شتان بين اعتزال واعتزال...فرق بين أن تختار، وأن يقهرك ما لا تستطيع له في جميع الأحوال ردا.
أن تنعزل بنفسك عن الناس، مختارا أو مكرها، إنما هو ضربٌ من ضروب الترف أحيانا وقد اصطفيت لك حيّزا يخصك من مكان أو زمان لا يزاحمك فيه كثير، ولا يشاركك فيه إلا من تشاء، وما تشاء، ومتى تشاء. فثمة مفازة للانعتاق، أو للتأمل، والتفكّر، أو المناجاة، أو الهرب حتى من نفسك وهدير أفكارك التي لا يهدأ ضجيجها، وخططك التي لا تكلّ ولا تمل فيما يأتي وما لا يأتي، وفيما تستطيع أن تحسنه أو تبدعه أو تتقنه. إنك محتاج إلى أن يخلد إلى الراحة قليلا ما دأبُه فيك أنه يجري من غير هوادة طلبا لتحقيق ما تشاء من أهداف تستكبرها أو تستصغرها، أو إنجازات تعلي من قيمتها نفسُك. ثمة ترجع النظر فيما قدّمته، أو أخّرته، أو لتستجيب إلى نداء بعيد في أعماقك يستحثك على أن تركن بنفسك إلى نوع من الهدوء، يطمئن به قلبك، وتستكين به روحك، ويرتاح به عقلك. بل إنك منجذب في هذا الانعزال إلى نوع من الكسل المطلوب لذاته تأنس فيه إلى حسّ، قد لا يسوّغه عندك منطق، يغلّب أنك منجز شيئا في هذا الكسل حتى ولو لم تنجز شيئا تعدّه في الإنجازات عظيما أو صغيرا. قد تجد في هذا الكسل ما قد يتجدد من طريقه وجدانك الذي بلي، ووعيك الذي أنهكه التعب في حياة لا تعيشها في أكثر الأحيان، إنما تجري فيها، أو تلهث وراءها، أو تهرب منها. ثمة ملجأ في الانعزال من ضجيج الدنيا، وصخب نهارها، واضطراب ليلها، وقد عزّت في الحياة السكينة والطمأنينة. ما أشد الحاجة إلى أن تقف قليلا وتنأى بنفسك عن الأشياء لتستردّ ما فرّقته الأيام من شتات نفسك وتنهض وقد تجدّدت فيك الروح والعزائم.
أول متعة هذا الانعزال أنك أنت نفسُك تختاره، وتطلبه، وتتلمّس فوائده الدانية والقاصية. إنه الهدوء الذي يحسن تنظيم ما اضطرب في دنياك، وتوزّعته الهموم حتى ولو كان في مآلات تسرّك. في مثل هذه الأحوال التي تختارها سترى مقدار ما فرّطت به أو ضاع عنك من زمن شهدته ولكنك لم تعشه، ومقدار ما حُرمتَ من سرور تستجلبه هذه السكينة التي يحيا بها ما قد يكون مات من نفسك. وسترى أثرها الذي يشبه أثر نوم عميق بعد ليال من التعب والنصب، فتستيقظ من بعد روحُك إلى فجر في حياة متجددة أجمل، وإدراك لكُنْه عيشك أعمق. وستعظم فوائد هذا الانعزال إن وجدتَ أنك تتقي فيه ما يضرّك، وتستدرك كثيرا مما فاتك وقد أنهكك كرُّ الأيام وتوالي الليالي. فثمة متسع من وقت تستكشف فيه نفسك، فتستحضر مما مضى ما قد يكون غاب عنك من جميل ما نسيته أو فاتك تذكّره، وتتأمل، وقد استخلصتَ إليك نقاء وعيك، ما تعيشه، وتحسن أن تتدبّر ما أنت مقبلٌ من بعد في أيامك عليه.
ذاك في انعزال الاختيار، أو الاضطرار، وأنت قادر عليه، مستكشف لفوائده، طالب إياها. وثمة على صعيد الاضطرار نفسه من لا يقدر على الانعزال وقد قلّتْ مساحة المكان، وعزّتْ فسحة، ولو صغيرة، من الزمان. فكيف ينعزل من يعيشون في أبعد هوامش الحياة وهم في حياتهم كلها في حبس يشبه حفرة لا يفترق كثيرا عما يُسجن بسببه من يُسجن خلف أسوار عالية؟ كيف ينأى بأنفسهم عن مسببات ضنك العيش والأمراض والعدوى من كانوا قد حُجروا في تاريخهم كله، المعلوم والمجهول، على ما بقي من رمق عيشهم في حجرة كزنزانة أكبر من قبر، وأصغر من هموم الصباح والمساء؟ كيف يحبس أنفسهم على ما يقيهم من مرض من انفتحت فضاءاتهم الصغيرة على أوسع أبواب الفقر، وأضيق ملاذات الأمل، وأعتم حوالك الليل والنهار؟ هل ينجو الفقراء والمهملون ومن توزّع قهرهم في المخيمات والعشوائيات وقرى الفقر، وبيتهم، أو خيمتهم، فسحة ضيّقة تزدحم فيها الهموم والأنفاس؟ وكيف ينعزل المشردون البائسون المختبئ بؤسهم بين الظلال والظلال الذين استوى عندهم أن يزورهم الموت في بيوتهم من مرض أو جوع، أو أن يهجم عليهم في أزقة البؤس وشوارع الضياع وهم يبحثون عن لقمة تقيم أوَدَهم وأوَدَ من يعولون؟
ألّا يجوع من تحمّل هموما كالجبال ثقالا على كاهله فهذا ترف من نوع جديد لا يألفه من تمددتْ حياتهم على خطوط الفقر والقهر أعلاها وأدناها. أن يتحرر هؤلاء المعذَّبون في الأرض من بعض هموم العيش، أو يتخففوا من أحمالها، إنما هو ترف لا يقدر عليه إلا قليل منهم، بل أقل القليل. أولئك المشردون الهاربون اللاجئون الحالمون المحبوسون وراء أسلاك الحياة الشائكة التي تطوّق أحلامهم وآمالهم، الذين استوت عندهم احتمالات الحياة والموت، ماذا ستفعل بهم هذه الجائحة التي هجمتْ عليهم من كل حدب وصوب، وتترصدهم، أكثر من غيرهم، أسوأ عواقبها إن هم خرجوا من محابسهم أو إن مكثوا فيها؟