أسهمت تجربة الطعام على طريقة كايسيكي، التي ترسخت في التقليد الياباني على مدى قرون،
في الارتقاء بجماليات منظر الأطباق قدر تعزيز طيب مذاقاتها. كما أنها خلفت تأثيرًا ملحوظا في
مقاربة المطاعم الحديثة لأسلوبها في الضيافة.
في أثناء رحلة قامت بها نيكي ناكاياما إلى اليابان، مع بلوغها الثامنة عشرة من العمر، قصدت نزلاً يمتلكه ابن عمها هناك من أجل تناول طعام العشاء. وسرعان ما امتلأت المائدة أمامها بوليمة قوامها ثمانية عشر صنفًا مختلفًا من أصناف الطعام. وكان أن غيَّرت تلك الوليمة حياة الفتاة اليابانية المولودة في لوس أنجلوس. فبدءًا من المكونات ومرورًا بتقنيات الطهي، ووصولاً إلى العرض البصري للأطباق، كانت وجبة العشاء تلك غنية ومتنوعة وماتعة. تقول الطاهية التي تمتلك اليوم مطعم «أن/ ناكا» n/naka في لوس أنجلوس والتي تحظى ابتكاراتها باستحسان واسع النطاق: «كل تفصيل في تلك التجربة كان متقنًا ومتناغمًا مع الإحساس العام والأجواء المحيطة والموسم السائد. بل إن تلك الوليمة شكّلت تعبيرًا ساحرًا عن الطابع الموسمي للمكونات، ولم يكن قد سبق لي أن اختبرت تجربة مماثلة».
طبق الساشيمي العصري «زوكوري»
ما اختبرته ناكاياما للمرة الأولى في حياتها، وما كرَّست لأجله لاحقًا مسيرتها المهنية، هو تحديدًا تجربة كايسيكي التي تُعد شكلاً يابانيًا من أشكال تناول الطعام لا ينحصر بطريقة تقديم الأطباق فحسب. فتجربة كايسيكي تتعلق بالتعبير عن زمن ما وبيئة طبيعية ما من خلال المذاقات المميزة لوجبة طعام مكونة من أصناف متعددة، ومن خلال طريقة عرضها البصرية. لدى ابتكار تجربة كايسيكي من الطراز الأكثر رفعة، يختبر المرء ذروة الترف الذي تعد به تجربة الطعام الراقي. كما أن لهذه التجربة تأثيرات تتجاوز من بعيد المطبخ الياباني.
طبق الحساء «أوان»
وفقًا للرواية الشعبية حول أصل كايسيكي، انبثقت هذه التجربة من الاحتفالات الدينية في القرن السادس عشر، وكان أول من نظَّم شكلها ووثَّقه هو المعلم الخبير في طقوس احتساء الشاي سين نو ريكيو. على الرغم من أن الحكاية تضفي بعدًا دينيًا على تجربة كايسيكي، إلا أن تاريخها يبقى أكثر تعقيدًا مما توحي به الرواية. ثمة أسلوبان معتمدان في تجربة كايسيكي، أحدهما مرتبط بالاحتفالات الخاصة بطقوس تقديم الشاي واحتسائه، والآخر توفِّره مطاعم مثل مطعم ناكاياما. تفرّع الأسلوبان على الأرجح من المصدر نفسه وتطورا في خط متواز. في هذا يقول البروفيسور إيريك راث، أستاذ مادة التاريخ في جامعة كنساس، والذي يركّز في دراساته على ثقافة الطعام الياباني: «في العصور الوسطى، كانت صوان عدة من الطعام تُقدم إلى المحاربين في الوقت نفسه. وما جاءت به حفلات طقوس احتساء الشاي تحديدًا هو الاكتفاء بصينية واحدة أو اثنتين من تلك الصواني الكثيرة وتبسيط وجبة الطعام». ويضيف: «أما نسخة كايسيكي المعتمدة في المطاعم، فتقوم على تقديم أصناف الطعام تباعًا عوضًا عن وضعها على المائدة دفعة واحدة».
طبق الساشيمي التقليدي «أوتزوكوري»
بدأت المطاعم اليابانية الأكثر فخامة والرائدة في توفير تجارب كايسيكي، تترسخ بعد انقضاء نحو قرن من الزمن على تلك الاحتفالات المرتبطة بطقوس تقديم الشاي. بمرور الوقت، تطورت في المقاهي والنزل مطاعم توفر تجربة كايسيكي لمسافرين يزورون كيوتو التي شكّلت عاصمة اليابان على مدى أكثر من ألف سنة. انتقلت هذه الوجهات من تقديم الوجبات الخفيفة إلى إمتاع الزائرين بوجبات تذوّق متكاملة ومتعددة الأطباق.
طبق اللحوم المشوية «ياكيمونو»
لا تزال بعض تلك المطاعم القديمة تنشط إلى يومنا هذا في كيوتو، كحال مطعم هيهاشي جايا الذي كان في الأصل نزلاً لتقديم الشاي تأسس سنة 1567. يقول راث: «كان المسافرون يتوقفون في هذا النزل للتزود بالمؤن كأنهم يدخلون بقالة». أما مطعم هيوتاي، الحائز ثلاث نجوم ميشلان، والواقع بالقرب من معبد نانزن – جي، فكان في القديم يوفر وجبات الطعام للزائرين، وها هو بعد انقضاء 400 عام على بداياته لا يزال تابعًا لملكية العائلة نفسها. يمثل يوشيهيرو تاكاهاشي الجيل الخامس عشر من هذه العائلة وهو يعمل طاهيًا في المطعم. لكن تجربة كايسيكي لم تبق حكرًا على زمن السلالات الحاكمة في اليابان. ففي حقبة اليابان الحديثة، بزغ فجر مطاعم بارزة عدة على غرار مطعم كيتشيزن الحائز ثلاث نجوم ميشلان والذي افتتحه الطاهي يوشيمي تانيغاوا سنة 1983.
طبق السمك المطهو على البخار «موشيمونو»
بغض النظر عن الأصل والمنشأ، تتشارك المطاعم التي توفر لمريديها تجارب كايسيكي المبادئ الإرشادية نفسها لدلالة الوجبة وتقنيات إعداد الأطباق وطريقة تقديمها. في هذا تقول ناكاياما: «إن الفكرة الفلسفية التي تنطوي عليها تجربة كايسيكي تقتضي بأن يعبِّر الطاهي من خلال ابتكاراته عن محيطه وأن يتحدث عبرها عن الطبيعة. لذا عليه أن يأتي بجميع المكونات الموسمية الرائعة ويبحث عن التقنية المثلى لتقديمها. على هذا، يقتضي الأمر دومًا أن يعيد الطاهي ضبط طريقة فهمه لكل مكوّن حتى يجد الطريقة الأفضل لتسليط الضوء عليه. فالجزر في الوقت الحالي قد يكون لذيذًا بحق إن تناولته في طبق السمك النيء «ساشيمي». لكن مذاقه قد يكون أطيب غدًا إن تناولته مدمّسًا. أو ربما قد تحتاج لإبراز نكهة الجزر إلى قليه».
طبق الباستا «شازاكانا»
عند ناكاياما، يشمل أيضًا اختيار المكونات الصحية لحظ مظهرها الجمالي. للألوان دور مهم في تقديم أطباق توحي للضيوف بطبيعة الموسم. فالغلبة في فصل الربيع تدرجات اللون الزهري، فيما يسود الأخضر صيفًا. بينما تزهو الأطباق في فصل الخريف بألوان الأحمر والأصفر والذهبي، فإنها تكتسي شتاء بالأبيض والألوان الداكنة.
يتكشّف هذا التعبير عن الطبيعة في سياق أطباق بديعة وصغيرة الحجم يُراد لها أن تقحم في التجربة مختلف حواس الضيف وليس ذائقته فحسب. وفي هذا يقول راث، الذي درس فن المسرح الياباني قبل أن يحوِّل تركيزه إلى الطعام في أعقاب اختباره تجربة كايسيكي في كيوتو: «إن العنصر البصري مهم جدًا في فن الطهي الياباني. بل غالبًا ما يُقال إن المرء يتذوق الطعام الياباني بناظريه». يقول راث عن تجربته الخاصة في كيوتو: «لقد أبدع الطاهي حقًا في طريقة تقديمه للمكونات. فما عكسته أطباقه من تميز في الأداء وطريقة التقديم بهرني بما فيه من تشابه مع الفن المسرحي الياباني».
طبق اللحم البقري «نيكو»
بينما يمكن للطهاة أن يعدّلوا في شكل تجربة كايسيكي بحسب ما يلائمهم، فإن الوجبة نفسها تتبع سياقًا محددًا لا ينبغي أن تغيب عنه بعض العناصر. لكل طبق دلالة، ومن الضروري أن يكون مرتبطًا بالطبق الذي يسبقه وذاك الذي يليه. في مطعم «أن/ ناكا»، تبدأ الوليمة بالجمع بين الاعتيادي وغير المألوف على نحو يحفّز على الفور تفكير الضيف، كأن يجمع الطبق الأول مثلاً بين محار مصدره مدينة كوماموتو وهريس اللفت. يتبع ذلك طبق زينساي، وهو نوع من المقبلات يُعد من مكونات موسمية ويُنبئ بما قد تنطوي عليه الوجبة لاحقًا. تقول ناكاياما: «إن كنت مثلاً سأقدم كبد الإوز، من الضروري أن يشتمل طبق زينساي على شيء من الإوز. فهذا الطبق يشبه صفحة المحتويات التي تطالعك لحظة تفتح دفّتي أي كتاب. فأنت ستتساءل عما يحدث الآن وعما سيحدث لاحقًا».
طبق سلطة الخيار «سونومونو»
يذكر أن ناكاياما تميل إلى الخروج بعض الشيء عن الشكل التقليدي لتجربة كايسيكي، فتقدّم ترجمة محدثة لطبق الساشيمي قبل أن يحين موعد طبق «أوان» owan، أي الحساء. عن هذا الطبق تقول ناكاياما: «الفكرة تكمن في تقديم طبق غير ثقيل من الحساء المنكّه بشكل خفيف من أجل تنقية حليمات التذوّق قبل الشروع في تناول طبق الساشيمي الرئيس». فبعد الحساء، تُقدّم ناكاياما نسختها التقليدية من أطباق الساشيمي، يليها طبق من اللحم المشوي، كلحم الأنقليس مثلاً. تقول ناكاياما: «بما أن طبق الساشيمي بسيط وخفيف، أحرص على الانتقال بعده مباشرة إلى طبق غني قبل العودة مجددًا إلى السمك المطهو بالبخار بغية تنقية حليمات التذوق».
طبق سوشي الأرز «شوكوجي»
لدى بلوغ هذه المرحلة من تجربة كايسيكي، تعمد ناكاياما إلى ابتكار عنصر مفاجأة يتمثل في طبق «شيزاكانا» الذي تقول الطاهية في سياق وصفه: «إنه لا يحتكم إلى التقاليد». ففي هذا الطبق تحديدًا، تعكس ناكاياما حبها لأطباق الباستا، التي لا تحضر في تجربة كايسيكي تقليدية، فتقدّم مثلاً عصائب السباغيتي مع المحار. في أعقاب ذلك، يحين موعد تقديم طبق «نيكو» niku، أي طبق اللحوم الذي قد يشتمل مثلاً على شريحة كبيرة من لحم واغو البقري من نوع مازاكي فائق الجودة من الدرجة A5. بعد ذلك، يُقدم طبق من السلطة، فطبق من الأرز في هيئة لفائف سوشي، ثم طبق الحلوى المعد من الفاكهة الموسمية لتنتهي الوليمة بكوب من الشاي. تقول ناكاياما: «أشعر بأن الوليمة أشبه بألبوم صور. فكل طبق يرتبط بغيره، وثمة فكرة شاملة وراء الوجبة ككل».
طبق حلوى من الفاكهة الموسمية «ميزومونو»
قد لا يشكّل تدفق الأطباق تباعًا في سياق وليمة تذوّق على طريقة كايسيكي تجربة مبتكرة ومستحدثة لأي شخص اعتاد ارتياد المطاعم الراقية، لا سيما الفرنسية منها. ففي نهاية المطاف، يكفي أن تزور مطعم «بير سي» Per Se أو مطعم «ذا فرانش لاندري» The French Laundry اللذين أسسهما الطاهي الشهير توماس كيلر لتختبر في الطبق الأول الدمج بين الاعتيادي وغير المألوف على حد تعبير ناكاياما.
يقول كيلر: «نستهل الوليمة بطبق ماتع وأشبه بمحفز لكسر الجليد. فحين تنظر إلى طبق المقبلات الذي نعده في شكل مخروطي، ستقول إنه يشبه بسكويت المثلجات المخروطية الشكل. هذا ما يذكّرك به الطبق، لكنه في الواقع بسكويت مقرمش محشو بالكريمة الحامضة والبصل وسمك السلمون. إنه طبق بنكهة عادية لكننا نقدمه بطريقة مختلفة».
طبق حلوى من الفاكهة الموسمية «ميزومونو»
أما ظاهرة انتقال الروح المميزة لتجربة كايسيكي خارج حدود المطاعم المتخصصة حصريًا في المطبخ الياباني، على غرار «أن/ ناكا»، و«كيتشيزن»، و«هيوتاي»، فتُعزى جزئيًا إلى بول بوكوز الذي يعده كيلر مثله الأعلى. فالطاهي، الذي أحدث ثورة في المطبخ الفرنسي في ستينيات القرن الفائت وسبعينياته مع تطويره مفهوم المطبخ الحديث، زار اليابان وأعجب أشد الإعجاب بجماليات تجربة كايسيكي وتطورها عبر السنين. وإذ ذاك، عمد بوكوز إلى دمج عناصر من هذا الفن في فلسفة الطهي الخاصة به وفي مقاربته لتطوير وجبات تذوّق متجانسة العناصر. وإذ انتشر تأثير مقاربة بوكوز على نطاق عالمي، شاعت أيضًا العناصر التي استلهمها من تجربة كايسيكي على نحو دفع بالطهاة من سانتا مونيكا إلى شارلستون للشروع في تأسيس مطاعم خاصة بهم تدور حول هذه الممارسة. يقول كيلر: «إن تجارب تذوّق الطعام التي يمكن للمرء اختبارها اليوم في أرجاء مختلفة من البلاد، ترتكز في الأصل إلى هذا النوع من التقاليد، سواء كانت مكونة من اثني عشر طبقًا أو من خمسة وعشرين صنفًا». يستطرد كيلر قائلاً: «إن تجربة كايسيكي هي ما نقدّمه في مطعم ذا فرانش لاندري موفرين للزائر مجموعة من التجارب المختلفة التي تتعاقب حتى تصل به إلى ذروتها».
في طقس كايسيكي، ينبغي أن يكون لذروة التجارب دلالة تتجاوز الاستمتاع بمذاقات وجبة متقنة الصنع وحسب. فالأمر لا يقتصر على الاستمرار في تطبيق تقنيات الطهي بشكل روتيني واتباع إرشادات محددة حول إعداد وجبات التذوّق. تقول ناكاياما: «يحمل لنا الموسم الحالي هذه الخضراوات والفاكهة الرائعة، وخيرات كثيرة يمكننا اصطيادها من البر والبحر. فكأن في ذلك تذكيرًا لنا بأن الحياة أكبر منا، وأن علينا أن نكرّس بعض وقتنا لتثمين خيرات الطبيعة. يفترض بنا أن نشعر بالامتنان، وأن ننظر بعين التقدير إلى اللحظة التي نعيشها الآن وهنا».