تحتضن مجموعتي الخاصة من الفرائد الغرائب تمثال «هاي – تيكي» Hei-tiki من تلك التماثيل الصغيرة المنحوتة من اليشم والتي تعود إلى حضارة الماوريين. لا يزيد طول التمثال على خمس بوصات، ويصعب تحديد ما يمثّله بوضوح تام. لعلّه يخلِّد ذكرى أحد الأجداد، أو يجسِّد السلف لدى شعب أوتياروا، وهو الاسم الذي أطلقه على نيوزيلندة الفنان الذي نحت هذا التمثال قبل نحو قرنين من الزمن لأجل مالك ظل وصيًا عليه حتى يوم مماته. بل إن التمثال بقي مدفونًا معه إلى أن عمد خلفه إلى استعادته.
الواقع أن استخدام الفعل «نحت» لا يفي المعنى حقه. فاليشم، أو «بونامو» بلغة الماوريين ومعناه «الحجر الأخضر»، شكَّل المادة الأشد صلابة التي عرفتها حضارة كانت تفتقر إلى أي أدوات مصنوعة من الفولاذ. كانت تلك المادة من الندرة والقيمة النفيسة إلى الحد الذي أثار رحى حروب عدة بين القبائل الساعية إلى السيطرة على مصادرها في قاع الأنهر. كانت عملية تشكيل التمثال من حجر يصعب نحته تقتضي كشطه بلا كلل أو هوادة باستخدام اليشب والمثاقب الحجرية، ثم صقل سطحه بوساطة العصي وحراشف سمك القرش والماء. كان أي فنان يحتاج إلى سنة كاملة لإنجاز تمثال بالغ الصغر إن هو واظب على العمل عليه طيلة ساعات صحوه. كان ما يشغل الفنان الذي أنجز تمثال هاي-تيكي، ويشغل أيضًا مالكه الأول، هو ابتكار إرث يثمِّنه صاحبه ويبقى عصيًا على مرور الأزمنة.
لكن سنة كاملة لا تُعد وقتًا طويلاً إن كانت غاية الانتظار مأثرة بديعة. فقد ارتفع، على سبيل المثال، بنيان كاتدرائية نوتردام دو باري، الممتدة على مساحة مقدارها 67٫039 قدمًا مربعة في عام 1163، لكنّ بناءها استغرق نحو 182 سنة. كما أن تشكيل قدم مربعة واحدة من مساحة لوحة الموناليزا، التي يعادل حجمها 4.375 قدم مربعة فقط، كان يستغرق قرابة سنة كاملة.
في المقابل، ينبض عالمنا الحديث بالإثارة التي يولِّدها استهلاك منتجات تلقى رواجًا في حينها، فنبتاعها بصورة فورية، وتُسلَّم إلينا بالسرعة نفسها تقريبًا. فكأننا بتنا مبرمجين على عدم الانتظار. ولا حالة تعبِّر عن هذه العقلية المحكومة بنفاد الصبر قدر مثال رجل يرغب في شراء سيارة مكشوفة بيضاء اللون لكنه يبتاع في النهاية أخرى سوداء اللون لأنه كان الخيار اللوني الوحيد المتوافر في حينه. لكن أولئك الذين يميلون إلى البحث عن وسيلة فورية لإشباع شهيَّتهم إلى اقتناء غرض ما يفوِّتون متعة أكبر. فانغماس المرء في بهجة الانتظار طيلة الوقت الذي يستغرقه الإتيان بابتكار يمكنه اقتناؤه يشكل تجربة تستحق الاستمتاع بها. فسواء كانت الغاية بناء قارب نموذجي، أو تعقّب عمل فني صعب المنال، أو الخضوع لجلسة قياس تلو الأخرى من أجل حياكة بذلة مصممة حسب الطلب، يمكن لترقّب إنجاز المهمة أن يحقق الشعور بالرضا شأنه في ذلك شأن بلوغ الغاية المنشودة.
لا شك في أن السعي إلى بلوغ بعض المتع يقتضي قدرًا أكبر من الصبر مقارنة بمحاولة تحقيق متع أخرى. فالصيد بالصنارة، أو جمع الطوابع البريدية، أو ترميم سيارة عتيقة الطراز، كلها تفرض أن يتحلى المرء بالصبر الطويل. عندما ينطلق أحدهم في مشروع لترميم سيارة، فإنه يدرك مسبقًا أن الوقت الذي سيستغرقه إنجاز مشروعه قد يطول ويمتد إلى ما قد يبدو له عصورًا جليدية. لقد عمدت شخصيًا إلى الانخراط في مشاريع ترميم عدد من المركبات التي أمتلكها اليوم، ويمكنني أن أشهد بأن قلة من التجارب قد تولِّد القدر نفسه من الإثارة التي تتولَّد لمرأى سيارة تُفكك أجزاؤها بالكامل وصولاً إلى الهيكل المعدني الداخلي، ثم يعاد بناؤها قطعة تلو القطعة. يقتضي نجاح مثل هذه المشاريع القيام بمساع بحثية حثيثة واتخاذ القرار المضني الذي يفرض نفسه أحيانًا. قد يجد المرء نفسه يوميًا في مواجهة نكسات وأحداث محبطة. لكن السيارة لا تلبث أن تنهض كالعنقاء من كومة الأجزاء تمامًا كأحجية صور مقطّعة تتحول فجأة، إذ تنتظم كل صورة متناثرة في مكانها الصحيح، من رسم تجريدي على طريقة رسومات بول بولوك إلى مشهد متكامل كما في لوحات يوهانس فيرمير.
أما أولئك الذين لا تحفزهم الرغبة الملحة في إعادة الحياة إلى مركبة عتيقة معطلة، فقد يشعرون بالرضا إذ يطلبون إلى الصنّاع نماذج من مركبات تعكس شخصياتهم وذائقتهم الجمالية. لا شك في أن طرقات العالم تغص بملايين السيارات المتشابهة التي عمل على هندستها مجموعة من الخبراء، وصادقت على أدائها مجموعة اختبارية، وتدثرت بكسوة من تدرجات اللون الرمادي. لكنّ كثيرًا من صنّاع السيارات الرياضية متفوقة الأداء والمركبات الفاخرة يوفّرون اليوم للزبون فرصة طلب سيارة تُصمَّم حسب المواصفات الشخصية التي يريدها. تُعد شركة رولز-رويس المرجع الذي يُقاس عليه التميز في مجال السيارات المصنعة حسب الطلب، إذ إنها ابتكرت عددًا من المركبات المتميزة لأجل زبائن ميسورين يمتلكون الموارد التي تتيح تحقيق أحلامهم المتخيلة والمتنوعة. فضلاً عن ذلك، أوكل بعض الجادين من المتحمسين للمركبات المصممة حسب الطلب إلى بعض صنّاع هياكل السيارات الخارجية المرموقين، على غرار زاغاتو، ابتكار كسوات بتصاميم فريدة لا مثيل لها لمركباتهم الإيطالية الخارقة. في أسفل الهرم، لا ينفك زبائن بورشه ينتظرون في صفوف طويلة لطلب سيارة تزهو باللون المفضل لديهم ضمن برنامج الخيارات اللونية. طلبت مركبتي من طراز بورشه بالطلاء المخصص حسب الطلب في عام 1997، واخترت آنذاك اللون الأزرق Gulf Blue 993. وقد اضطررت إلى الانتظار عامًا كاملاً للحصول على المركبة، أي قرابة الوقت نفسه الذي استغرقته صناعة تمثال «هاي-تيكي» واحد.