لا شك في أن معرض فن أبوظبي الذي انعقدت أنشطة الدورة الأخيرة منه من 22 إلى 26 نوفمبر الفائت، يعد من أفضل الوجهات التي تتيح مطالعة التنوع الفريد للطاقات الفنية في المنطقة. وعلى ما جرت عليه العادة، نُظّمت الدورة الخامسة عشرة من المعرض في المركز الفني بالعاصمة، منارة السعديات، في المنطقة الثقافية في السعديات، تحت رعاية سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي.
وقد عرفت هذه الدورة مشاركة 92 صالة مختلفة من 31 دولة حول العالم (منها دول تشارك للمرة الأولى، مثل جورجيا والمكسيك والبرازيل وسنغافورة وتشيلي)، ما جعلها أضخم دورة من حيث عدد المشاركين وأكثرها تنوعًا من حيث التوزيع الجغرافي.
وفيما يواصل المعرض تعزيز مكانته العامة بوصفه قبلة للفنانين المنحدرين من دول الجنوب العالمي، ركزت دورة هذا العام خصوصًا على النساء الفنانات وفناني أمريكا اللاتينية وهونغ كونغ. وأسهم هذا التوجّه في تعريف الزوّار على عدد أكبر من الفنانين المغمورين، كما ألقى الضوء على تواريخ فنية ربما لا يلمّ بها كثيرون بالرغم من ترابطها الجغرافي.
Abu Dhabi Art
منحوتة بعنوان Sublimis للفنانة الإثيوبية أديس آمبيه.
وقبل أيام من انعقاد مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين COP28 في دبي لتداول الأزمة المناخية، كان من الطبيعي أن تتبوأ الاستدامة موقع الصدارة في المعرض من خلال تخصيص قسم كامل لها. وقد تعاونت قيّمة هذا القسم، البروفيسورة ريكاردا ماندريني، مع تسع صالات فنية بغرض إثراء الحوار حول الفن من حيث كونه تعبيرًا عن الحياة المستدامة.
وكان من المثلج للصدر معاينة الجهود المبذولة من قبل المنظمين للحفاظ على البيئة، سواء تجسد ذلك في عرض الأعمال الفنية المصنوعة بالكامل من المواد المعاد تدويرها، أو في استخدام التذاكر الرقمية، أو في إعادة استخدام مواد المعرض.
Abu Dhabi Art
لوحة Dolphin Bay بتوقيع الفنانة آن إن جيه ين لام من سنغافورة.
جذور ثقافية راسخة
يبقى معرض فن أبوظبي وفيًا لهويته، لذلك ينبغي الاعتراف بالدور المهم الذي يضطلع به على مستوى حشد الدعم الإقليمي للصناعات الثقافية والإبداعية. وهذا ما تشدد عليه مديرة المعرض ديالا نسيبة، إذ تقول: "نركز في فن أبوظبي على الاستثمار في الفنانين الإماراتيين، وتمثيل فناني دولة الإمارات العربية المتحدة في صالات المعرض، وعرض أعمال هؤلاء الفنانين في الملتقيات الدولية، فضلاً عن التعاون مع العديد من القيّمين الفنيين على إقامة عروض تدوم حتى بعد اختتام المعرض، وهذا أمر يعود بالنفع على البيئة الفنية في المنطقة".
Abu Dhabi Art
أعمال حرفية تحتفي بالموروث الثقافي في المنطقة.
من الواضح أن ملتقى فن أبوظبي لا يشبه المعارض الفنية الغربية، لأن جذوره الثقافية مختلفة وتركز على البيئة المحلية. ولا مبادرة تجسد ذلك بجلاء مثل المبادرة السنوية "آفاق الفنانين الناشئين"، التي تعد جزءًا لا يتجزأ من هوية المعرض، وتهدف إلى تزويد ثلاثة فنانين ناشئين في دولة الإمارات العربية المتحدة بمنصة لتطوير ممارساتهم الإبداعية وتنفيذ مشاريع فنية طموحة يجري الكشف عنها في معرض فن أبوظبي.
Abu Dhabi Art
عمل تركيبي بعنوان "مقام" للفنان هاشل اللمكي.
يشرح قيّم برنامج "آفاق الفنانين الناشئين" لهذا العام، مؤرخ الفن مراد منتظمي، هذه المسألة قائلاً: "إن فن أبوظبي مثال على عالم الفن المُعولم والمترابط الذي تجاوز الأنماط القديمة للفن الوطني المقيّد بالحدود. يتبنى فنانو البرنامج، المقيمون في دولة الإمارات العربية المتحدة، منظورًا فنيًا واسعًا تتعدى صلاته الحدود الوطنية، بما يتماشى مع المخاوف البيئية الراهنة وأزمة الهجرة.
Abu Dhabi Art
عمل تركيبي بعنوان "عوالم خفية" للفنان سامو شلبي.
لذلك يبدو أن معرض فن أبوظبي يتقدم هذه الحركة العابرة للحدود، بفضل اتساع الرقعة الجغرافية التي تنحدر منها صالات العرض وأنصار الفن الذين يحجّون إلى هذا الملتقى عامًا تلو الآخر، وتحديدًا من دول أمريكا اللاتينية وآسيا".
وفي هذا السياق، زينت الأعمال المتفردة للفنانتين المها جارالله ولطيفة سعيد القسم المخصص لبرنامج آفاق الفنانين الناشئين، فيما استأثر الفنان التشكيلي المصري الفلسطيني سامو شلبي، المقيم بين دبي ولندن، بالأضواء من خلال عمله التركيبي الفني "عوالم خفية". وقد غذّى إيمان الفنان شلبي بأن "الحياة مسرح للألم، ونحن فيه جميعًا دمى" الطابع الدرامي في اللوحات التصويرية التي تصف ماضيه وألمه وعواطفه الجيّاشة، والتي أضاءت غرفة العرض المظلمة.
Abu Dhabi Art
أعمال للفنانة المها جار الله تزيّن قسم "آفاق الفنانين الناشئين"
من أنيش كابور إلى تاكاشي موراكامي
في أقسام المعرض الأخرى، قُدمت مجموعة من الأعمال التي تعود لفنانين وازنين. في قسم الفن الحديث والمعاصر على سبيل المثال، اصطف نخبة الضيوف أمام جناح "غاليري كونتينوا" Gallery Continua للاستمتاع بالمشهد المذهل لقرص أنيش كابور (3,472,000 درهم إماراتي) المتدثر بالأزرق والذهبي، والذي يجتذب سطحه العاكس الواقفين من حوله ليستدرجهم إلى عالم كابور اللوني المبهر. والجدير بالذكر هنا هو أن كابور يُعدّ أحد الفنانين المعاصرين الأكثر تأثيرًا وشهرة في زمننا، ويقترن اسمه بالأقراص المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ والتي تتمايز بألوان متعددة وعمق غير محدود، وهي مزايا تسهم في استحداث وهم بصري متغير باستمرار يشد الناظرين.
Abu Dhabi Art
لوحة بعنوان Celebration للفنانة الإماراتية نجوم الغانم.
وغير بعيد عن هذا القسم، عبّر زوّار صالة بيروتان غاليري Perrotin Gallery عن بالغ إعجابهم باللوحة القماشية المتشحة بالأبيض والأسود والتي تحمل توقيع تاكاشي موراكامي، أحد أشهر الفنانين المنحدرين من آسيا بعد الحرب. تنضوي أعمال موراكامي المختلفة تحت أسلوب "سوبرفلات" Superflat الجمالي، غير أن عمله المشارك في المعرض ينتمي إلى سلسلته الشهيرة التي تسلط الضوء على دائرة "إنسو"، الرمز الخطّي الياباني الذي يشير إلى الفراغ والوحدة واللانهاية.
Abu Dhabi Art
المشهد التطوري لقرص أنيش كابور المتدثر بالأزرق والذهبي.
في ناحية أخرى، حيث وقع التركيز على فناني أمريكا اللاتينية، تألقت فضاءات الصالتين الكولومبيتين كاسا زيريو Casa Zirio ولا كوميتا La Cometa بسلسلة من الأعمال التي تحمل توقيع الرسام التشكيلي والنحات اللاتيني الراحل فرناندو بوتيرو، الشهير بتطوير أسلوب "البوتيريّة" لتصوير شخصياته الممتلئة. بفضل طريقة عرض هذه الأعمال، استطاع الزوار التفاعل مع فن بوتيرو حسب شروطهم.
Abu Dhabi Art
أحد أعمال النحات اللاتيني الراحل فرناندو بوتيرو.
ورق محروق وأعواد أسنان وألعاب بلاستيكية
إلى جانب حضور كبار الفنانين وتنوع الموضوعات التي جرى تناولها بوساطة الأعمال الفنية، كانت السمة الأبرز في المعرض تعدد الوسائط المستخدمة في التعبير عن الرؤى الفنية المختلفة وتفردها في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، استخدمت الفنانة إميلي بيو ست طبقات من ورق الشيرامين المحروق والمغطى بصفائح ذهبية زنة 22 قيراطًا في عملها المعنون "طيات نجمية" Astral Folds والذي كان لافتًا للانتباه بقدر ما كان معقد التركيب.
Abu Dhabi Art
كريس سول يستخدم أعواد الأسنان في عمله المعنون In Contending with Shadows.
وفي الجوار، اجتذب كريس سول زوّار المعرض إلى صالة وات إف ذا وورلد WHATIFTHEWORLD من جنوب إفريقيا، وذلك بفضل استخدامه البارع لأعواد الأسنان المحروقة والسليمة في عمله المعنون In Contending with Shadows (في مصارعة الظلال) وبفضل توظيفه الذكي لسدادات القناني المهملة وأسلاك السياج الكهربائي في عمل آخر بعنوان Among All Our Interpolations (وسط المساءلات التي نختبرها).
Abu Dhabi Art © Pol Guillard
منحوتة Suspicious Ambivalences II للفنانة التونسية الأصل مريم بودربالة.
كذلك، لفت عمل الفنان ميونغ غيون يو الذي يحمل اسم The History of Forest (تاريخ الغابة) انتباه كثيرين، لاستخدامه ألياف جوز الهند في تصوير حلم سريالي يطغى عليه اللون الأخضر. وفي السياق نفسه، أثارت عفراء السويدي فضول زوار صالة "آرت بوث غاليري" Artbooth Gallery بفضل المنحوتات الغريبة اللافتة لأبواب القصور المركّبة باستخدام الألعاب البلاستيكية المذابة.
Abu Dhabi Art
عمل للفنانة إميلي بيو بعنوان Astral Folds.
أما مايكل راكوفيتز، فأضاء على العلاقة بين الفن والاستدامة في "جناح الحديقة" من خلال عمله المعنون The Invisible Enemy Should Not Exist (لا ينبغي للعدو الخفي أن يكون موجودًا) والمركّب بالكامل من الصحف العربية ومواد تغليف الأغذية.
Abu Dhabi Art
عمل مركّب من الألعاب البلاستيكية الذائبة بتوقيع عفراء السويدي.
صوب هدف واحد
مهما كان الوسيط الفني المستخدم وأيًا ما كان الفنان، فإن المعرض يواصل مساعيه لتوفير منصة دولية للمواهب المحلية، متيحًا لهم عرض أعمالهم إلى جانب بعض ألمع الأسماء على الساحة الفنية العالمية، ما يسهم في بناء تجمع فني لا مثيل له
Abu Dhabi Art
عمل بعنوان The History of Forest للفنان يونغ غيون يو.
وفي طليعة هذه الحركة الفنية تقف مدها ناندا، مؤسسة مبادرة الفنون الخيرية "آرت بي إيه بارت" Art be a Part التي نجحت في مد الجسور بين أسماء عالمية مثل النحات الإيطالي الرائد لورينزو كوين والمواهب المحلية مثل الفنانة الإماراتية مريم شرف. تدعم هذه المبادرة التي تتخذ من دبي مقرًا لها برامج التعليم الفني المسنودة من اليونيسف ومنظمة دبي العطاء التابعة لمؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية.
Abu Dhabi Art
لوحة "المرأة ذات القرط الزمردي" لفيرناندو بوتيرو.
وفي هذا تقول مدها: "تؤدي معارض مثل فن أبوظبي دورًا محوريًا في ترسيخ حضور الإمارات العربية المتحدة والمنطقة على خارطة الفن العالمية، وهي تفعل ذلك انطلاقًا من وعي شديد بأهمية السير في طريق العالمية بمعية المجتمع الفني المحلي المتنوع". وتضيف: "تتقدم المنطقة كلها بخطوات فنية كبيرة، إذ يتحرك الجميع معًا هذه المرة صوب هدف واحد".