أسودها أحمر
أسودها أخضر
وليلُها سماءٌ من ماس وياقوت...
قصيدها زمرّد
ونثرها زبرجد
ويومها ياسمين من أساور وعقود.
بينها وبين الورد حكايات وأسرار
مثل قصص العطر التي تهمس في المساء
ذاك وردها، وهي عطره،
وسرُّها كسرّه بين فجره ونداه.
في بوحها ألف سنة من العشق،
وألف سنة من الصبر،
وسكينة التاريخ...إذ يستكين على لواحظها التاريخ
وزمنها ممتد بين النبض والنبض،
فما أبعدَ في الانتظار انتظارَ التاريخ!
كانت تحتشد على أوراقها الخطوطُ، والألوانُ، والحكاياتُ القديمةُ، والكلماتُ المنثورة وغير المنثورة، والأسرارُ، والهمومُ، والأشواقُ، والأحلامُ، قصائدَ من موسيقا تُرى ولا تُرى، تُسمع ولا تُسمع. تحتشد كما ينبعث بريقُ الأزل في عينيها إذا ما داعبتها كلمةٌ، أو هبّت نسائمُ المعاني وتمايلت ورودُ خدَّيها لهمسات السَحَر.
إنها الصمتُ الذي يتحدث بألف كلمة ولا يقول أحيانًا أي كلمة. إنها الإلهام الذي يأتي في أول الليل أولُه، ولا ينقضي في آخرِه آخرُه. وهو الصمت الذي يضطرك، اضطرارَ العاشق، إلى أن تقتنص، لينتظم نبضُ القلب، شواردَ معانيه، ولطائفَ مقاصده، إذا ما أَنِسَتْ إلى طريقتها القديمة في أن يقول صمتُها كلَّ شيء، أو لا يقول في الأشياء شيئًا معلومًا. هكذا حال العاشقين إذا ما استبد الخِلُّ بخِلِّه، وقستْ ربّاتُ الجمال فتركن الشاعر لجنون شعره، وضجيج صمته يؤنسه أو يعذبه!
ثم إنه القلق في زمن العشق المتغير، وكأن العشاق قد تبدّلت مذاهبهم وطرائقهم فيما يعشقون: يزيدهم العشق قلقًا بعد أن كان يأتي في أزمنة العشق الأولى بطمأنينة الأرض إذ يستوطن العاشقُ قلبَ من تأتيه في صبحه بالقصائد والمساءات. وبين ما يُعلم من أسباب، ويُجهل من أسباب، تتقلّب أحلام العاشقين، وتتبدّل أحوالهم بين ما يطيقونه وما لا يستطيعون عليه صبرًا.
إنه الكلام الذي تنتثر معانيه كبريق اللآلئ قصائدَ، ويفوح من ثغر وردها ألفُ عطر من أنفاسها. وهو الكلام الذي يقيلك من شعرك فتسكتُ شعرًا، دهرًا أو بعض دهر، وقد تمنّع الكلامُ، كلامَك، إذا ما نطق الكلامُ، كلامَها. فتنحبس في عيٍّ قصائدُك إذ تجد أن شعرَها جبّ شعرَك، وأن معانيك قد نُسخ كلامُها، ثم أتى بها كلامُها في حلّة قد تزيد على ما كنتَ تظن أنك قادر عليه جمالاً وبهاء. في مثل هذا يستقيل الشعراءُ من فرح، ويعلنون الصمتَ الواجب وقد نطق الشعرُ وحده على غير ألسنتهم، واستعلنتْ معانيه بغير ما ينظمونه شعرًا وعطرًا وسحرًا. وكان يسرها، في الأمرين، الأمران: إن كتبتُ شعرًا أو أَقلْتُ الشاعر من شعره، واستقلت هي، من قبل ومن بعد، بأمر الشعر ومن كان شاعرًا. إنما الشعر شعرها، يستخرج كالدر من بريق عينيها.
قد سُمع الشعرُ كلامًا
ألفه العشاق موسيقا وكلامًا
جربتُه فيها صمتًا
كلمةً
أو فكرة
أو همسة
هدوءًا صاخبًا
ألوانًا متناثرة
أحلامًا ملونة
أملاً يطال أديمَ السحاب
نبضةَ قلب
جربتُه سكونَ ليل
قطرةَ ندى على خد وردة
دمعةً
ابتسامةً
تصنع ألف قصيدة
وقصيدة...
ثم إنها تلك المرأة التي تلهم شاعرها شعرًا إن أبانتْ عن بعض دواخلها، أو تكلمتْ في صغير أو كبير، أو تنقلت في فضاءات الجمال اللواحظُ. وهي تلك المرأة التي يكتبها الشاعرُ قصيدةً إن هدأتْ وسكتتْ عن الكلام الذي يُسمع والذي لا يُسمع، حتى وإن أبتْ عيناها إلا أن تتحدث بما يفصح وما لا يفصح. إنها سر من عطر يبين عن بعض سحره ولا يبين. والأمر متروك لك في أن تختار كيف تحتار، أو أن تحتار في تخيّر التأويل فتتبدل عندك الاختيارات بين تأويل تقبلُه، وتأويل تنكره، وتأويل تستحسنه، وتأويل لا ترضاه. إلا أنها، على كثرة ما يحيّرك من أمرها أحيانًا، مما يرضيك أو يسوؤك، عقل جميل يوجب عليك في العشق الواجب أعظمَه، وهذا أقلُّ العشق وأضعفُ الوجْد، وليس بعده من مثقال ذرة تبقى لشاعر من وَلَه!
شغلتْ نفسها بالأفكار والألوان والإبداع. وانشغلت نفسها بكبرياء الجمال وعنفوان الحسان. فتُقبل إذ تُقْبل ساعاتها في يومها كما يتفتح الورد لشمسه، وتدبر دقائقها في أصيلها ليبدأ من بعد زمن القصيد وعشيات الحصاد.
وأنت بين غدو ورواح
روحُك، إذ تروح، في غدو ورواح...
جَمَعتْ، إذ جَمَعتْ في نفسها، بين الأضداد الجميلة، بعضها أجمل من بعض: رقة مثل رقة الورد، وصلابة كصلابة الألماس، وعذوبة مثل خَفَر الياسمين، وحدة في الطبع كما يغضب الموج من الشطآن، وخفر مثل حياء الزنابق إن تزينت بها أجمل الحسان.
كانت مرآة لما تستطيع أن تدركه من لطائف الحسن الآسر وما يجتهد، أعظمَ العشق، مجتهدٌ من أهل الشعر في اقتناص شوارد معانيه البعيدة ليسمو ببوح العشق وتذكّر الحبيب الذي ملأ فضاءات ليله ونهاراته، في ليل شاعر أو نهار متأمل. وهي تشعرك دومًا أن ما تستخرجه من درّ إنما هو من بحر عينيها، أو من تلك الشواطئ البعيدة التي تتراقص لموج تنهيداتها. كانت إذ تقرأ شعري، أو تستقرئنيه، أجد في قراءتها معنى من المعاني جديدًا قد أيقظته من مرقده، أو أعادته إلى فضاءاتها بعد أن كان طليقًا في فضاء الشعر الخفي. فزادت على صنيع ربّات الشعر في الإلهام نشرَ شذا المعاني، إذ تهمس بها، سديمًا براقًا مثل سديم السماء، مثل رشة العطر في الفضاء.
على ما انسجم في نفسها، أو تنافر، بين ما تبوح به وبين ما تكتمه، كان يبدو انسجامها على غرابته جميلاً. وكانت تذهب إلى أن في النقص، كما في التمام، جمالاً غير منقوص. فقد يكون تمام بعض الأشياء في نقصانها. كما قد يكون في التمام نقصان لا تدركه بتمامه، وإن نقص، إلا بصائر نيرة.
كانت امرأة تشبه في قليل النساء، ولا تشبه في كثير غيرها من النساء في جد وهزل، في بوح وسكوت، في فرح وحزن، في همة وعزم. وكانت تصر على أن تبقى في الأحوال كلها على حال واحدة، إذا ما رضيتْ وإذا ما غضبتْ، إذا ما كتبتْ وإذا ما رسمتْ، وإذا ما أَلهمتْ أو أُلهمتْ: سرًا من عطر وقلبًا من ياقوت...