عند أطراف وادي حنيفة الذي تحرس فضاءه الرحب مزارع نخيل وبساتين تتباهى بخضرتها، ثمة أنس تستلب الأفئدة إليه حكايات تاريخ استطاب السُكنى في أرض الدرعية، هذه الأرض التي تستفيق اليوم على صحوة عمرانية تُغدق عليها ترف مدن عالمية التكوين من دون أن تسلبها عبقًا تراثيًا أصيلاً ما فتئ يعترش جنباتها وأبنيتها النجدية العتيقة. 

فمن هذه الأرض التي نشأت عليها عاصمة الدولة السعودية الأولى وتنامت في ربوعها طموحات وأمجاد، تولد اليوم بشائر مستقبل واعد يزهو بجهود أجيال من روّاد الإبداع والأعمال والفن والثقافة.

أرض البدايات

وأنت تزور الدرعية، بداية من حيّ الطريف، الذي أدرج عام 2010 على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، ترتحل بك هنا الجولات الإرشادية بين الأبنية المبنية بطوب اللبن، والتي ما فتئت تشمخ بطوابقها المتعددة في وجه عاديات الزمن، إلى تاريخ غارق في القدم، تشكلت لبنته الأولى في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، عندما انتقل مانع المريدي بأسرته من شرقي الجزيرة العربية إلى وادي حنيفة بدعوة من ابن عمه ابن دِرع صاحب حَجر والجزعة. 

آنذاك استقر مانع بأسرته في موضعي المليبيد وغصيبة وأنشأ في أرضهما الخصبة الدرعية. ومنذ ذلك الحين، تنامت الدرعية وتعالت مكانتها بملاحم بطولية للذود عن حمى الدولة التي أسسها الإمام محمد بن سعود في عام 1727.

وإذ أُعلنت الدرعية عاصمة للدولة السعودية الأولى، تحوّلت إلى مركز حضري يضمّ أحياء جديدة يحميها سور من الهجمات، واحتلت موقع الصدارة على طريق التجارة من شرق الجزيرة إلى غربها، بموازاة تحكّمها في طريق الحج إلى مكة المكرمة، وصارت واحدًا من أهم المراكز المالية في وسط الجزيرة العربية. 

يبقى حيّ الطريف أحد أكبر الأحياء المبنية بطوب اللبن في العالم.

Thamer alahmadi

يبقى حيّ الطريف أحد أكبر الأحياء المبنية بطوب اللبن في العالم.

في زوايا الحيّ الذي يُعد اليوم أحد أهم المواقع التراثية في المملكة العربية السعودية، ترتسم هذه الحكايات بوحًا آسرًا يتردد صداه من قصر سلوى (مقرّ الحكم في زمن الدولة الأولى) الذي شُكلت عمارته نجدية الطابع باستخدام عناصر البيئة المحيطة مثل الطين واللبن والخشب، إلى بيت المال وسبالة موضي وغيرهما من المعالم الأثرية التي تنشط هيئة تطوير بوابة الدرعية في مساعي استعادتها وتحويلها إلى متاحف حيّة تماشيًا مع مخطط تحويل مهد المملكة العربية السعودية إلى وجهة تاريخية وثقافية نابضة بالحياة، على ما يشهد اليوم في حيّ الطريف مركز الزوّار، ومعارض العمارة النجدية والتاريخ العسكري والخيل العربي. 

تتيح الجولات الإرشادية في متاهات حيّ الطريف استكشاف معالم العمارة النجدية الأصيلة.

Diriyah

تتيح الجولات الإرشادية في متاهات حيّ الطريف استكشاف معالم العمارة النجدية الأصيلة.

طموحات تتحقق 

في عام 2017، وفي إطار تحقيق رؤية السعودية 2030، جرى الإعلان عن تأسيس هيئة تطوير بوابة الدرعية التي أوكل إليها مشروع الحفاظ على إرث الدرعية التاريخي والعمراني والثقافي، وتوثيق مكانتها رمزًا للهوية السعودية، والمضي قدمًا على طريق تطويرها بما يضمن تكريسها الوجهة التاريخية والثقافية الأولى في العالم. 

رُصد لهذا المشروع الطموح، والذي تعمل على تطويره اليوم شركة الدرعية، 63.2 مليار دولار، وانطلقت رحى العمران لتطوير بوابة الدرعية بداية من حيّ الطريف التاريخي ومطل البجيري اللذين شرعت الشركة فضاءاتهما أمام الزوّار بداية من ديسمبر عام 2022. 

وإن كان حيّ الطريف يختزل بصروحه الأثرية حكاية إنسانية عمرها ثلاثة قرون، فإن مطل البجيري المشرف عليه يشكل امتدادًا حاضرًا للحكاية إذ يتجلّى واحة تحتفي بمعاني الضيافة الأصيلة. فهنا، حيث الأبنية تتسق مع طبيعة المباني التاريخية في الدرعية، تجتمع عشرون وجهة للطعام، بينها أربعة مطاعم عالمية حائزة نجوم ميشلان، ومجموعة من المطاعم التي تتيح استكشاف مذاقات سعودية أصيلة أو معاصرة، على ما يعد به على سبيل الذكر وليس الحصر مطعما "ميز" و"تكية". 

يستلهم مطلّ البجيري طابع الأبنية التاريخية في الدرعية وتحتفي وجهات الطعام فيه بمعاني الضيافة الأصيلة.

Diriyah

يستلهم مطلّ البجيري طابع الأبنية التاريخية في الدرعية وتحتفي وجهات الطعام فيه بمعاني الضيافة الأصيلة.

وتترافق هذه التجارب في المطل مع برامج ثقافية وأنشطة ترفيهية وموسيقية، تتصدرها الرقصات النجدية مثل "العرضة"، وكلها أنشطة ينضبط إيقاعها على وقع التطوير الشامل الذي تشهده الدرعية من حيث كونها مركزًا حيويًا تتلاقى فيه عراقة التراث مع أحدث مقوّمات الحياة العصرية وأسباب الرفاهية في القرن الحادي والعشرين. 

بل إن هذا التلاقي بين ثراء الماضي ورفاه اليوم في سياق تجربة متفرّدة تعكس التطور الحضاري والابتكار ضمن بيئة تاريخية أصيلة يبقى منطلقًا لمشاريع البناء والتطوير التي تشرف عليها اليوم شركة الدرعية بتوجيه من رئيس مجلس إدارتها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان. 

في وادي صفار المنبسط على مساحة 60 كيلومترًا مربعًا غربي الدرعية، والذي كان يشكل نقطة التقاء التجار والمسافرين قديمًا، تدور عجلة التطوير لاستحداث وجهة تجمع بين الأصالة والفخامة والاستدامة، وتضمّ إلى جانب عدد من الفنادق التابعة لنخبة من علامات الضيافة العالمية، ملعبًا للغولف يتكوّن من 27 حفرة ويحمل تصميمه توقيع بطل الغولف العالمي غريغ نورمان، فضلاً عن ناد ملكي للفروسية والبولو. على أن الدرعية تستضيف أيضًا العديد من البطولات في مجالات رياضية أخرى، بداية من سباق الفورمولا إي للسيارات الكهربائية، وبطولات الملاكمة. 

بموازاة ذلك، تنشط الشركة في تطوير ميدان الدرعية الذي سيشكّل عند اكتماله واحة مخصصة للمشاة تحتضن القلب النابض للمشروع بما يجتمع فيها من متاجر علامات فاخرة، ومؤسسات ثقافية، وفنادق ومساكن راقية، ومساحات مخصصة للأنشطة وأخرى للمكاتب، فضلاً عن جامع كبير مصمم على الطراز النجدي التراثي وسوق يُعنى بالمأكولات والثقافة. 

في وادي صفار غربي الدرعية، يجري العمل على إنشاء ملعب للغولف يتكوّن من 27 حفرة ويحمل تصميمه توقيع بطل الغولف العالمي غريغ نورمان.

Diriyah

في وادي صفار غربي الدرعية، يجري العمل على إنشاء ملعب للغولف يتكوّن من 27 حفرة ويحمل تصميمه توقيع بطل الغولف العالمي غريغ نورمان.

العيش في مدينة الأرض 

في المستقبل القريب، ستصبح الدرعية أرضًا لأكثر من 100 ألف من السكان والموظفين والطلاب والضيوف الذين يختبرون في رحابها تجارب متكاملة تتيحها قطاعات الضيافة والثقافة والترفيه والتعليم والسكن. 

فمدينة الأرض، الرفيعة بأصلها وأصالتها، مدينة مبنية للإنسان وتستمد تمايزها من روحها التاريخية وشموخ مؤسسيها الأوائل وتواضعهم، بقدر ما تستلهم جماليات بيئتها الطبيعية لتنأى بمريديها عن تكلف المدن المصممة للسيارات وناطحات السحاب والمصانع. 

الفندق التراثي "باب سمحان" المرتقب افتتاحه في الربع الأخير من هذا العام في الدرعية، والذي يحتضن 106 غرف و28 جناحًا فاخرًا مصممة على الطراز النجدي.

Diriyah

الفندق التراثي "باب سمحان" المرتقب افتتاحه في الربع الأخير من هذا العام في الدرعية، والذي يحتضن 106 غرف و28 جناحًا فاخرًا مصممة على الطراز النجدي.

إنها مدينة حيّة تستشرف مستقبل عيش مثالي في منشآت عصرية مستدامة وذكية وصديقة للبيئة ولكن لا تتنكّر لروح الماضي. وتشمل هذه المنشآت، إلى جانب مشروع الزلال متعدد الاستخدامات (الذي أعلن عنه في شهر أبريل الفائت والذي يضم مباني مكتبية ومساحات تجارية)، تشمل مساكن فاخرة في طليعتها أول مشروع لعلامة الريتز – كارلتون ريزيدنسز في المملكة والذي يضم 106 فيلات فاخرة صُممت على الطراز المعماري النجدي، ومساكن كورينثيا الدرعية التي تحمل توقيع المصمم العالمي الشهير بيار إيف روشون، ومساكن باكارا ريزيدنس الدرعية التي تناغم بين العمارة النجدية والأسلوب التصميمي الفرنسي. 

أما ضيوف مدينة الأرض، فستُتاح لهم الفرصة لاختبار العيش فيها وإن مؤقتًا من خلال التجارب التي يتيحها أكثر من 40 فندقًا مزمع إنشاؤها في مشروع الدرعية ووادي صفار في سياق يعيد تعريف مفهوم السياحة الفاخرة في عصرنا الحالي بتوجيه من روح التراث. 

علامة فورسيزونز تستقدم أسلوبها المتميّز في الضيافة إلى الدرعية، حيث سيضمّ فندقها 150 فسحة للإقامة.

Diriyah

علامة فورسيزونز تستقدم أسلوبها المتميّز في الضيافة إلى الدرعية، حيث سيضمّ فندقها 150 فسحة للإقامة.

وتشمل ملكيات الضيافة التي جرى الإعلان عنها فنادق لعلامات الريتز – كارلتون، وفورسيزونز، وروزوود، وأرماني، ورافلز، وأوبيروي، وأمان، وسيكس سينسز، وذا تشيدي. 

وفيما تطلق علامة فوشون أيضًا أول فندق لها في منطقة الشرق الأوسط بالدرعية، شأنها في ذلك شأن أورينت إكسبرس، نترقب في الربع الأخير من هذا العام افتتاح الفندق التراثي "باب سمحان" المصمم على الطراز النجدي والذي يحتل موقعًا متفردًا يحيط به وادي حنيفة ومطل البجيري وفي الجهة المقابلة مركز الدرعية لفنون المستقبل. 

ومن المخطط له أن يحتضن الفندق 106 غرف و28 جناحًا فاخرًا، تتكامل تجربة العيش فيها بناد صحي ومسبح داخلي، ومركز للياقة البدنية، وغرف اجتماعات وقاعة احتفالات، فضلاً عن مطعمين يدير أحدهما الطاهي الشهير مايكل مينا. 

مساكن الريتز – كارلتون في قلب الدرعية تجمع بين التطور التقني وأسلوب العمارة النجدية، متيحة تجربة عيش تستحضر أصالة الموروث التاريخي.

Diriyah

مساكن الريتز – كارلتون في قلب الدرعية تجمع بين التطور التقني وأسلوب العمارة النجدية، متيحة تجربة عيش تستحضر أصالة الموروث التاريخي.

فضاءات إبداعية 

في عام 2021، أقيمت النسخة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر في حيّ جاكس بمدينة الدرعية التاريخية، فكان هذا الحدث الذي نُظّم تحت شعار "تتبع الحجارة" نقطة انطلاق محفل أثرى مشهد الفن المعاصر في المملكة وعزز مكانتها بوصفها حاضنة للفنون على الساحة الفنية العالمية. 

سيجري بناء دار الأوبرا الملكية في الدرعية على مساحة 45 ألف متر مربع تضم عددًا من المسارح والمرافق المختلفة، إضافة إلى مناطق خارجية مظللة ومبانٍ مستدامة.

Diriyah

سيجري بناء دار الأوبرا الملكية في الدرعية على مساحة 45 ألف متر مربع تضم عددًا من المسارح والمرافق المختلفة، إضافة إلى مناطق خارجية مظللة ومبانٍ مستدامة.

أما هذا العام، فانعقدت الدورة الثانية من البينالي تحت عنوان "ما بعد الغيث"، مستدرجة الزوّار إلى تجربة غامرة لاستكشاف مقاربة المبدعين لتاريخ المنطقة وأهمية الحفاظ على الذاكرة الإنسانية فيها وإبراز بيئتها العمرانية.  

سيشكل ميدان الدرعية عند اكتماله واحة مخصصة للمشاة تحتضن القلب النابض للمشروع بما يجتمع فيها من متاجر علامات فاخرة، ومؤسسات ثقافية، وفنادق ومساكن راقية.

Diriyah

سيشكل ميدان الدرعية عند اكتماله واحة مخصصة للمشاة تحتضن القلب النابض للمشروع بما يجتمع فيها من متاجر علامات فاخرة، ومؤسسات ثقافية، وفنادق ومساكن راقية.

وربما يكفي هذا المحفل شاهدًا على جدية المساعي لتكريس حضور الدرعية على خارطة الإبداع والفن والثقافة في العالم، هذه المساعي التي تدعمها اليوم مشاريع موازية يتقدّمها مركز الدرعية لفنون المستقبل الذي جرى إطلاقه بمبادرة من وزارة الثقافة بالتعاون مع شركة الدرعية. 

مركز الدرعية لفنون المستقبل الذي يجمع بين الفن والعلوم والتكنولوجيا.

Diriyah

مركز الدرعية لفنون المستقبل الذي يجمع بين الفن والعلوم والتكنولوجيا.

يجمع هذا المركز بين الفن والعلوم والتكنولوجيا ويهدف إلى توفير فرص تعليمية وبحثية في مجال الفنون والاضطلاع بدور ريادي في تطوير ممارسات فنية جديدة تتشكّل من خلالها ملامح مستقبل الفن. 

يجري العمل أيضًا على استكمال أعمال إنشاء دار الأوبرا الملكية في الدرعية، وهي أول دار أوبرا في المملكة، تولّت تصميمها شركة سنوهيتا المعمارية النرويجية بالتعاون مع الهيئة الملكية لمدينة الرياض، وسيجري بناؤها على مساحة 45 ألف متر مربع (بطاقة استيعابية تصل إلى 3,500 شخص) وتضمينها عددًا من المسارح والمرافق المختلفة، إضافة إلى مناطق خارجية مظللة ومبانٍ مستدامة.  

سيقدم مشروع الدرعية أرينا، الذي يستلهم تصاميمه من العمارة النجدية التقليدية والبيئة الجيولوجية المحيطة، تجربة ترفيهية وثقافية متكاملة.

Diriyah

سيقدم مشروع الدرعية أرينا، الذي يستلهم تصاميمه من العمارة النجدية التقليدية والبيئة الجيولوجية المحيطة، تجربة ترفيهية وثقافية متكاملة.

وثمة مشروع عالمي آخر قيد الإنشاء هو "الدرعية أرينا" الذي سيشغل مساحة 76 ألف متر مربع (بسعة 20 ألف مقعد) ويشكل واحدًا من أكبر المواقع الترفيهية والثقافية في منطقة الشرق الأوسط.

إذ نتهيّأ للاحتفاء أواخر هذا الشهر باليوم الوطني السعودي، نتطلع إلى الدرعية التي تتجاوز حدود كونها مشروعًا تطويريًا لتتجلّى شاهدًا على التزام المملكة الحفاظ على إرثها بموازاة المضي قدمًا نحو مستقبل زاخر بالإمكانيات الواعدة. 

فعلى هذه الأرض، من شوارع حيّ الطريف المستعاد إلى معالم الجذب الحديثة في بوّابة الدرعية، تحتشد الشواهد على تلاحم التاريخ والحداثة في سياق رؤية تثمّن صون التقاليد بقدر ما تدفع بحدود الممكن أمام الابتكار.