في كل ليلة، يتوجه شباب هافانا بأعداد هائلة إلى معرض Fábrica de Arte. فهذه المنصة الفنية المعاصرة التي أقيمت داخل مصنع قديم في حي فيدادو بهافانا تشكل واقعًا بديلاً عن الحياة اليومية في كوبا إذ تصخب مساحاتها بالنغمات الحية لعازفي موسيقا التروفا التقليدية، والعروض الملونة للأفلام تقدمية الطابع التي تتعاقب عبر شبكة من الصالات الفنية المترابطة. تزهو هذه الوجهة، التي انبثقت عن بنات أفكار عازف موسيقا الروك الأفريقي إكس ألفونسو، بتجليات ذاك النوع من التقدم الذي يتوقع المرء أن يغفله بالكامل لدى زيارة آخر ما بقي من مخلفات الحرب الباردة. لكن المشهد الذي طبع المكان مؤخرًا في إحدى الأمسيات كان أقرب إلى ليالي سوهو في العصر الحديث منها إلى طبيعة الحياة في هافانا القديمة.
الواقع أن الحديث كثُر في أوساط جامعي الأعمال الفنية على المستوى العالمي عن «طفرة» في الفن الكوبي المعاصر. بل إن هؤلاء باتوا يسافرون من لندن ونيويورك للبحث في شوارع هافانا غير المعبّدة عن الفنان الناشئ الذي سيسطع نجمه تاليًا. إن ما تغير نوعًا ما ليس كوبا نفسها، بل مستوى الاهتمام الذي أغدقه عليها العالم الفني. يقول براينت توث، تاجر الأعمال الفنية النيويوركي المتخصص في الفن الكوبي: «لطالما شكّلت هافانا فضاءً إبداعيًا إلى حد بالغ، واتسمت بزخم حيوي جدًا في مجالات الموسيقا، والفنون البصرية، والمشغولات الخزفية، والمسرح، والأدب. جل ما في الأمر أن تسليط الضوء عليها عالميًا لم يكن بالمهمة السهلة».
يرجع إرث هافانا الغني إلى عشرينيات القرن الفائت، عندما كان الفنانون الكوبيون، أمثال وايفريدو لام، يتسكعون في باريس بصحبة بيكاسو وهمنغواي. لكن أيام العز تلك لم تدم طويلاً، إذ تغير كل شيء مع نشوب الثورة. في ظل حكم فيديل كاسترو الشاب، تحول الفن فجأة إلى جناح آخر ملحق بالدولة الاشتراكية. باتت الصالات الفنية تخضع لملكية الحكومة، وصار الفن عرضة لمقص الرقابة بالغ الصرامة. بل إن إطلاق المرء على نفسه تسمية فنان بات يستوجب شهادة رسمية. تحولت اللوحات الفنية إلى ترف تحتكره النخبة من أصحاب الامتيازات، شأنها في ذلك شأن الالتحاق بالمعاهد والمدارس الفنية «المجانية» التابعة للقائد.
منذ أن طرح راؤول كاسترو مشروعه الإصلاحي في عام 2011، انقلب الوضع رأسًا على عقب وإن بوتيرة بطيئة وغير منتظمة. شهدت البلاد افتتاح المجموعة الأولى من الصالات الفنية الخاصة، وازدهرت مواهب الفنانين الشباب، وانطلقت مغامرة تعقب المواهب الجديدة، وهي بحق مغامرة في هذه البلاد حيث ما فتئ الإنترنت يُعد خدمة يندر توافرها. يقول توث: «إن كوبا لا تشبه نيويورك حيث يمكن للمرء أن يصادف وهو يتنزه في أحد الشوارع عشرات الصالات الفنية. في كوبا، يجدر بك أن تعلم أين تبحث عن مرادك. ستظل بحاجة إلى زيارة الفنانين في منازلهم وفي محترفاتهم».
«إن كوبا لا تشبه نيويورك حيث يمكن للمرء أن يصادف وهو يتنزه في أحد الشوارع عشرات الصالات الفنية.
في كوبا، يجدر بك أن تعلم أين تبحث عن مرادك».
ـــــ براينت توث، تاجر أعمال فنية
اللوحة غير المعنونة رقم 45 من سلسلة To Be or To Pretend لأدريان فيرنانديز.
صحيح أن فناني اليوم ما عادوا منفيين في عالمهم الوجودي السري، إلا أنهم ما فتئوا عالقين عند هامش ما يُعتبر مقبولاً في بلد لا يزال عرضة لتقلبات الرقابة. إنه وضع معقد استحدثته الحكومة إذ أجازت الاعتراض بقدر وبعيدًا عن أي مجاهرة صارخة من شأنها أن تلفت الأنظار. هكذا هو الحال لروتنبرغ الذي يصور في أعماله أشخاصًا بائسين في إشارة واضحة إلى حالة الفقر وانعدام المساواة المتفشية في الجزيرة إنما دون إرفاق أي تعليق بالصور. ويتكرر الواقع نفسه في إبداعات أدريان فيرنانديز. فهو يحسن استخدام النقد الهادئ في مجموعته التصويرية To Be or To Pretend حيث يسلط الضوء على باقات زهور يرتبها أمام خلفيات درامية تغلب عليها نوعًا ما حيوية تستلهم الأعمال الكاريكاتورية. لكن التصوير المفعم بالألوان لمظاهر الطبيعة الجامدة يعكس انتقادات مبهمة للطبقة الراقية في كوبا. فإذ ينظر المرء عن كثب إلى باقات الزهور، التي صورها فيرنانديز في منازل الأثرياء في هافانا، يكتشف أنها نسخ زائفة ورخيصة تُستخدم كدليل فاضح على الثراء.
لا شك في أن ثمة أشكالاً مقبولة للاعتراض، وتحديدًا ما كان منها يحوّل الأنظار بعيدًا عن كوبا ككل. في لوحات آلان بينو التي تغصّ برسومات المظليين والطائرات العسكرية، يعكس استخدام الرسام لصور بنجامين فرانكلين وجورج واشنطن، التي تزين الأوراق المالية الأمريكية، رسالة صارخة. لكن أعماله هذه تُبقي أصابع الاتهام موجهة نحو الخارج. أما لوحاته الأخرى التي تُظهر وجهي الرئيس ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ محتجبين داخل صورة ظلية، كأنهما يخططان لمكيدة، فتختزل ذاك النوع من التعليقات السافرة التي تلقى الاستحسان في كوبا. لكن الوضع كان له أن يتغير حتمًا لو أن موضوع هذه الأعمال كان يشمل كاسترو.
تتجلى أيضًا المقاومة الشاملة التي يمثلها إستيريو سيغورا الذي تُعد زيارة منزله ومحترفه في آن ضرورة واجبة لأي جامع أعمال فنية يسعى إلى إلقاء لمحة على مستقبل المشهد الفني في كوبا. تشتمل واحة سيغورا الخاصة على مجموعة من الصالات الفنية المبنية في هيئة مكعبات بيضاء اللون تزخر بالمنحوتات التي تصور شخصية بينوكيو (في إشارة صريحة إلى الكذابين)، والأقفاص (التي ترمز إلى السجون)، والطائرات (للدلالة على المنفى). لكن العمل الأصدق ترجمة لحالة التمرد ضمن ابتكارات سيغورا يقبع عند طرف طاولة طويلة في حجرة الطعام حيث يواظب الفنان على استضافة حفلات العشاء. هناك تكسو كامل الجدار أربع مجموعات من اثني عشر لوحًا من السيراميك طُليت بصور مفصلة لفيديل كاسترو معانقًا كوبا التي جسّدها سيغورا في شكل امرأة. وفي كل لوح، يعرض الفنان لعلاقة القائد بالبلاد على مر حكمه الذي استمر 48 عامًا. يمكن للرسومات التخطيطية الخام المشغولة باللون الأزرق أن تشكل عملاً إبداعيًا تصويريًا في أي بلد، لا سيما في كوبا. وعندما يصبح عرضها ممكنًا في أروقة Fábrica de Arte، سيكون في ذلك إشارة حقيقية على بداية عهد جديد للفن الكوبي.
الاعتراض الصامت: Controlling Vectors بتوقيع آلان بينو.