الإنسان ابن بيئته. مقولة عرف من تدبرها صدقها ومطابقتها في الغالب الأعم لواقعها. ولقد قالوا قديمًا: «من بدا جفا». ويألف كثير من الناس بقعة من البقاع، أو مجتمعًا من المجتمعات، لأسباب ليس من بينها النسب والقرابة واللسان. لذا كان وطن الإنسان، حيث تطمئن الروح، ويصفو الوجدان.
بعض ما يصنع هذه العلاقة بين الإنسان والمكان أمور صغيرة في كثير من الأحيان، ليس منها، بالضرورة، الأمور الكبيرة المتصلة بالقضايا الكبرى التي تشغل الناس كالسياسة، والثقافة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية... وربما كان بين هذه الأمور الصغيرة ما يجعل المرء يأنس لأرض، أو يجتوي مدينة.
على هذا لا يستغرب مثلاً أن تجد بين العرب والإيطاليين نوعًا من نسب التاريخ، وجوار الحضارة، وصخب الاجتماع، وزيت الزيتون، ورائحة الخبز الساخن. وإن كان منطق الحجارة اليوم، وعقليات التحجر، تضيِّق ما اتسع من مساحات التاريخ، فإن ثمة إلفًا، عرفه من عرفه، تأتي به السنابل التي تتراقص لنغمات النسائم وابتسامات الأفق.
ربما جربتَ إن شرَّقتَ أو غرَّبتَ، أن عجمة اللسان لا تمنع تواصل الوجدان، وتلاقي العقول بين الحضارات والثقافات. هذا في الحد الأعلى. وثمة، في الحد الأدنى، في خضرة الحقول، وحديث الألوان، ورائحة الأرض، ودفء الإنسان ما يجمع بين الشتيتيْن، ويقرِّبُ بين من يظنون أن لا تلاقي...
ربما كان من أول ما يهجم عليك من مشاعر إن يممت شطر روما أو صقلية، أن في تلك البقاع ما يولّد سريعًا إحساسًا بالأنس والإلف والوداد. انظر إلى أصص الزهور التي تطل على الناس من الشرفات العالية، واصغَ إلى جلبة الشوارع، وتدبر ألوان الجدران، وحجارة الأزقة، فإنك واجد، لا ريب، شيئًا من أشياء ألفتها في ذاكرة بعض المدن العربية. فهذا يشبه شيئًا في بيروت، أو شيء يشبهه في القاهرة. وهذا لون أو عمارة أو رائحة تذكرك بصنوه في تونس، أو دمشق، أو عمَّان.
وكأن ما كتبه حافظ إبراهيم في القاهرة إنما أراد به روما يوم أن قال:
ولـــــــذيذ الحـــــــياة مـــا كـــان فــــوضى
لــــــيس فــيــــــهــا مســــــيــطر أو أمــــــــــير
نعم إن فتحت سجلات التاريخ تقارب ما تناءى في الجغرافية، ودنا دانتي من شيخ المعرة، وسارا معًا في أزقة الدنيا، واطلعا على أحوال الآخرة، نعيمها وجحيمها.
ذلك الهواء الذي يصنع لتوسكانا ألقها، ولصقلية رونقها، ولسردينيا زهوها، تشبه بعض نسائمه ما يدغدغ أوراق الشجر التي تغفو على مرتفعات لبنان وجباله. فثمة في مناخ الإقليم وثقافته التي تهادت بين أمواج شطآنه، وفي بعض بقايا تاريخه، ما يعظم الحنين إلى تلك الأشياء التي تخبئها بقعة خاصة، في زمن خاص، في مساحة من الذاكرة لا ريب، خاصة، مثل قطرات الندى على أوراق الزهر، ورائحة الأرض إذا ما غسلتها مياه السماء، أو حتى زرقة السماء نفسها التي يغيب لونها كثيرًا، أو تراقص أشعة الشمس على أمواج البحر التي تقبل عليك بفرح وحنان، ورائحة الحطب! هل جرَّبت أن تشم رائحة الحطب بعيد الفجر وقد امتزجت برائحة الخبز الذي تنضجه ناره؟ أو جرَّبت أن يوقظك غناء العصافير والصَّبا وقد امتلأت نسائمه بروائح الزهر والريحان؟
هذه المشاهد وذكرياتها إنما هي بعض ما يصنع الذاكرة الجميلة، بل بعض ما يصنع طبائع الإنسان، أو يهذب ذائقته. ألا تذكرون ما صنعت الرصافة ودجلة بعقل ابن الجهم، ذلك الأعرابي الفصيح الذي لم يجد من وصف للخليفة، على ما يروى، إلا أن يقول له ما جرَّبه في بيئته وقد بدا واخشوشن واستغلظ:
أنـــــت كالكــــلب في حـــــفاظـــــك للـــــــود وكــــــالتـــــــيــس في قــــــراع الخــــــــــطـوب
أنزلوه الرصافة في بغداد أشهرًا، يوم كانت بغداد تصنع الشعر والحضارة والحكمة والتاريخ والأدب، فجاور دجلة، وغسلت الرياحين وعيه، وهذَّبت اللواحظ الساحرة أحاسيسه، حتى رقَّ قلبه، ولطفت أوصافه فقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
تُرى: هل نستطيع قراءة تاريخ نزار قباني من غير شعره المنثور على خد الياسمين الدمشقي، ومن غير ابتسامة بلقيسه وعينيها؟ أيهما كان أعظم أثرًا في نفسه وشعره: سفارة السياسة والدبلوماسية، أم اغتسال الروح بياسمين دمشق في أمسياتها؟ في شعره أوسع إجابة عن تاريخ امتد بين الياسمين والقصيدة، أجمل، عند عشاق شعره، من ارتحال بين أوحال السياسة وهموم السفارة.