرياضية عالية الأداء بوصفها منبثقة من عالم السباقات، وهذا ما يسعى الصنّاع بمعظمهم إلى التأكيد عليه في معرض التسويق لهذه المركبات.
ولكن الحقيقة هي أن ثمة فارقًا كبيرًا بين أميرات الحلبات وملكات الطرق، إذ إنّ الهدف الأول الذي تسعى إليه الفئة الأولى هو السرعة التي تتمثل باجتياز المسارات بأقل وقتٍ ممكن، فيما تبقى الغاية القصوى للفئة الثانية هي توفير متعة عالية للسائق من خلال جعله ينخرط إلى أقصى حد ممكن في تجربة القيادة. فكلما تزايدت المهام الملقاة على عاتقه خلف المقود ارتفعت مستويات المتعة والإثارة.
على أن المستوى العالي من الانغماس في عملية القيادة لا يتحقق سوى مع سيارة مجهزة بمنظومة ميكانيكية مبسّطة تتحكم بها مهارات السائق وحده بعيدًا عن الإلكترونيات التي قد تساعد على توفير سرعاتٍ أعلى، إلا أنها تقضي على الشعور الميكانيكي الطبيعي الذي ينشده الباحثون عن الإثارة. وقد يكون خير مثال على ذلك ما حصل خلال ثمانينيات القرن الماضي بين سيارتي Ferrari F40 وبورشه 959.
التعقيد في مواجهة البساطة
رغم أنّ مصيبة إلغاء الفئة B من بطولة العالم للراليات جمعت بين سيارتي Ferrari F40 وبورشه 959، وأدت إلى انتقالهما من مرآب فريق السباقات إلى صالات عرض الوكلاء، إلا أنهما تنتميان إلى مدرستي تصميم مختلفتين.
اعتمد الصانع في بورشه 959 على مجموعة كبيرة من التقنيات المتطورة التي تبدأ من نظام تبريد المحرك المزدوج الذي يعمل على تبريد كتلة المحرك بالهواء مقابل استخدام الماء لتبريد رؤوس الصمامات، ولا تنتهي بنظام التعليق المتطور القادر على تغيير ارتفاع السيارة أوتوماتيكيًا تبعًا لظروف القيادة، ونظام الدفع الرباعي القادر على تغيير توزيع عزم الدوران ديناميكيًا بين العجلات الخلفية والأمامية في الظروف العادية وفي ظروف الانزلاق.
أما فريق تصميم Ferrari F40، فآثر تطوير سيارة يقوم مفهومها على البساطة البعيدة عن أي تعقيدات تقنية، إذ إنّ العنصر المتطور الوحيد الذي استفادت منه F40 آنذاك كان الجسم المصنوع من الكربون كفلار.
عدا عن ذلك، أتت السيارة بمحرك يتألف من ثماني أسطوانات مع شاحن هواء توربيني لتوليد قوة 471 حصانًا، وخلت من أي وسائل راحة. بل إن مقصورة القيادة جاءت بلا أي تنجيد مع آلية لفتح الأبواب من خلال حبل صغير يجري من خلاله التحكم بالقفل.
وبذلك شهدت السنوات التي تلت وصول كل من بورشه 959 وفيراري F40 صراعًا محتدمًا، ليس بين سيارتين تنتمي كل واحدة منهما لاسم كبير في عالم المركبات الرياضية فحسب، بل بين مدرستين مختلفتين تجتمعان على التفوّق: مدرسة البساطة الإيطالية المثيرة ومدرسة التعقيد الهندسي الألماني المتطور.
ولكن هل حُسم الصراع؟ وهل خرجت إحداهما منتصرة بعد هذه السنوات كلها؟ في الحقيقة قد لا يسعنا حسم هذا الأمر كون كل من المركبتين يتمتع اليوم بمكانته المرموقة في تراث عالم السيارات المثير.
ولكن حقيقة توفر أكثر من 1,350 نسخة من فيراري F40 مقابل 345 نسخة فقط من بورشه 959 أمر يجعل الألمانية أشد ندرة من الإيطالية.
وبما أنّ الندرة هي في العادة العنصر الرئيس في تحديد سعر السيارات الكلاسيكية.
فهذا يعني أنّ سعر سيارة بورشه ينبغي أن يكون أعلى بكثير من سعر سيارة فيراري. لكن الواقع غير ذلك تمامًا، إذ يبلغ المعدّل الوسطي لسعر نموذج من فيراري F40 حوالي 2.5 مليون دولار أمريكي (9.2 مليون ريال سعودي) فيما لا يزيد معدل سعر بورشه 959 على 1.8 مليون دولار أمريكي (6.6 مليون ريال سعودي). وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أنّ البساطة الميكانيكية تتفوق على تعقيدات التطور.
Martyn Lucy \ Getty Images
سيارة Ferrari F40 في باحة قصر بلينهايم الذي يستضيف مسابقة الأناقة للسيارات بالمملكة المتحدة.
سيارت تناظرية للسائق المحترف
ما ذكرناه آنفًا ليس حالة خاصة لم تتكرر، إذ تشير العديد من التقارير التي صدرت أخيرًا إلى أنّ رغبة جامعي السيارات حول العالم بالحصول على ما يسمى بالسيارات التناظرية.
أي السيارات التي تقوم على مبدأ البساطة التقنية والميكانيكية، أي تمامًا على ما كانت عليه حال سيارة Ferrari F40 ومن بعدها سيارة Porsche Carrera GT التي جُهّزت بمحرك من عشر أسطوانات يتصل بعلبة تروس يدوية من ست نسب (وهو أمر مستغرب في حقبة كانت تشهد انتقال الجميع إلى الخيارات الأوتوماتيكية في مجال نقل الحركة) لتكتسب سمعة يحيط بها الغموض، إذ شاع أنها مصمّمة بشكلٍ يتطلب من السائق دقة عالية ومهارات قيادة رفيعة تتيح له الحفاظ على تماسكها مع الطريق.
بل إن هذا الغموض، الذي تعزز أكثر إثر الحادث الذي تعرض له النجم بول واكر على متنها (تبين لاحقًا أنّ السبب في الحادث لم يكن منظومة السيارة بل الإطارات التي كانت قديمة وفاسدة)، رفع من أهمية السيارة وأعاد تقديمها على أنها مركبة ينبغي أن يقودها سائق محترف ذو باع طويل، وليس شخصًا يستطيع الجلوس في مقعدها الأمامي الأيسر والضغط بقوة على دوّاسة الوقود.
لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن نهج البساطة الذي اعتُمد في سيارة فيراري F40 في ثمانينيات القرن الماضي تعزز أكثر خلال تسعينياته عندما كشفت فيراري عن طراز F50 الذي أتى حاملاً معه منظومة ميكانيكية كلاسيكية ولكن بالغة التطور. فهي كلاسيكية كونها تقوم على محرك من 12 أسطوانة يعمل بالتنفس الطبيعي.
لكنه كان أول محرك سيارة فورمولا 1 يُستخدم في سيارة مرخصة للقيادة على الطريق، إذ إن ما قام به مهندسو مارانيللو هو أنهم جاؤوا بمحرك سيارة 641 التي شاركت مع فيراري في موسم 1990 من بطولة العالم لسباقات الفورمولا 1 وأخضعوه لبعض التعديلات التي تعزز إمكانية استخدامه على الطريق، ثم ثبّتوه بشكلٍ مباشر ضمن هيكل Ferrari F50، أي من دون أي حاملات محرك مطاطية كتلك التي تتوفر في مختلف السيارات والتي تسهم عادةً في التخفيف من وصول ارتجاجات المحرك إلى المقصورة.
وبذلك اكتسبت هذه السيارة القدرة على توفير تجربة قيادة لا مثيل لها على صعيد الإثارة، خصوصًا أنها كانت مجهّزة بعلبة تروس يدوية من ست نسب، وخالية من أي أنظمة لمساعدة السائق على القيادة، ما يعني أنها أيضًا مخصصة للسائق المحترف وليس للهاوي.
National Motor Museum \ Getty Images
سيارة Porsche 959 من عام 1988.
شبح العصر الكهربائي
تواجه السيارات الرياضية عالية الأداء اليوم تحديات أكبر لا تتوقف عند حدود الإلكترونيات المعقدة لتجربة القيادة، بل تصل إلى التقنيات الكهربائية التي ألغت الحاجة إلى محركات الاحتراق الداخلي المثيرة كي تدفع السيارة إلى سرعاتٍ عالية ولكن على حساب متعة القيادة.
على أن متعة القيادة ترتبط بالمنظور الفردي لكل سائق. فالبعض يجد المتعة في سيارة ناعمة تنساب عجلاتها فوق الطريق بمرونة وبكل هدوء، فيما تنتقل نسب علبة التروس فيها من سرعة إلى أخرى بشكلٍ غير محسوس، على ما هو عليه الحال في السيارات التنفيذية الفاخرة.
أما في حال السائق الحقيقي العاشق للإثارة، فإنّ متعة القيادة رهنٌ بمحرك احتراق داخلي كبير ينقل قوته إلى العجلات الدافعة عبر علبة تروس توفّر دفعة قوية إلى الأمام عند تحريكها بالتزامن مع التسارع أو تلجم القوة بشكلٍ عنيف عند تحريكها بالتزامن مع الكبح. وحبذا لو كان المحرك الكبير يعمل بالتنفس الطبيعي بلا أي شحن توربيني، وحبذا لو كانت علبة التروس يدوية يتحكم بها السائق كيفما يشاء ومتى يشاء.
Ted Soqui \ Getty Images
سيارة Carrera GT من بورشه في معرض لوس أنجليس للسيارات في عام 2005.
أما في السيارات الرياضية الكهربائية، فإن هذه العوامل المولدة للمتعة في أثناء القيادة غير متوفرة. ففي السيارات الكهربائية، لا محرك هادرًا يفرض حضوره على تجربة القيادة، ولا علبة تروس تلجم السيارة عند الكبح أو تدفعها بعنف إلى الأمام عند التسارع. بل إن جلّ ما يستشعره السائق هو تسارع خاطف قد يكون ممتعًا في البداية قبل أن يصيبك بالدوار عند تكراره.
ولكن في الختام..
وبعيدًا عن النظرة التشاؤمية، يبدو أنّ شهية المستهلكين في قطاع السيارات الرياضية الحصرية الفاخرة (الذي تحاول العديد من الشركات المتخصصة بإنتاج السيارات الكهربائية حصرًا الدخول إليه) غير مفتوحة تمامًا للخيارات الكهربائية.
خصوصًا بعد أن أشار ماتي ريماك، مؤسس علامة ريماك الرائدة في مجال تقنيات الدفع الكهربائية للسيارات الرياضية، إلى هذا الأمر صراحةً عندما أعلن أنّ السيارة البديلة لطراز نيفيرا ستكون هجينة وليس كهربائية بالكامل.
أما في ما يخص معضلة تلوث الهواء، فإنّ عمليات تطوير الوقود الصناعي النظيف تتقدم يومًا بعد يوم.
الأمر الذي يعني أنّ أسعار هذا النوع من الوقود ستنخفض بالتأكيد بمرور الزمن، لتصبح متاحة لشريحة كبيرة من المستهلكين، علمًا بأنّ زبائن قطاع السيارات الرياضية الحصرية لن يكترثوا كثيرًا لدفع حفنة إضافية من النقود مقابل الوقود الصناعي الذي سيسهم بدرجة كبيرة في الحفاظ على التراث العريق للسيارات الرياضية الكلاسيكة ويبقيها على الطريق.