مبدع يحيك ابتكاراته على مغزل ثقافة إبداع تكرست في وجدانه نبلا إنسانيا آسرا.

في متجر ستيفانو ريتشي الذي افتُتح مؤخرًا في جادة الأزياء بمركز دبي مول التسوقي، يوم خصّ ابن فلورنسة مجلة Robb Report العربية بحوار حصري، لم تكن تفاصيل التصميم المتقنة وحدها ما يومئ بتلاحم أضداد تشيع في الأرجاء فخامة تراوح بالأنظار والأفئدة بين نبل يفيض عن المواد وقطع الملابس، وحميمية تستحضر دفء عالم إيطالي بديع. في الحجرة الداخلية الخاصة التي يحتضنها المتجر، كان المصمم الإيطالي نفسه يحتوي ذاك التمازج بين النبل والدفء ليبعثه في تقاسيم وجهه وإيماءاته وتعابيره سمفونية آسرة ترافق صوت أندريا بوتشيلي الذي يملأ الفضاء ألقًا، سمفونية ينتظم نغمها بوحًا ساحرًا يشي بما يجتمع في شخص ستيفانو ريتشي المبدع والإنسان من رصانة ومرح، ومن زخم حيوي وهيبة طاغية. إذ تجالس هذا الرجل الستيني، الذي شبّ على شغف بالإبداع طبع سني طفولته في البلدة الإيطالية، وشاب على الارتقاء بشغفه إلى فضاءات أكثر تميزًا وطئها على صهوة ملكة إبداعية كرّست ابتكاراته روائع يُقاس عليها تفوق الصنعة ورفعة الذائقة، يستلبك بوحه الأنيق إلى الغوص في تفاصيل رحلة إبداع طبعت مسيرة نجاحه وتميزه، ورؤية فلسفية تكرست جزءًا راسخًا في حياته المهنية والشخصية. كحال ذاك الصقر الذي اتخذه المصمم شعارًا له يسم به ابتكاراته، ورفيقًا لرحلات الصيد في ملكيته الخاصة في ريف توسكانا، يفرض ستيفانو ريتشي حضوره المهيب فيما يسترجع بدايات ذاك الإبداع الذي لا ينفك يحيك تفاصيله حكاية تفوّق تحتفي بثقافة الصناعة الإيطالية الأشد تفردًا، ويكشف عن مكامن جمال لامس وجدانه من فلورنسة الإيطالية إلى تنزانيا الأفريقية، وتوثّق في يومياته نمط حياة تمرّس فيها على فن السمو بمعاني البساطة والإنسانية.

شكل تصميم الأزياء خيارك المهني منذ البدايات. فما الذي يستثير فيك الشغف بالتصميم إلى يومنا هذا؟

في أثناء نشأتي، كانت عائلتي ناشطة في مجال تصميم الأزياء للنساء، ولكني أبلغت والدي أني لا أنوي الاهتمام بمشروع العائلة. صحيح أني أقدّر المرأة، لكني لا أميل إلى التصميم لأجلها. فللمرأة عمومًا مزاج متقلب فيما يخص أزياءها. تفهّم والدي موقفي، وجل ما طلبته منه آنذاك هو أن أستعين بنحو خمسة عشر فردًا أو عشرين فردًا من الحرفيين العاملين لديه لأبدأ مشروعي الخاص. أذكر أنه قال لي: «أعرف أنك ستختار أشدهم مهارة». في نهاية المطاف، انتقل معظم أعضاء فريقه للعمل معي. أبصر مشروعنا النور قبل نحو ستة وأربعين عامًا عندما شرعت في تصميم رابطات العنق ثم القمصان، لتتوالى الابتكارات بعد ذلك بما أتاح تشكيل مجموعة كاملة. عرضت أولى مجموعاتي في سبعينيات القرن الفائت في معرض Pitti Uomo الشهير، وملأني النجاح حبورًا لأني كنت أدرك أن تحقيق أي نجاح ليس بالمهمة السهلة. وفي عام 1992، اخترت افتتاح أول متجر لعلامة ستيفانو ريتشي في شانغهاي. لا أخفي أني اخترت ذاك المكان البعيد لأني اعتقدت أن الخبر لن ينتشر على نطاق واسع إذا أخفقت. لكني أدركت بعد سنتين أو ثلاث سنوات مقدار النجاح الهائل الذي حققته ابتكاراتنا. نمتلك اليوم ما مجموعه ثمانية وستون متجرًا موزعة في مختلف أنحاء العالم. والواقع هو أن شغفي بهذا العالم، الذي ألهمته تقنيات الحياكة في محترف العائلة في صغري، يرتبط اليوم بكوني مصممًا وليس منسق أزياء. فمعرفتي بكيفية تشكيل الخيوط وغزلها تفوق حدود المألوف، أي أني أعرف كيف يُصنع النسيج، وأكثر ما يثير اهتمامي في مسار التصميم هو البحث عن مجموعات جديدة من الألياف، والكشمير، والحرير، والصوف فائق الجودة. صحيح أن طابعًا كلاسيكيًا يغلب على تصاميم الدار، إلا أنه لا بد لنا فيما يتعلق بابتكار الأزياء غير الرسمية تحديدًا أن نطرح مفاهيم جديدة للألبسة والمواد، حتى إن كنا نستخدم أليافًا طبيعية.

على حلبة موجيلو في توسكانا، قدم ستيفانو ريتشي مجموعته لموسم خريف 2018

وشتاء 2019، فتجلت شاهدا على منظومة إبداعية زاوجت بين عراقة الصناعات

الإيطالية والترجمة المتقنة لذائقة رجالات يناغمون في عصرنا الحاضر بين

جرأة المظهر والفخامة غير المتكلفة. 

نجحت في الارتقاء باسم ستيفانو ريتشي من محترف إلى علامة متميزة. فما هي، انطلاقا من خبرتك الشخصية، المهارات التي يقتضيها تحقيق التميز والإنجازات العظيمة؟

لا بد للمرء أن يجد متعة فيما يقوم به، وأن يحافظ دومًا على مستوى عال من التركيز. ربما يدرك المرء الغاية التي ينشدها، إنما لا يجدر به أن يندفع نحوها بعشوائية. فعقبات كثيرة ستواجهه في مسيرته، ولا بد له من أن يحسن تفاديها دون الإساءة إلى غيره. لن أكون عادلاً إن تحدثت شخصيًا عن موقعنا في السوق. ولكن عندما يتربع المرء على القمة، يُصوب الآخرون كلهم سهامهم إليه لأنهم يرغبون في احتلال مكانته. أوصي ولديّ دومًا بأن يتصرفا على طبيعتهما بغض النظر عن المكانة التي بلغناها. فلا ينبغي للمرء أن يمتلئ زهوًا وغرورًا كما لو أنه يجسد ظاهرة متفردة إذ إن مثل هذا الشعور سيطغى على تنبهه إلى التفاصيل، وعندما يشرع في النظر إلى الأمور الأخرى بوصفها ثانوية وغير هامة، سيبدأ في الانحدار إلى أسفل الدرك.

" أوصي ولدي دوما بأن يتصرفا على طبيعتهما بغض النظر عن المكانة التي بلغناها.

فلا ينبغي للمرء أن يمتلئ زهوا وغرورا كما لو أنه يجسد ظاهرة متفردة "

ستيفانو ريتشي، محاطا بولديه نيكولو (إلى اليسار) الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للدار، وفيليبو (إلى اليمين) في منصب مديرها الإبداعي.

ثمة حكاية تكتنف كل مجموعة جديدة تطلقها، وغالبا ما تحتفي حكايات إبداعك بالطبيعة. فما الذي يجمعك بهذا العالم؟

لطالما ألهمت الطبيعة ابتكاراتي، خصوصًا الطبيعة الأفريقية بتفاصيلها وألوانها. بل إن كل مهتم يعلم أني صممت الجزء الأعظم من مجموعاتي في أفريقيا التي ألوذ بها بعيدًا عن جميع الناس حين أعكف على التصميم. أسافر في العادة إلى تنزانيا على متن طائرة صغيرة تحط بي في وسط الغابة حيث أمضي نحو خمسة عشر يومًا إلى عشرين يومًا. أستيقظ في الصباح الباكر، وأنطلق في رحلة صيد أعود منها إلى المخيم حيث أعتزل في ركني الخاص في فيء إحدى الأشجار وأشرع في ابتكار التصاميم. لا أسمح لأحد بأن يقرب موقعي في أثناء ذلك باستثناء نادل يقدم لي بصمت وهدوء كوبًا من القهوة كل ساعة. في أثناء العقود الثلاثة الأخيرة، واظبت على ابتكار مجموعاتي في الفضاءات الأفريقية بمعدل مرة أو مرتين في العام. تفتنني الطبيعة في أفريقيا، ووجودي هناك يُلهب حماستي. 

هل بات من الصعب برأيك البحث عن مكامن الجمال في عالمنا الحاضر المحكوم بسرعة الإيقاع؟

صحيح، لأن هذا الإيقاع المتسارع بات يُلقي بظله على كثير من جوانب حياتنا، وبات من الصعب علينا مواكبته. فالقوانين تتغير، وحتى مقاربتنا للجمال والموسيقا. حاولت مثلاً الاستماع إلى موسيقا الراب، لكنها لم تُثر في وجداني الوقع نفسه الذي أشعر به وأنا أصغي إلى موسيقا صديقي أندريا بوتشيلي وصوته العذب. إني لا أسمع بوتشيلي، بل أنصت إليه. فكيف يسعني الإصغاء إلى مغني الراب؟ ينتمي بوتشيلي إلى عالم مختلف تمامًا مقارنة بهؤلاء. ربما يرتبط الأمر بكبر سني، لكن خلافًا لما هو عليه الحال لموسيقا الراب التي تشكل في رأيي ظاهرة آنية، ستبقى موسيقا بوتشيلي حية بغض النظر عن تبدل العصور ومرور السنين. لا تكمن المشكلة في الإيقاع الصاخب للراب. أعشق مثلاً هزيم الرعد وصرير الرياح القوية. لكن هذا الصخب ينبعث من الطبيعة وليس مركبًا واصطناعيًا كضوضاء موسيقا الراب.

قدمت ابتكارات عدة كرمت من خلالها عددا من أعظم فناني العالم، فرددت تصاميمك صدى أعمال مبدعين أمثال رينيه ماغريت، وجاك فتريانو، ورينيه غراو. فهل يستهويك أيضا جمع اللوحات الفنية؟

لا بد لي من الإشارة إلى أن اختياري لأي فنان يرتبط باستكشافي لمعالم شخصيته. ما يبهرني ليس قيمة أعماله إنما شخصه وذاك التناغم الكيميائي بين حياته وتجليات إبداعه. وبالرغم من أني أمتلك عددًا من اللوحات الفنية الحديثة، إلا أنها لا تحرك في دخيلتي أي عاطفة. أهوى في المقابل جمع النقوش البديعة التي تزين الأسلحة القديمة، وأقتني مجموعة من هذه الفرائد التي تزهو بإبداعات نخبة من فناني النقش. لدي إلمام واسع بهذا المجال إذ تفتنني براعة هؤلاء في نقش الزخارف على الفولاذ الصلب ومهارتهم في التلاعب بالظل والضوء.

ما أفضل استثمار قمت به خلال حياتك؟

أعتقد أن الاستثمار الأفضل كان ارتباطي بزوجتي منذ نحو 42 سنة. وها نحن نعيش اليوم لأجل عائلتنا الجميلة وحفيدينا. أصدقك القول إننا نشبه أي عائلة عادية.

 " الرفاهية الحقيقية هي ما نحتاج إليه لنشعر بأننا أحياء وسعداء وهانئو البال.

إنها الحب والعائلة والمهنة التي نقبل عليها بشغف،

وتلك التفاصيل البسيطة التي تحدث فرقا حقيقيا في حياتنا "

كيف تريد للآخرين أن يتذكروا ستيفانو ريتشي الإنسان؟

إن سؤالك هذا مثير للاهتمام، لأني بطبيعتي لست شخصًا يسهل التعامل معه. أعبّر مثلاً عن شعوري بصريح العبارات ودون مواربة، إنما بلباقة. لا أحب مثلاً الأشخاص الذين يرفعون أصواتهم في أثناء الحديث. أرى أنه على المرء أن يحسن التعبير عن نفسه بالقول وليس بالصوت المرتفع. لذا أحيط نفسي بأصدقاء يتحلّون بهذه السمة، ويدركون ما يريدونه في هذه الحياة. أكره أن يبدد الآخرون وقتي. إذا وجدتني في حضرة شخص لا يثير اهتمامي، أكف عن الإصغاء إليه بعد خمس دقائق حتى إن واصلت النظر إلى وجهه والابتسام. أظن أن مثل هذا السلوك بات مستحقًا في سني هذه وفي ظل المكانة التي بلغتها. أشعر بصراحة أني حققت رسالتي في هذه الحياة، وكل يوم إضافي أمضيه حيًّا هو نعمة من الله. أحاول اليوم أن أكرس وقتي للتصميم، والإشراف على الأبحاث في مجال عملنا، والاستمتاع بصحبة الأهل والأصدقاء.

في أسفارك الكثيرة، أي البلاد تركت أثرا بالغا في نفسك؟

لا عالم يضاهي تنزانيا التي تحتل مكانة خاصة في وجداني. أمضيت أربع سنوات من عمري في أفريقيا، ولا أزال مفتونًا بتفاصيلها. أعشق أصوات الطبيعة الأفريقية ورائحتها. وكلما توقد بي الحنين وجدتني أشد الرحال إلى رحابها.

ما هي الرفاهية عندك، وكيف يختبر المرء السعادة؟

وضعت قبل سنوات عدةٍ كتابًا عن الرفاهية والترف، استهللته بعبارة: «الترف هو كأس من الماء العذب ترتشفه في الصحراء». أقصد أن الرفاهية الحقيقية هي ما نحتاج إليه لنشعر بأننا أحياء وسعداء وهانئو البال. إنها الحب والعائلة والمهنة التي نقبل عليها بشغف، وتلك التفاصيل البسيطة التي تُحدث فرقًا حقيقيًا في حياتنا. فرغد العيش لا يعني امتلاك طائرة خاصة. تذكري دومًا أننا نستطيع أن نبتاع بالمال أي شيء إلا السعادة والصحة. عندما أخلد في المساء إلى الفراش وأنعم بنوم هادئ، أدرك أني أختبر السعادة الحقة.

تبقى الأناقة عند ستيفانو ريتشي عمل إبداع تحدده الحياكة اليدوية المتقنة والتقاليد الحرفية الأصيلة التي تزيد الخامات فائقة الجودة ثراء إلى ثراء.