يوم استفتحنا بذلك العنوان العددَ الأولَ من مجلة روب ريبورت العربية لم يكن مرادُنا توصيفًا لعمل يقول لقرائه هاؤم اقرؤوا أولَ كتابِيَهْ وليس في الكتاب إلا أول الخط وبدايات السطر. ولم يكن، على أي وجه يتأتى تدبُّرُه، تزكيةً لما يتعذر، بل لما يُستنكرُ على الصحيح، تزكيتُه من أصحابه خاصةً. إنما أردنا أن نستفتح بتبيان الهدف الذي يصبو فريقنا إلى تحقيقه، والكشف عن منهج المجلة الذي تنبني عليه ركائز النجاح وطرائق بلوغ مطالبه تألقًا وتأنقًا وإتقانًا للصنعة. ولم يكتنف ذلك العنوانُ القديم المتجدد وعدًا مرسلاً نعد به قراءنا لا سبيل للوفاء به. إنما كان تأكيدًا بأننا نتابع في جديدنا الذي أطلقناه في مطلع عام 2010، عندما أصدرنا أول أعداد النسخة العربية من هذه المجلة العالمية، ما كنا قد أصدرناه في شركتنا من مجلات عالمية سبقت هذه المجلة. وقد كان العنوانُ لا ريب عنوانًا لمرحلة في البناء الاستثماري الذي اجتهدنا في العلو به عامًا يعقبه عامٌ ونحن نشيد مشروعًا اندرج في سياق تصور استراتيجي واسع صيغ لتنويع أوعية محتوانا ومنتجاتنا الإعلامية العالمية المتخصصة بالتشارك مع كبريات دور النشر العالمية وأشهرها. فصدرت هذه المجلة، على ما صدر ما سبقها ولحق بها من مجلات ومشاريع، تحقيقًا لرؤية في التطوير أخذت بها شركتنا، على تناغمٍ وثيقٍ وحسنِ تلاقٍ مع ما نهضتْ إليه مجموعتنا لتعزيز مظان النمو المستقبلي في صناعة النشر عامةً، والمحتوى المتخصص خاصةً، ولمواجهة تحديات الصناعة في زمن التحولات الرقمية وما استتبعها من تغيرات في المشهد الثقافي والمعرفي والاستثماري والاجتماعي والاقتصادي وقد اقترب ما يباعد بين المجتمعات المختلفة والثقافات التي كان يغلب على ظن الظانّين أنها متباينة فيما يستصغر من أمر ويستعظم من تغيير. واليوم، وقد بلغ عمر المجلة في هذا الشهر، يوليو، مائة عدد من المتعة جمعنا فيها طوال السنين المنصرمة بين جهد المجتهدين، وجدّ المجدّين، وبراعة المبدعين، ومهارة من أضافت المجلةُ إلى تميز عملهم شغفًا جميلاً، فبسطوا على صفحاتها جمالاً من الفكر ولطائف التصور بما يُرجى أن يستمتع به القراء- فإن العزمَ اليومَ بعد الأعداد المائة إنما هو نفسه ما كان عليه أولُ العزم قبل المائة. ولا يزال الدأبُ الجميل يستتبع دأبًا مثله يستصحب وجذوةَ الشغف المشتعلة أملاً مستبشرًا بما يلي هذه الجهود من جهود، ويتولَّد عن هذه الرؤية، أو المشروع، أو المجلة، من رؤى ومشاريع ومجلات تقترب بسعي حثيث من المستقبلِ قبل أن يطرقَ أبوابَ الحاضرِ المستقبلُ.
من خَبِرَ على توسع دقائقَ هذه الصناعة، تصورًا وتخطيطًا واستثمارًا وتنفيذًا وإنتاجًا، يعلم أن في مثل هذه الرؤى والمشاريع ما يجب أن يحتشد على صياغتها وصناعتها، من حيث كونها فكرة في المبتدأ، ومن حيث تصبح منتجًا في المنتهى، شغفٌ في المبتدأ أيضًا والمنتهى يزيد على ما يولّده في النفس من سرور وحبور أنه يحاصر من مساحات المخاطر الاستثمارية التي ولجناها على متعة عزز منها حرصٌ على التطوير، وسبقٌ إلى ما نؤمن أنه يرقى بأعمالنا إلى ما بلغته من شأو متميز رصيفاتُها العالميات يعزُّ نظيرُه وإن كثُر في الأسواق شبيهُه.
وعلى كثرة ما هجم على صناعة المحتوى والنشر من تحديات تتعاظم يومًا بعد يوم، فإننا لم نكن نرى أن أكبرَها تحدياتُ المنصات وتنوعها من ورقية أو رقمية أو بصرية أو سمعية. إنما ذهبنا دومًا إلى أن أعظم هذه التحديات ما كان لصيقًا بالركائز الثلاث الأهمّ التي تدور عليها الصناعة نفسها، وأولاها المحتوى الذي ينبغي دومًا أن يتميز تدبرًا وإحاطةً وتجديدًا وبناء. وثانية الركائز صانع المحتوى الذي ينبغي له أن يدرك دومًا ما يطرأ على العصر من تغيير، وأن يحسن تصور مطالب القارئ الجديد فيحث الخطى لأن يحيا ذلك الصانعُ في حاضره مستقبلَ قرائه، ويجتهد لتطوير ذائقته الثقافية والمعرفية والتقنية ليحدّث القراء الجدد بما يعرفونه من زمنهم ولا ينكرونه من زمن صناع المحتوى المقلِّدين الذين يصرون على فهمهم القديم المتداعي لصناعة الخطاب الإعلامي الذي قام على ظن ضعيف ولَّده تصورٌ أشد ضعفًا ذهب إلى أن القارئ يفيق ليوم جديد منتظرًا «وحيَ» من جلس في علياء الوهم ليروي له حكايته عما فاته في الأمس الذاهب إلى حيث لا ينتظره أحد. أما ثالثة الركائز، فالقارئ الجديد الذي انفتحت له أبواب كون واسع من الخيارات يتردد بين ما يستحسنه ويرضي ما يتطلع إليه فيقبل عليه دومًا، أو ما ينكره فينصرف عنه ولا يعود إليه من بعد أبدًا. ولم تكن المنصات على تنوعها ما هدد الصناعة وأضعف ورقها وعزز من عالمها الرقمي، فهذه مرحلة ثانوية وإن كانت مهمة بيد أنها ليست مكمن الخطر في الأصل. إنما يكمن الخطر في المرحلة الأولى الأهم ويتعاظم إن تهافت المحتوى وغلبت عليه ثرثرة من لا يعتد بقوله، وحشوُ من يستغنى عن حشوه. يستوي في ذلك الحشو اللغوي والحشو المعرفي وأن يهرف كل ذي قول بما لا يعرف. أما المحتوى المتميز فسيأتيه طلابُه على أي منصة قرؤوه أو سمعوه أو شاهدوه.
يبقى ثمة ما ينبغي أن يستذكر: إن تلك التحديات التي أحاطت بصناعة المحتوى والنشر لم يكن ينبغي لها أن تقلق متبصرًا ذا خبرة يحسن استشراف تحولات المستقبل وما يعد به. ولا يخفى على من تفكّر وتدبّر أن تلك التحديات اكتنفها من الفرص الواعدة ما يربو أضعافًا مضاعفة عما توهمه المتوهمون من مخاطر متخيلة. ومن مسوغات تلك الفرص التي فتحت أبوابًا واسعة للاستثمار إدراك أن القارئ إنما هو مقيم على ولائه الثقافي والمعرفي لما تصنعه، ما أقام صناع المحتوى جهدهم على طلب التميز والحرص عليه، وإذا ما جاؤوا القارئ بما ينشَدّ إليه من محتوى يرقى إلى ذائقته الثقافية، ويضيف إلى وعيه ثراء معرفيًا ماتعًا، بما يطمئن إلى علو مستواه في الصناعة على نحو ما يألفه من محتوى عالمي متميز يتلقاه قراؤه بالقبول.
أما بعد، فإنا إذ نرجو بعد المائة أن يزيد تلقي المتلقين لجهدنا بالقبول، فإننا آخذون بالطرائق التي تقرّب بيننا وبينهم المسافات. وفيما يسرُّ، على ما نأمل من أخبار، إخبارُكم أن مجلتنا ستصل إلى قرائها رقميًا في عهد قريب ليس بعيدًا عن خريف هذا العام. وسيجدون في المنصات الجديدة متعة ممتدة بين ما نعمل على إصداره شهريًا، وبين ما نبثه يوميًا من أفكار وموضوعات تأتي القراء بجديد نرجو أن يجدوه ماتعًا وشائقًا.
ربما كان أهم من المنصات وتنوعها أن نكشف عن أن هذا العدد سيعقبه من قريب ما يتزين بوحي ربَّات الشعر والحسن والجمال في إصدار يخصهن يفوح من شذا عطرهن، ويتلون بألوانهن. فأجمل بوح الورد أن يهدي شذاه إلى المنغسلة أرواحُهم بندى فجر يوم جميل، وأن يزين بحمرة خديه، يا لحمرة خديه، خدود الحسان.
بلغنا المائة عشقًا وشغفًا بما ننثره ونكتبه ونأتيكم بخبره من كل فجٍّ جميل. والعقبى لمائة مضمخةٍ صفحاتُها بشغف لا تذوي جذوته، تعقبها مائة من شغف نعلم أوله ولا ندرك منتهاه.