قلة من الأشخاص يعلمون أن فيلم "سيد الخواتم" Lord of the Rings ما كان ربما ليبصر النور لولا تلك الواحة السويسرية الآسرة التي ألهمت مؤلف القصة الخيالية، الكاتب البريطاني ج. ر. ر. تولكين.
ففي عام 1911، وفيما كان تولكين، الشاب البالغ من العمر 19 عامًا، يمضي متسلقًا جبال الألب في سويسرا، مرّ بوادي لوتربرونن Lauterbrunnen المهيب، حيث ينساب نهر رقراق وتتوزّع بيوت ملوّنة تحرسها الجبال الشاهقة من علو، فكان ذاك المشهد الطبيعي الذي استأثر بناظريه وملكته الإبداعية هو الموقع الأصلي الذي استوحى منه وادي ريفندل، أو منتصف الأرض، الشهير في الرواية.
بل إنك قد تظن اليوم أيضًا، إذ تزور لوتربرونن، أن قدمك قد زلت بك حقيقة إلى منتصف الأرض، أو في أقل تقدير إلى تفاصيل لوحة بديعة عصية على الاستنساخ.
ظلّ هذا الوهم الماتع ملازمًا لي طيلة أيام تلك المغامرة التي قضيتها في منتصف شهر مايو الفائت أستكشف وجهًا آخر لسويسرا، بداية من تلك الكنوز الخفية التي تزخر بها منطقة يونغفراو Jungfrau في جنوب سويسرا، لا سيّما ضمن ثلاثية يونغفراو وأليتش وبيتشهورن (Jungfrau-Aletsch-Bietschhorn) المدرجة على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، والتي تُعد المنطقة الأكثر جليدًا في جبال الألب.
قمة أوروبا
أبدأ رحلتي إلى منطقة يونغفراو على متن قطار يرتحل بي من زيوريخ، مرورًا بمنطقة إنترلاكن Interlaken أو "ملتقى البحيرات" الرابضة بين بحيرتي ثون وبرِيَنز متباهية ببهاء بيوتها الخشبية العتيقة وألق زوارق تطفو فوق صفحة المياه.
في المحيط تشمخ جبال ما فتئت ترتدي دثارها الأبيض، وتتعاقب غابات كثيفة ومروج تزهو بخضرتها الغنّاء معلنة اقتراب موسم اصطياف جديد في هذه الوجهة التي تحوّلت إلى ما يشبه منتجعًا للعائلات وهواة المغامرات.
لكني لا أتوقف في إنترلاكن إلا لأستقل قطارًا آخر يحملني إلى وجهتي في وادي لوتربرونن الذي سخت عليه الطبيعة بما مجموعه 72 شلالاً قد يكون أشهرها شلال شتوباخ Staubbach الذي تنحدر مياهه فوق الصخور الجبلية من علو 297 مترًا وتتناثر صيفًا مثل الغبار بتأثير من الرياح الدافئة.
وأنت تقف متأملاً في فتنة هذا الدفق المائي المزبد ومصغيًا إلى معزوفته الهادرة، قد تتذكر أنها هي التي ألهمت الشاعر الألماني يوهان وولفغانغ فون غوتيه في عام 1779، عندما زار الوادي، ليكتب قصيدته الشهيرة "نشيد الأرواح فوق المياه".
Lucerne Tourism
تجود الطبيعة بفتنتها على وادي لوتربرونن الذي يتزيّن بخضرة غنّاء يثريها 72 شلالاً تنحدر مياهها فوق الصخور الجبلية.
إذا ما نظرت إلى أعلى صوب الصخور الجليدية، يمكنك أن ترى وينغن Wengen، أكبر قرى الوادي. تنبسط هذه القرية الوادعة - التي تخلو من السيارات (في ما خلا بعض المركبات الكهربائية المخصصة لتوفير احتياجات السكان المحليين والفنادق وبيوت الضيافة)، فلا يمكن بلوغها إلا على متن قطار ينطلق من محطة لوتربرونن - على ارتفاع 1,274 مترًا عن سطح البحر، وتشكل مقصدًا رئيسًا في الشتاء لهواة التزلج، لا سيّما مع انطلاق كأس لوبرهورن السنوي العالمي لسباقات التزلج التي تغطي مساراتها نحو 4.5 كيلومتر، مشكلة المنحدر الأطول في العالم. وفي محيط منحدر لوبرهورن، تشمخ جبال أيغر، ومونخ، ويونغفراو.
يقع جبل يونغفراو، الذي جاد على المنطقة باسمه، بين شمالي إقليم بيرن وجنوبي إقليم فاليه، حيث يربض على ارتفاع 4,158 مترًا، ويتصل بجبل مونخ عبر ممر يونغفراويوخ، أو قمة أوروبا Top of Europe، الذي يُعد من أشهر المقاصد السياحية في الألب.
وقد يرجع السبب في ذلك إلى سكة حديد يونغفراو التي تشكل أعلى محطة قطار فوق قمم الجبال في أوروبا ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1912.
سيكون من المؤسف إذا ما زرت هذه الوجهة أن تفوّت الرحلة على متن هذا القطار الذي يخترق جبلي أيغر ومونش عبر الأنفاق ليتجلى إلى يومنا هذا مأثرة هندسية من زمن مضى.
وربما تعود أدراجك إلى السهل على متن عربة تلفريك مستزيدًا من مفاتن الطبيعة التي يكرّسها التباين الأخاذ بين زرقة السماء وأبيض الثلج في الأعلى، وخضرة المروج التي ترعى فيها الأبقار السويسرية في الأسفل.
Markus Zimmermann
يقع مطعم Schilthorn Piz Gloria الدوّار على ارتفاع 2,970 مترًا فوق جبل شيلثورن متيحًا إطلالات أخاذة على 200 قمة جبلية.
على خطى جيمس بوند
تشرع منطقة يونغفراو فضاءاتها الآسرة أيضًا في موسمي الربيع والصيف لمغامرات استكشافية سيراً على الأقدام أو على متن درّاجات هوائية عبر مسارات جبلية متعرّجة تملأ رئتيك بهوائها الجبلي النقي فيما تشيع في النفس إحساسًا غامرًا بالسكينة.
بل إنك لن تتعجل الانعتاق من هذا الأنس الذي تستدرجك إليه تارة امتدادات المروج الخضراء في محيط بحيرة باشالب بمنطقة فيرست الرابضة فوق غريندلفالد، وطورًا مباهج المغامرات المتاحة فوق قمة فيرست، وفي طليعتها تجربة First Flyer لركوب الدراجات الجبلية أو البخارية على ارتفاعات مثيرة، أو مسار التزحلق الممتد في بفينغستايغ Pfingstegg بطول 2.6 كيلومتر عبر المروج المفتوحة وغابات الصنوبر وصولاً إلى نهر غريندلفالد الجليدي.
يُفتح الممر الجليدي في فصل الصيف مع مسارات من صنع الإنسان تمتد من فندق غليتشرشلوخت فوق المياه الهادرة الناتجة عن ذوبان الجليد وعميقاً في الممر حيث ترتفع جدران المنحدرات الضخمة لأكثر من 100 متر. وعند مدخل الممر، أقيم متحف بلوري صغير يستعرض معادن من المنطقة.
Jeroen Seyffer Fotografie
امتدادات المروج الخضراء في محيط بحيرة باشالب بمنطقة فيرست تستدرجك إلى أنس الطبيعة وسكينتها.
ثمة متحف آخر أمضي إليه صعودًا من وادي لوتربرونن على متن عربة تلفريك تحط بي على ارتفاع 2,970 مترًا فوق جبل شيلثورن حيث منصة المراقبة، الملحقة بمطعم Schilthorn Piz Gloria الدوّار، تتيح إطلالة أخاذة بزاوية 360 درجة على 200 قمة جبلية تلمع خيوط الشمس فوق ثوبها الأبيض وصولاً إلى جبال أيغر ومونش ويونغفراو في الجهة المقابلة. قبل عام 1967، كان جبل شيلثورن واحة خفية لا يعرفها على الأرجح إلا متسلقو جبال الألب.
لكن هذه القمة، التي اختيرت موقعًا لتصوير فيلم جيمس بوند الشهير On Her Majesty’s Secret Service (في الخدمة السرية لصاحبة الجلالة) من عام 1968، تحولت منذ ذلك الحين إلى مقصد لهواة العميل السري البريطاني. بل إنك تستطيع اليوم أن تشارك في بعض مشاهد الفيلم التاريخي الرئيسة فيما تزور معرض "عالم بوند 007" التفاعلي الذي يبدو أقرب إلى متحف من زمن غابر.
وأنت تعود أدراجك من قمة الجبل، تتيح لك محطات عربة التلفريك اختبار جرعة إضافية من المغامرات في شيلثورن، بدءًا من محطة بيرغ حيث تتسنّى لك الفرصة للمشي في مسار الجرف، هذه البنية الفولاذية التي تمتد في جانب الجبل فوق هوة الوادي السحيق، وليس انتهاء بقرية مورين الرابضة على علو 1,634 مترًا مشرعة فضاءاتها لبهاء الطبيعة في محيط بيوت جبلية تستحضر في ذاكرتي مشاهد من تلك الحياة الهانئة التي اختبرتها الطفلة هايدي في أعالي جبال الألب حيث عاشت في كنف جدها في رواية هايدي Heidi الشهيرة من عام 1881 للكاتبة السويسرية يوهانا شبيري.
تحط بك رحلة على متن عربة التلفريك في بيرغ التي تعد بتجربة ملؤها الإثارة تختبرها إذ تمشي فوق مسار الجرف الفولاذي أعلى الوادي السحيق.
مدينة الجسور والساحات
أودّع منطقة يونغفراو وقد لملمت من مفاتنها الآسرة وسكينة قُراها زادًا من ذكريات قد تعتقني لاحقًا من ضوضاء مدن كثيرة الصخب.
لكنّي، وقبل مغادرة الأراضي السويسرية، أعرّج على مدينة الجسور والساحات الرابضة عند تقاطع بحيرة لوسيرن ونهر رويس شاهدًا على تلاقي التاريخ بالحداثة.
وأنت تجول اليوم في مدينة لوسيرن، لن ترى سورها الداخلي الذي هُدم في القرن التاسع عشر لأغراض توسّعية.
لكنك إذ تقف عند ضفة النهر - الذي يغص صيفًا بالسباحين وهواة التزحلق على الماء الذين يقفزون بألواحهم من أعلى الجسر – سيظل بمقدورك أن ترى جزءًا من السور الخارجي ذي الأبراج التسعة، الذي بُني في مطلع القرن الرابع عشر وما فتئ يعلو جنبات المدينة مثل تاج بهي من زمن مضى.
تحط بك رحلة على متن عربة التلفريك في بيرغ التي تعد بتجربة ملؤها الإثارة تختبرها إذ تمشي فوق مسار الجرف الفولاذي أعلى الوادي السحيق.
وفيما يتصدر أبرز المعالم الحديثة في المدينة مركز الثقافة والمؤتمرات الذي أبدع تصميمه المهندس المعماري الشهير جان نوفيل، والذي افتُتح عام 1998 محتضنًا متحفًا للفنون وقاعة حفلات مهيبة ومسرحًا عملاقًا، تحتشد معاني التاريخ في البلدة القديمة التي تستلبك إلى متاهاتها شبكة من الجسور الخشبية، من جسر شبروير الذي كان يُستخدم قديمًا لرمي نفايات المطاحن في النهر، إلى جسر الكنيسة أو "تشابل بريدج" الأشهر، والحاضر دومًا في صور من يزورون المدينة.
بُني هذا الجسر، الذي يُعد أحد أقدم جسور أوروبا، في عام 1333 لحماية المدينة، وكان سقفه الخشبي يتزيّن بمجموعة من 300 لوحة فنية من القرن التاسع عشر تصوّر تاريخ لوسيرن وحياة أهلها في تلك الحقبة.
لكنك إذ تعبر الجسر اليوم - مرورًا بالبرج المائي الشامخ عند طرفه، والذي تعددت استخداماته قديمًا بين مركز للمحفوظات، وخزينة، وسجن يُحبس فيه الأزواج المتخاصمون حتى يتصالحوا، وغرفة للتعذيب، وبات يشغله اليوم معرض أسلحة لجمعية سلاح المدفعية – لن ترى سوى 100 لوحة من تلك اللوحات التي فُقد معظمها بسبب الحريق الذي شبّ هناك سنة 1993.
تجثم قرية مورين ببيوتها الجبلية على علو 1,634 مترًا مشرعة فضاءاتها لبهاء الطبيعة.
في البلدة القديمة، تزل بي قدمي إلى عبق تاريخ ما فتئ يعترش أزقة ضيقة، وساحات أفردت جنباتها للمقاهي والمطاعم والمتاجر، وأبنية عتيقة تزيّن واجهاتها لوحات جصية رسم معظمها الفنان سيرافين فان فارتنر مع تلاميذه في مدرسة الفن والأشغال.
أسير مأخوذة بحكايات ذاك الماضي فيما أمضي من فندق Hotel des Balances، الذي يرجع بناؤه إلى عام 1199 وتزيّن واجهته رسومات تحكي قصة آل هابسبورغ الذين حكموا لوسيرن قديمًا فيما توثق حياة المجتمع وقصة المدينة، مرورًا بشجرة العدل حيث كانت تجري المحاكمات في ذاك الزمن البعيد، ونافورة الحرية التي مثّل بناؤها أول قرار صدر في لوسيرن بعد سقوط حكم هابسبورغ، ووصولاً إلى ساحة السوق المفتوح والاحتفالات المعروفة باسم ميدان فاين ماركت - هناك حيث أقسم سكان لوسيرن عام 1332 قسم الانضمام إلى الاتحاد السويسري - ومنها إلى ساحة المهرجان الاحتفالي الشهير "كرنفال فريتشي" الذي تستمر فعالياته الصاخبة ثلاثة أيام متواصلة فيما الوجوه تحتجب خلف أقنعة فريتشي القبيحة التي كانت تُستخدم لترهيب فصل الشتاء عندما أبصر هذا المهرجان النور في القرن الخامس عشر.
Lucerne Tourism
عند تقاطع بحيرة لوسيرن ونهر رويس، تنبسط مدينة لوسيرن، التي يتوجها سور خارجي بتسعة أبراج، وتحرسها القمم الثلجية من علو، شاهدًا على تلاقي التاريخ بالحداثة.
كثيرة هي المعالم التي تستحق الزيارة في لوسيرن، من برجي هوفكيرش إلى الحديقة الجليدية وبجوارها نصب الأسد الصخري الذي يخلّد ذكرى جنود سويسريين ماتوا في أثناء الهجوم على قصر تويليري الباريسي خلال الثورة الفرنسية، والمتاحف الوفيرة التي يتصدرها متحف النقل في سويسرا، ومتحف الطبيعة، ومتحف لوسيرن التاريخي الذي يرجع إلى عام 1560.
Lucerne Tourism
تشتهر لوسيرن بجسورها العتيقة، ويُعد جسر الكنيسة الخشبي الذي بني سنة 1333 بمحاذاة البرج المائي أحد أقدم جسور أوروبا.
لكنك لن تختبر ذروة الأنس الذي تعد به لوسيرن إن لم تمضِ عبر بحيرتها الشهيرة على متن مركب بخاري يبحر بك وصولاً إلى فيتزناو حيث ينطلق بك قطار السكة الحديدية صعودًا إلى قمة جبل ريغي الشهير بلقب "ملكة الجبال". هناك، حيث تكثر مسارات التزلج شتاء والتسلق صيفًا، ستقف على ارتفاع 1,798 مترًا فوق سطح البحر تتأمل من علو المشهد الذي تُحبس له الأنفاس لجبال الألب الشامخة، والغابات مترامية الأطراف، وما مجموعه 13 بحيرة فيروزية، بما فيها بحيرة لوسيرن التي لا ينبغي لك أن تودعها دون اختبار أطايب سويسرا التقليدية من أصناف الأجبان والشوكولاته المتنوعة.